قراءات نقدية

تسريد المستقبل

حمد حاجيبالمجموعة القصصية (ما بعد الخريف) للقاص عبد الكريم الساعدي

أولاً: تسريد المستقبل أيّ معنى؟

 مقدمة: يذهب البعض إلى أن الماضي والحاضر هما من ضرورات المستقبل بل وأكثر يعتبر أنهما من متطلبات النظر للمستقبل : كما لو كان الحاضر نتيجة للمستقبل.. وأبسط الرؤى تنظر إليه على أنه أي أنّ المستقبل يصنع من ماضٍ فتَّتَتْه لحظات الحاضر.. كما لو كانت الوقائع ترتيبا بدقة شديدة لسيناريوهات مستقبلية تقوم مقام النتائج لأسباب الحاضر..

لكن قصة (ما بعد الخريف).. بتقديري تقول أن الماضي يأتي من المستقبل..

هذا ما سأحاول التدليل عليه؟

قبل البدء

إذا انطلقنا من المحتمل والممكن لا من الحاصل والمنجز بالنص القصصي.. من أنّ تسريد المستقبل ينهض برمته على الخيال المحض..

ومن افتراض أن هذه المجموعة عمدت إلى صناعة ذاكرة للمستقبل، جعلتها حاضرة في اللحظة الراهنة (لحظة الكتابة)..

وإذا انطلقنا من افتراض أن القاص قد قام بتسريد أحداث ماضية لكنها بنفس الوقت تجري استعادتها في تداخل زمني يذيب الفواصل بين الأزمنة ويعيد بناءها من جديد..

فما هي الأسباب التي حملت القاص عبد الكريم الساعدي على تحويل المستقبل إلى نص سردي؟

وما هي آفاق التخييل بهذه المجموعة؟

أولا : تناص العتبة وتسريد المستقبل:

وحتى أبرهن على تسريد المستقبل ابدأ من العنوان للمجموعة ..

إنّ المجموعة القصصية (ما بعد الخريف) تذكرني بروايتين “عالم جديد شجاع” للإنجليزي ألدوس هسكلي، ورواية “أخبار ليست من أي مكان” لويليام موريس . واللتان تضطلعان برؤية سردية تستشرف المستقبل..

ومن العنوان أيضا (ما بعد الخريف) الذي اقترحه القاص تنفتح آفاق وتناصات مع روايات المستقبل (أو الروايات المضادة لليوتوبيا) من مثل رواية “نحن” للروسي يفغيني زمياتين.. والذي لا يغيب عن القراء مدى اهتمامها بتسريد المستقبل..

ولعلني أعد مجموعة (ما بعد الخريف) تتمة لرواية الإنجليزي جورج أورويل برواية “1984” ورواية “فهرنهايت 451” لراي برادبوري..

وإنّي أجد كثيراً من شخصيات القصص القصيرة بـ (ما بعد الخريف) تقترب من رواية “الواهب” للأمريكية لويس لوري ..

ولعل الأغرب بتدقيقنا لمجموعة عبد الكريم الساعدي هذا التقارب الكبير بالموضوعات فيما صدر مؤخرا برواية “استسلام” للفرنسي ميشال ويلبيك التي صدرت في عام 2015م في صبيحة حادثة شارلي إيبدو الشهيرة..

ولن أكون مشطا إذا ما أضفت أن الأستاذ عبد الكريم الساعدي عمد إلى تقديم رؤية أكثر وضوحا من رواياتٌ عربية عملت على تسريد المستقبل، وأذكر هنا الجزائريَان واسيني الأعرج بروايته“حكاية العربي الأخير 2084” للجزائري واسيني الأعرج الصادرة في عام 2015 ورواية “2084/ نهاية العالم” للجزائري بوعلام صنصال الصادرة في العام نفسه 2015، في استعارتهما لعوالم رواية جورج أورويل “1984"

هكذا من العنوان يتجلى لنا أنّ النص ينحو منحى تسريد المستقبل.

ثانياً: تسريد المستقبل اي معنى؟

يذكرنا عبد الكريم الساعدي في مجموعته القصصية برواية جورج أورويل 1984كما أسلفنا بالعتبة من جديد، من خلال التأكيد على واقعية العمل السردي بالمستقبل أي أنّ النص القصصي عند الأستاذ عبد الكريم الساعدي يسافر عبر الزمن انطلاقا من هاجس يسكن الحاضر لا بكونه يوميا بل بكونه تفكيرا بما سيعاش على نحو نتوقعه أحسن وأنضج..أو أسوء وأشد مضاضة..

فحين نقرأ عتبة العنوان (ما بعد الخريف) يبدو معيار الأفضلية مرتكزاً على بؤرة تحكمية مستقبلية هذا من ناحية بينما من ناحية تشظّي العنوان نلاحظ أنّ الكاتب يحافظ على تسريد المستقبل بما يناقض سرد اليومي والمألوف..

ومن خلال قراءة مجمل القصص المنشورة نجد أنّه يركن قصصه إلى عالم افتراض العلاقة بين المستقبل والذاكرة/ التاريخ. فلئن كان ما بعد الخريف هو عبارة عن تجاوز لليومي والمعيش إلى ما سيعاش على نحو قد يكون متوقعا دون الخوض في مدى أفضليته أو مدى أن يكون أسوأ،

هذا يعطي انطباعاً أن معيار معيار الأفضلية هذا أو السوء ذاك يرتكز إلى تقنية افترضها الهامش والمركزي بالنص ليقوله بطريقة ومخالفة يقع الاحتكام إليها، إنّها صياغات ورهانات المستقبل، إنّها أم القضايا : لكل قضية/ موضوع..

فإذا كانت رواية جورج أورويل يتم فيها تزييف التاريخ والذاكرة تحت مسمى وزارة الحقيقة، نألف بمجموعة ما بعد الخريف وعلى امتداد القصص المنثورة تباعا بشكل أو بآخر، أنّ الأستاذ عبد الكريم الساعدي يسعى الى إرباك المستقبل فمن خلال تقنية بالسرد السينمائي التلصيق حيناً والتفتيت للأحداث والشخصيات مما يضفي على نصوصه ظواهر المحو والتزييف.. تؤسس لرؤية مخالفة لما هو المستقبل؟

وهذا نجده من خلال إثبات تفاصيل التفاصيل..

فأنت حين تقرأ القصة () ترى أنّ الاحتفال بالقارئ المتلقي يكون بالذهاب به رأساً إلى المستقبل ولكن بطريقة سردية تضمن تحصين ذاكرته ، وأثناء حفظ الذاكرة يحقق السارد حفظها ضمانا لمستقبل آمن..

ففي قصة (رجل من ورق) يحصن السارد ذاكرة الفطرة [ولمّا علا التصفيق والصفير، لا أدري لِمَ كان يخيل إليّ إنّها خرجت من فجّ إبليس،] هنا هو التخييل واستحضار الذاكرة.

ففي قصة (ليلة احتضار النور) يحصن السارد ذاكرة الوفاق لننظر هذا المقطع الذي يصور امتداد المستقبل خطوات الليل المستقبل بالماضي [كانت خطواتي قاتمة في غمرة الليل ، ليل يحكي في السرّ حقيقة فضائح سنين عقيمة، استطالت فيها ليالي الظلم [

ففي قصة (شارع المعبد الغريب) يحصن السارد ذاكرة الوطن المشترك ونلحظ المستقبل يؤسس للماضي من خلال تجميع الأتي ونثره على تفاصيل الماضي اي روعة لهذا المقطع [لم يعد الليل يتسع للتفاصيل، عَبدة هاجرت حواسها، إله مسجّى ، متجهّم ، مخلوقات غريبة تنعب، ذباب يصفعه الطنين، سنّارة تحلم بأجساد عارية.

وفي قصة (هي ذات الروائح) يحصن السارد ذاكرة الهوية وهوية الذاكرة.. من خلال استحضار المستقبل الذي يمد ظلاله على الماضي [يمضي الجميع إلى حيث التلال .... منذ الأسبوع الماضي ، المدينة كالثكلى ...، ذات ليلة وبعد تراكم القلق والخوف ولوثة من جنون ، وتكاثف صور أشباح وصراخ موهوم ، سمع عواء كلاب سائبة عند أطراف المدينة أطفأ ما تبقى من الأحلام].. فالاستدلال واضح هنا المستقبل (منذ الأسبوع /ذات ليلة ) لنصل بالنهاية إلى الأحلام المستقبلية (أطفأ ما تبقى من الأحلام)

ففي قصة (ما بعد الخريف) يؤسس السارد لاسترجاع ما تلف من الذاكرة المنسية لانه بضياعها يكون قد أتلف جزءا من المستقبل.. يطارد المستقبل ماضيه ما تبقى منسيا..لننظر هذا المقطع: (الوقت أوائل الشتاء، غيوم سود عابرة في عرض السماء، فجأة تظهر سحابة أخرى من جهة الغرب، تهشّ وجه الشمس بدخان كثيف، تمدّ أذرعاً اتخذت شكل الأعاصير، تطارد ما ابقّى من أقمار معلّقة بسقف سماء تمور بمخاوفها)

ثالثا: مبادئ تسريد المستقبل

عمد القاص عبد الكريم الساعدي إلى تسريد المستقبل بان جعل من الذاكرة مادة وموقفا، وليس قيمة وبعدا جماليا ونجدها على أربع مواقف ظاهرة :

1- تسريد المستقبل لا يقترن إلا بقضية، ترحل عبر الزمن انطلاقا من موقف يومي يسكن الحاضر.

2-  الماضي يأتي من المستقبل: كما بيننا بالحديث عن الذاكرة وإحيائها بالعنصر الثاني.

 3- الفلسفة الباحثة عن الإجابة المتحولة إلى سؤال وجودي نضرب مثالاً هنا بموضوع الموت الذي يراه القاص ساكنا بالمستقبل، على حد تعبيرات هيدجر: “أن توجد يعني أن توجد باتجاه الموت"

4 - الانزياح التداولي إذ تنزاح الذاكرة عن كونها مجرد أحداث ماضية تتم استعادتها حين الكتابة بالزمن الحاضر، لتصير مادة خاما تخيلية توهم بالواقع..

خاتمة

هكذا عمد الأستاذ عبد الكريم الساعدي إلى تسريد المستقبل بقضية كان فتَّتها بمجمل قصصه بالمجموعة، في قطار السرد يقوم برحلة عبر الزمن انطلاقا من موضوع يقترحه ويكون بالضرورة يسكن الحاضر، ولكنّه غير معني وغير مشغول بالمستقبل العادي وليس أصلاً محتفياً باليومي التافه، وإنّما هو مجمل التفكير في المستقبل على نحو متوقع بأفضلية قصوى أو بانحدار إلى أسوأ، ومعيار الأفضلية هذا أو السوء يرتكز إلى القضية الموضوع، أي أنّه استنطاق لذلك المألوف في زمن مُفارِق للحظة الكتابة، وإنّ طابق زمن القراءة في زمن آخر.

ولكنّ الغريب بالمجموعة القصصية والذي على اساسه اعتبرت المجموعة تسريد المستقبل أن جل النصوص يبني فيها الكاتب الأحداث على أساس أنّ الماضي يأتي من المستقبل..

على عكس ما هو معهود بالسردية العربية والبديهي الفيزيائي إنّ الماضي يصنع المستقبل بالضرورة، فلقد أوجد نمطاً من السرد يبني العلاقة بين الماضي والمستقبل ليس من كونها عملية تراتبية، وإنّما لأنّها تبادلية، أي أنّ الماضي مصنوع من المستقبل

وتلك هي الفكرة التي وجدتها بالمجموعة وقد تستغربون

اقرأوا المجموعة .. (ما بعد الخريف) للقاص عبدالكريم الساعدي

 

د. حمد حاجي/ أستاذ الأدب المقارن في جامعة السوربون

 

في المثقف اليوم