قراءات نقدية

الفضاء.. قراءة في رواية: صوت خافت جداً لـسعد سعيد

(إلى الأرواح المعذبة على هذه الأرض)، (هو قدرنا.. أن نلتقي بلا تخطيط، ونعجز عن اللقاء حين نريد).

سجلت رواية (صوت خافت جداً) هذه الأفتتحاية التي تشير إلى الأمل، والعذاب، والأنتظار، والشجن، والماضي، والحاضر، والمستقبل المجهول للبطلة سفانة.

رواية مزدوجة، أي أنها كتابة ذكورية بسرد أنثوي، لتقترب إلى فكرة الكتابة النسوية أكثر منها ذكورية، إلا أن (آنا الأخر) تجتهد في أثبات ذاتها، وهذا ما نتلمسه في رواية الروائي (سعد سعيد).

والفضاء الروائي: هو تشكيل يتخذ تكوينه من جملة مكملات ثانوية.

وفضاء الرواية يدور حول دائرة مغلقة، وهي أقرب إلى الكتابة الدورانية، التي تنحصر ضمن نطاق شخصيات محددة،لاتتجدد .

هذا الدوران أنتج معادلة أقرب إلى المعادلة الرياضية، وضبطها إما بـ (الجمع، أو الطرح، أو القسمة، أو الضرب)، لذا فالفضاء الروائي يمثل العقل والتقنية المبرمجة لهيكلية المتن السردي؛ لأنه بنية خاضعة لقوانين اللغة وانضمتها، وبنائه داخلي وخارجي، أي لا يمكن أن ينحصر في زاوية بناء واحدة.

أغلق الفضاء الروائي على بنية مححدة، احداث محددة، الأمر الي أسهم في غلق فكرة تكوين فضاء خارج فضاء الأحداث المتاحة، لينحصر المشهد ضمن شخصيات محددة، تعيش ضمن نمطية حياة يومية روتينية، بعضها يشكو من فقر العيش، والآخر يعيش رغده.

ويمثل- الفضاء-  المساحة التي ينثر الروائي عن طريقها فكرة متنه السردي.

وهي رواية تأخذ فكرة الصمت عنواناً لها، والحب من جهة آخرى، وتؤكد على (النئيم ) " ساد صمت هذه المرة، قبل أن يسمعها تقول:

-  لن أستطيع الشرح الآن .. سأخبرك حين نلتقي.

-  ومتى سنلتقي؟

ساد صمت كرة اخرى قبل أن تقول بعد لحظات"

.وصيغت عنونة غلافها بألوان ذات رمزية عالية، فـ (الصوت) خط باللون الأبيض الذي يرمز إلى النقاء والصفاء، وهو نقاء وحب (سفانة) المعذبة، الذي يقابل بالرفض والعجز من (الدكتور فارس)، لتبقى اسيرة الحب من طرف واحد، و(خافت) خط باللون الأصفر وهو مناقض إلى السعادة والفرح ليكون أرتباطه بالشجن، و(جداً) خط بالبرتقالي المحمر، ليشير إلى الأنتباه.

ففكرة الرواية وطريقة نقل الأحداث هي أقرب إلى رواية الأخرى(المرأة)، ذكاء الروائي سجل في رصده هذه الثيمة ومحاولة نقل أوجاعها بقلم ذكوري.

ركزت بناء سردها على البطلة (سفانة)، وهي الراوي العليم، التي تسرد أوجاعها عن طريق الكاتب، الذي يمثل حظوره بالرقيب المتواري وراء الأحداث، يشاهد سير الأحداث عن طريق بطلته المعذبة، التي عانت الفقر والجوع والحرمان من رغد الحياة وجمالها، الذي حرمها ايضاً من العشق والحب الحلال مع الدكتور(فارس)، وممارسة المحرم مع الجار الخاوي العجوز .

مما اضطرها- سفانة-  إلى البقاء" محتشمة بملابسها حتى في البيت؛ لأنها أدركت، مرعوبة، أن ما تخاف منه خارج البيت، يمكن أن تواجهه داخله"، وخوفها كان في محله ؛ لأن " أخو سفانة تلصص عليها وهي تتعرى وتلتذ بعريها المحرم"، ودفعها فعله المدنس هذا إلى أن تهرع " لتغطي نفسها بأقرب غطاء وتجلس على الفراش من هولة بأكتشافها أن اخيها كان يراقبها بشهوة، فبكت"، هذا المشهد أسس لها فكرة الخوف من القريب أكثر من الغريب " كان يعني أن ما تخافه من الغرباء، يمكن أن يأتيها من اخيها.. اخوها الذي لم تتوقع أن تخاف منه يوماً، كما خافت منه لحظة مغادرته الغرفة صاغراً.. اخوها التي كانت دائماً تسعد بحقيقة وجوده حين يضايقها الآخرون في الشارع؛ لأنه هو من سيهرع إلى نجدتها، ولكن ها هو يشتهيها"، نسجت عبارات المقطع السردي بالفعل المضارع، الذي يؤكد على تشكل استمرارية الخوف لدى سفانة ؛ لأنها غدرت من اقرب الناس لها، وهو فعل محرم ومدنس، وبعيد تصوره، لكنه حدث وبواقع مرئي، مما أسس لذاتها غربة داخل غربتها، وصمتاً داخل صمتها ونئيمها.

شخوص الرواية أمتازت بجانب ثقافي، نتلمسه من حديث (سفانة) مع (الدكتور فارس)، وفهم (سفانة) ووعيها بالحلاج، وقرنت حبها بفارس، بفكرة الحلاج، قالت هذا عندما زارت قبر الحلاج وجلست تناقش فكرة الحب، مع ذاتها وتحاجج ذاتها، ليفسر لها الشيخ العجوز أن حبها يخالف حب الحلاج، فقال الشيخ:

" - لا خطورة في الأمر ياابنتي، فالعشق هو العشق.

-  ولكن شتان مابين العشق الإلهي، وعشق البشر لبعضهم

- ومن أخبرك بهذا؟.. والعشق سيّان حيث ينتاب البشر فبدا الأسى واضحاً في صوتها وهي تقول:

- أتيت إلى هنا لأرتاح، وها أنتذا تحيّرني، وتزيدني حزناً ياعم".

لكن هذا لايمنع من رصد الكثير من العبارات السردية بلغة حياة يومية معاشة، وهي لغة اللهجة العراقية العامة، منها القول:" على عنادج، إلّه أحبه واحرك افّادج"، والقول: " ويطبج مرض، عساج بالقبر.. هسة اني شعلية .. بس غير ردت اسوي خير"، وضمنت ايضاً الكثير من العبارات المبتذئة.

ونجحت الرواية في تقديم فهما لقضية المقدس الديني، وأن المقدس شيء ثابت، والإنسان هو الذي يعمد إلى صنع مقدس صناعي لذاته، ليخنق ذاته بذاته " المقدس فكرة إنسانية بحتة ولا أعتقد بأن الله له علاقة بها".

الحب من طرف واحد هو الفكرة الأساس في صياغة سردية الرواية، وهو الشجن الذي عايش البطلة، واضطرها إلى الحرمان من الحب، ومن الحياة الرغيدة، والأحتضان الأسري.

ونجحت الرواية في نقل الواقع الطبقي، والتفاوت الاجتماعي بين الأفراد، وهذا الجانب حقق نقد معلن للضغوطات الأجتماعية، والسياسية، فقالت:" أ أحدثه عن الليالي التي كنا لا نستطيع النوم فيها لأن شعورنا بالجوع يبعد الكرى عن عيوننا؟.. أم عن الاحتفاظ بلقمات كسرة الخبز التي يوزعونها علينا كعشاء أو غداءً أنسيت كيف كنا نظل نلوك بها حتى تكتسب طعماً حلواً"، ثم تعقب بالتفصيل "-  أحياناً، تصبح الطماطم والباذنجان رفاهية في بيتنا، حين يتوفران، فنقضي الوقت بتنويع وجباتنا، فيوم نأكل طماطم وباذنجان، وآخر نأكل باذنجان وطماطم".

مما تقدم يمكننا القول: إن الرواية نجحت في رصد الكثير من السلوكيات المعاشة، وربط العنونة بسردية المتن، وقسمت صياغة لغتها بين العامية العراقية، واللغة التي تحمل جانب ثقافي، وآخرى مباشرة مرفوضة (مبتذئة)، والاشارة إلى الخوف من الآخر وخلخلة الذات الموجوعة، التي لاقت الصد من حبها، مما اضطرها - سفانة-  إلى السفر بعيداً عن موطن من تحب، وجعلت القدر هو الكفيل في زرع اللقاء، وهي الفكرة الجميلة التي أفتتحت بها سردية الرواية، وانغلقت بفهمنا لمقصدية افتتاحيتها.

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم