قراءات نقدية

عفيف قاووق: قراءة في رواية: ميكروفون كاتم صوت للكاتب محمد طرزي

أن يبدأ الكاتب روايته هذه من بين أسوار المقبرة فيه من الدلالة والرمزية الشيء الكثير فقد توزع مسارها بين مقبرة الأموات المكللة بصورة الزعيم وهو يبتسم وبين المدينة مقبرة الأحياء المصادرة من ميكروفونات الزعيم الكاتمة للصوت.

لم يكتفِ الكاتب بالسرد أو استخدام اسلوب “الفلاش باك” بل ترك لنا نحن القراء مكانا في الرواية، وهذا هو الابداع الفني لأي روائي يحترم قارئه. لقد استطاع تطويع الأحداث وتوجيهها على نحو من شأنه ان تزيد قناعة القارئ بها وتجعله جزء منها؛ ولا أجافي الحقيقة إذا قلت إني عِشتُ الرواية أو جزء لا بأس به من أحداثها، مُستحضراً الأيام الأولى التي وقفناها معاً في ساحة العلم في صور أو قرب السراي في النبطية قبل غزوة الميكرفون ليكتم صوت المتظاهرين ويشتت شملهم وحلمهم ويشكك في مقاصدهم.

رواية بمثابة الصرخة المدوية أطلقها "سلطان" الحائرفي وجه السلطان الجائر، هو ذاك الفتى الذي عاش سنين عمره وفترة شبابه بين القبور ودرس المحاسبة معتقدا أنها مهنة يسهل اكتساب العيش بها، لكنه بعد التخرج لم يحظَ بوظيفة ، علما أنّ بعض زملائه الأقل ّ اجتهادًا منه "توظفّوا وتزّوجوا وصار عندن ولاد، مستنتجًا أن الحياة كلا وسايط"(ص73).

امتازت الرواية بأسلوبها الشيّق وبلغتها الصادقة البعيدة عن أي تصنع او تكلف وجاءت مطعمة باللهجة العاميّة، وقد أبدع الكاتب في وصف الأماكن بحيث تخال نفسك وكأنك تعاينها برفقة سلطان وهو يتجول ببطء بين القبور ليستقر تحت أغصان شجرة الفيكوس؛ كما يأخذك إلى حفار القبور أبو الغضب وهو يدك الأرض ليخرج من جوفها رملاً رطبًا. كما أسهب الكاتب في وصف خان الأشقر وتاريخه ومن تعاقب على إشغاله إبتداءً بالأمير فخر الدين الذي بناه، ومن بعده جاء العثمانيون وانتهاءً بالفرنسين لتستقر ملكيته أخيرا باسم المطرانية واستأجره شخص من آل الأشقر فأصبح يعرف باسم خان الأشقر.

وفيما يشبه الكوميديا السوداء يصف الكاتب حفرة القبر بأنها "صارت ممهدة وأصبح بوسع الوافد الجديد وضع رأسه مطمئنًا علّه ينعم بنومه الأبدي" (ص8).وفي موضع آخر وعندما أغلق سلطان أنفه ليتحاشى روائح النفايات المنتشرة في كل مكان بادره صديقه حسن بالقول تهكماً:" شمْ ريحة المدينة حتى تعرف نعمة المقبرة". وعندما مرَّت سيارة حزبية فوق حفرة مياه ناثرة الوحول عليهما تندر سلطان قائلاً " كل شي عنّا بالعكس حتى الشتي بيطلع طلوع" (ص76).

هي رواية ربما يصُح فيها القول "مَا لهَذَه الرواية لا تُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصتها". نظرا لتنوع وتعدد المحاور والقضايا التي أثارتها ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

1- معاناة المهاجرين وغدر المهربين بهم: تمثلت في الحال التي وصل إليها قاسم، صديق سلطان، والذي اختارالرحيل عن هذه البلد التي ما ضلّ فيها شي، علماً أنّ لا أحد يضع أبناءه في قارب موت إلاّ إذا كان البحر أكثر أمانًا من الوطن".

2- إستحضارُ الأمير فخر الدين ورغبةُ الساردِ في كتابةِ روايةٍ عنه، في محاولةٍ لإسقاط ِسيرتِه وما رافقها من تقييماتٍ مختلفة على الواقعِ اللبناني، لم يكن أبداً من قبيل الصدفة، بل ارادهَا روايةً رمزّيّةً تستلهمُ ماضيَ لبنان وحاضرَه، كونُها تظهِر إنقسامَ اللبنانيين حول مفهوم الوطن، وتآمرَ بعضِهم ضدّ بعض كما هو الحال راهنا . وليس أدلّ على هذا ما نشهدُه من تناتشِ وتكالبِ الجميعِ على هذا الوطن سواءٌ من الشرقِ القريبِ او الغربِ البعيدِ لتنفيذِ أجنداتِهم ممّا أدّى إلى اهترائِه وأصبح أشبهُ ما يكون بذاك العلمِ المهترىء الذي يترنّحُ على ساريةِ دوارِ العلم، بعد أن مزّقته رياحُ الشرقِ والغرب .

3 - ظاهرة الميكروفونات: إضافة إلى شخوصِ الروايةِ الطبيعيّين، كان الميكرفون الشخصَ المعنوي في هذا العمل الروائي، هذا الميكرفون الذي يُستخدمُ أساسًا لإيصالِ المعلومةِ إلى أكبرِ عددٍ ممكن، نجد أن أولي الأمرِ عمَدوا إلى تغيير رسالتِه، وأصبح بضجيجه وتُرَّهاتِه كاتمًا للعديد من الأصواتِ المعترضة ومبجّلاً للمعبودين من زعماءِ الأمرِ الواقع. وأصبحت المدينة ُ كغيرِها من المدن، محاصرةً بالميكرفونات فوق الأعمدةِ والمباني، ناهيك عن الميكرفونات الجوالة على السيارات ملوثةً السمعِ بأناشيدَ وخطاباتٍ لم تكن يوماً السبيلَ لخروجِ هذا الوطن من محنتِه الاقتصادية والمعيشية. . وفي هذا يصح قول غادة السّمان الذي أوردته الرواية: وطننا مقبرة بمكروفونات، ليس صالحا لغير الموت والتأبين وتطويب الخالدين وتمجيد المعبودين وكره الباقين".(ص65).

4 - أما صورة الزعيم على مدخلِ المقبرةِ، كأنها تُشيرُ إلى أن المواطنين لن يفلتوا من قبضةِ إبتسامةِ الزعيم المصطنعةِ حتى وإن ماتوا، وسيبقى الكابوسُ الذي يقُضُّ مضاجَعهم في مماتِهم كما في حياتِهم، هو دائمَ الإبتسامةِ عليهم وليس لهُم، ما دامت أصواتُ الأحياءِ والأمواتِ تصبُّ في أغلبها لصالحه في الإنتخابات. وكأني به يقول أين المفرُّ؟ فمهما حاولتم الفرارَ من سطوة إبتسامتي هذه، فإني ملاقيكم، وفي موضع آخر يعلق حسن على صورة عملاقة للزعيم تكدست تحتها كلُّ أنواع النفايات قائلاً:" إنّ الزعيم يبتسم للموت في المقبرة وللإنحطاط هنا". (ص77).

5- حركة 17 تشرين أو ثورة 17 تشرين كما يريدها سلطان: تطرّقت الرواية إلى ثورة 17 تشرين لتوثيق تلك الفترة فبعد أن تخلى المتظاهرون –ولو لفترة - عن عباءتهم الحزبية والمذهبية وتحرروا من سطوة الزعماء، حيث كانت الحناجر كلها تصدح محمّلة مسؤولية تردي الأوضاع الى كلّ الطبقة السياسية، كان للميكروفونات كاتمة الصوت الدور المؤثر في الإجهاز على ذاك الحراك؛ واستعاد ذئبُ الطائفيةِ عافيتَه ضارباً بمخالبِه في كلّ اتّجاهٍ ناهشًا ما تبقّى من لحمِ الوطن". . كانت هذه بداية النهاية لحركة 17 تشرين بالرغم من اتفاق الجميع واعترافهم بوجود الفاسد والأزعر ولكن اختلفوا فيما بينهم على المواصفات والتسميّة فكل فصيل يريد شطب إسم زعيمه من لائحة الإتهام لنصطدم بما يشبه تجهيل الفاعل.

6 - كما ان هذه الميكرفوناتِ كاتمة الصوت قد آتت أُكُلَها في تعزيزِ التحوّلاتِ الفكرية والإيدلوجيّات المستجدّةِ، ناهيك عن رغبة البعضِ وهم كُثُر في حفظِ مصالحِهم، فكان لا بدّ لهم من ركوبِ هذه الموجةِ العاتيةِ التي لا تُبقي ولا تذر، وفي هذا يقدّم لنا الكاتب نموذجاً عن تلك التحوّلات، تمثلت بعائلةِ ابي عباس اليساريّ، والذي سمع بشاعرِ إسبانيا لوركا فأعجبه الإسم واختارَه إسماً لوليده . لكن ومع تبدّلِ المناخِ السياسيِّ العام، إنقلب أبو لوركا على نفسِه وانحازَ للمقلبِ الآخرِ حفاظاً على نشاطِه التجاري. وانتقلت عدواهُ هذه إلى كل أفرادِ عائلتِه.وهكذا فعل ابنه لوركا – عازف الأكورديون - اختار لنفسه إسما بديلا هو "ساجد" وتحول إلى مُنشد دينيّ لا بل "مجاهد" ينتهي قتيلاً ِ في إحدى معارك تنظيمه وما أكثرها. أما شقيقته غيداء فقد أصبحت محجبة ترتدي عباءة سوداء لا تُظهر سوى اليدين والوجه مما دفع بسلطان للقول: سبحان مغيّر الأحوال". وأخيرًا يأتي دور الأم التي كانت دائمة المواظبة على صالونات التجميل وتصفيف الشعر، فها هي قد التحقت بالركب أيضا زاهدة في <حطام الدنيا>..

عائلة أبو عباس هذه هي عينة عن كثير من العائلات التي سارت في هذا الركب طلبا "للرزق الحلال وموفور المال"، ولكي يثبت أبو عباس ولاءه للزعيم وخلال نقاشه مع سلطان حول الوضع الاقتصادي المنهار ألقى باللائمة على ثورة 17 تشرين المدعومة أمريكيًا، واصفا مناصريها بالعملاء للخارج. وفي هذا السياق استعان الكاتب برواية "في إنتظار البرابرة" التي تحكي قصة دولة متخيّلة توهم فيها الحكومة المواطنين بغية السيطرة عليهم، بأن هناك برابرة يحاصرونهم. هذا يذكرني بمقولة لهتلر تقول : “إذا أردت السيطرة على الناس أخبرهم انهم معرضون للخطر وحذرهم من أن أمنهم تحت التهديد، ثم شكك في وطنية معارضيك". كما لم يسلم الناشطون من تتبع لصفحاتهم الفايسبوكية وهذا ما حصل مع سلطان حيث تعرض له احد الملثمين واضعاً إبهامه تحت ذقنه متوجها إليه بصوت رادع " اسمع يا خرا إذا بتنشر بعد أي بوست تحريضي ضد الزعيم رقبتك بقطعها". حدث هذا عندما شارك سلطان على صفحتة ما نشرته عريب المأمونية ومما جاء فيه: " مدينتي سجينة صرّافين وتجّار خرافة وسماسرة للموت، مدينتي إمرأة قيل لها كوني جميلة واصمتي، من ذا يقنعها أنّ أجمل ما في المرأة هوالصوت".

7- استحضرَت الروايةُ اكبرَ وأحدث جريمتين ارتكِبتا بحقِّ هذا الوطن، الأولى هي الإنهيارُ الماليّ، حيث لم تعُد الليرةُ بخير كما أوهمونا بعد إقفال المصارف وتحليقِ الأسعارِ عالياً وتفشّي البطالةِ واختفاءِ الموادِ الغذائيةِ وأيضاً الأدوية، وعادت طوابيرُ الذلّ – أو العزّ كما يحلو للبعض- امام الأفرانِ ومحطات ِالوقودِ والصيدليات . أضف إلى ذلك التوقف عن إصدار جوازاتِ السفرِ بسبب فقدان المواد اللازمة لطباعتِها.

.. الجريمة الثانية هي تفجيرُ المرفأ وفداحةُ الأضرارِ التي نجمَت وكان من ضحاياها وداد صديقةُ سلطان، حصل كل هذا تحت أعينِ الطبقةِ الحاكمةِ التي وجدَتها فرصةً سانحةً للانقضاضِ على ثوار 17 تشرين وتحميلِهِم مسؤولية هذا الانهيار. ونظرا لكثرة ما يمتلكون من ميكروفونات كاتمة لصوت الحق، استطاعوا استعادة المبادرة وإعادة كل قطيع إلى حظيرته –إذا جاز التعبير-

تبقى اشارة ولو بسيطة تطرقت لها الرواية وهي ظاهرة انتشار أندية القراءة التي انتشرت مؤخرًا في البلاد، واللافت أن الخلاف في وجهات النظر يفسد للوِّد قضية على عكس القول الشائع، بحيث أن بعض المناكفات بين أعضاء النادي الواحد أدت وتؤدي إلى تفرع هذا النادي إلى أندية، وهذه حقيقة لمستها من خلال تجربتي الشخصية حيث بدأنا اول الأمر كمجموعة متراصة ضمن ما يسمى بصالون الكتاب ونتيجة لبعض المشاحنات تفرع عن هذا الصالون ثلاث مجموعات. وهذا يشبه ما ورد في الصفحة43

بقعةُ ضوءٍ ولوخافتة، تضمّنتها الرواية وهي عدم امتثال القاضي للتشدّدِ في محاكمة حسن بناءً لرغبة من قام بتعيينه بل حكَم له بالبراءة، وفي هذا إشارةٌ الى مطلبِنا الدائم والحلم باستقلالية القضاء، وأيضا فإن انتفاضةَ سلطان الذي أفرغ جامَ غضبِه من خلال طريقة نعيِّه الأسطوريّ لصديقته وداد ، والذي أدان فيه الزعيمَ ومختارَ الزعيمِ، ومزّق صورتَه التي كانت تحجبُ العلم اللبناني المرسوم على الجدار.

وعليه، يبقى الأمل في أن يأتيَ اليومُ الذي يستفيقُ فيه هذا الشعبُ كم استفاق القاضي، ومن بعده سلطان، إنّه يوماً يَرَوْنَهُ بَعِيدًا ونراه قريبًا.

***

عفيف قاووق – لبنان

في المثقف اليوم