قراءات نقدية
تهشيم الصورة الفنية عند الشاعرة ياسمينة حسيبي
مذ أصبح العشق حادثا مؤسفا
وأنت تجرب الوقوف على ساق واحدة
تقدحك الكؤوس وتحتسيك زفرة الشك
ماء وسقسقة وشعرة فوق اللسان
فعلام تدخن جروحك في الأراجيل
وتنفث الجسد من ثقوب الروح
علام تلوح للشوق بحرير المناديل
وتطرق بابًا أقفلتْه ريح الغياب
تأتي دلالة الصورة الفنية في الشعر لتؤكد على نقل تجلياتها من المحور الشكلي الفوتغرافي الجامد الى محور ورؤية جديدة فالصورة لاتعني تكرار الشيء ذاته والا لم يكتسب المنجز الأبداعي طاقاته التأويلية التي تحقق فعل الدهشة وتجسد صنعة الإيهام المطلوب في الشعر يؤكد الجاحظ ذلك بقوله
انما الشعر صياغة وضرب من التصوير .
كما يتوجب في الصورة الفنية الشعرية طابع التكامل والترابط فهي كنسيج مؤتلف حيث يعرضها اية تصدع او حذف بجزء منها الى انهيار أشراقاتها التأويلية .
يذكر الجرجاني في أسرار البلاغة . فأنك تجد الصورة المعمولة فيها كلما كانت أجزاؤها أشد إختلافا في الشكل والهيئة ثم كان التلائم بينهما مع ذلك أتم والأئتلاف أبين كان شأنها أعجب والحذق لمصورها أوجب . لكون الصورة الفنية لها أثر في المتلقي من حيث تحقيق الدهشة وتحفيز الخيال وجذب المتلقي الى استكناه النص وفهم معانيه .
ويقسم ابو الفتح ضياء الدين ت .٦٣٧ ه الصورة من حيث التشبيه الحسي الى أربعة أقسام ثلاثة تخص الصورة والرابع منهما يخص التشبيه المفرد فيقول ان الاول تشبيه صورة لصورة والثاني تشبيه معنى بصورة والثالث تشبيه صورة بمعنى حيث تقترب شاعرتنا ياسمينة حسيبي من توظيف الشكل الثاني من حيث كونه الاقدر والأجدر على توظيف المعاني الموهومة بالصورة المشاهدة . ويعرف الشريف الجرجاني الصورة بانها صورة الشيء مابه يحصل الشيء بالفعل .
أما تعريف الصورة في تنظيرات علم الجمال من ان الغاية في الفن ليست في محاكاة الطبيعة وانما هي في تمثل طبيعة وهمية. فهو ذلك الأندماج الوجداني مع مفردات الكون وشيئياته لتغيير حالات التشكيل السلبي الجامد للعلاقات الفكرية بين اللغة والصور واعادة تمثيلها ومنحها علاقات وطاقات تأويلية جديدة لشكيل إضافة وفهم جديد للوجود الأنساني . وفي مجال علم النفس تحدد الصورة بأعتبارها إعادة انتاج عقلية لذكرى أو تجربة عاطفية او إدراكية عابرة ليست بالضرورة بصرية .
فتأتي الصورة الفنية لتعبر عن الشعور والفكرة التي تضطرم في النفس فالشعور لوحة داكنة من دون ان يتشكل في إشراقة صورة فنية او لمحة خاطرة فمن اجل ان نقيم لوحة شعرية
لابد من تعاضد الخيال وتماهيه في اللغة لتحقيق ذلك الأنسجام الجمالي والتعالق الوثيق في شكل فني منظم فالشعر خيال وصنعة ولابد ان يكون الشاعر قادرا على صنعة التصوير وبلاغة التفجير الدلالي سابرا عوالمه الذاتية قادرا على إستكناه مشاعره .
يذكر الناقد الروسي شلوفسكي .ان الشاعر لايخلق الصورة والخيالات وانما يجدها امامه فيلتقطها من اللغة العادية . وحسب مقدرة الشاعر يقوم بتحويلها الى لغة غير عادية عبر إبتكار العلاقات الجديدة وتفجير دلالاتها من دون أن نتمثلها ضرورة شيئا عيانيا حاصل في المكان، كما يذكر الدكتور عز الدين اسماعيل حيث يكون الأستخدام بعيدا عن الواقع مما يوقع الغموض وذلك لأن العلاقة بين الكلمة والواقعة في الشعر أكثر غموضا وبعدا من العلاقة بين الصورة والشيء المصور .
جاءت تراكيب الصور الفنية عند الشاعرة ياسمينة حسيبي في هذا النص الكثيف والعميق عبر الجمع بين حالات وحقائق تتباين في إقترابها وإبتعادها قلة وكثرة ...
فالصورة عند الشاعرة إبتكار ذهني خلاق فتنضج عبر تلك الصور الفنية الشعرية علاقات جديدة بين أفكار ورؤى تتجاذب أطراف المحنة والشوق والأندماج بشيئيات الوجود فيأتي عروج البوح من خلال آلية التمهيد والأسترسال النفسي المعاتب من طرف خفي .. تظهير .. ..
منذ أصبح العشق حادثا مؤسفا
وأنت تجرب الوقوف على ساق واحدة .
حيث سبك التوجع متماهيا بالوجدان وان كان منتزعا من تمظهرات الواقع فهو صناعة مخلوقة بأتقان لغوي خلاق حيث يأتي الوقوف على ساق واحدة لتعميق حالة المحنة وعسر ولادة الزمن بتجليات الخيبة والفقد في سيريهما الوئيد المترنح مع عمق المأساة التي ترسمها الصورة فليس دوما ان يكون المرئي ممثلا للحسي بأنطباقية كاملة فالصورة المرئية ليست دائما هي الصورة المرئية مثلما يؤكد د. عز الدين اسماعيل . فنحن في الشعر نتمثل الأشياء بالكلمات والملفوظات فهي أدوات بيد الشاعر لنحت الصور الفنية الشعرية وإتقان المعنى المبهر .... ثم تأتي صور مدهشة في النص كقولها ..تقدحك الكؤوس .. تحتسيك زفرة الشك... عبر هذه التجليات تمكنت الشاعرة من رصد حالات تغييب الكائن الشخص وإختزالها في صور فنية تتسم بالدهشة وحركية المشهد الجواني للنفس عبر تراكيب صور تجعل الحالة النفسية والوجدانية في حالة إستغراق كامل ضمن فضاءات الضياع والتيه والفقد فتحتشد صور المغالبة التي تمثلت في الكؤوس ومراودتها بأستمرار لتتماهى مع زفرات الشك والألم لتحتسي مابقي من ظلال الكائن وتصرمه الذاتي والكينوني في عبثية الأشياء وفداحة الضياع واللامبالاة .
فقد برعت الشاعرة ياسمينة في إتقان صنع صورها الباذخة في الجمال والسامقة في المعنى المؤثر حيث يحقق الدهشة اثر صورة مهشمة تملي على القاريء الحصيف اعادة انتاج وتوليف العلاقات الفكرية لفهم المغزى الجديد فقاريء الشعر الحديث يجب ان يكون له مقدرة على تفكيك الشفرات و تفسير الخطاب لأنها نصوص تقوم على تهشيم الصور وانتاج علاقات ذهنية تتسم بالغرابة والغموض .
فالشاعرة ياسمينة حسيبي تتقن صنع الصورة الفنية حيث يكون الشعور عندها هو بؤرة الصورة وكينونتها الفاعلة وطاقتها التأويلية وقابليتها الزئبقية على التخفي والأظهار.. تظهير ....
فعلام تدخن جروحك في الأراجيل
وتنفث الجسد من ثقوب الروح
علام تلوح للشوق بحرير المناديل
وتطرق بابا أقفلته ريح الغياب...
نلمح الشاعرة وهي تواصل تهشيم الصور الفنية
عبر هجرتها وظائفها المعهودة الى وظائف تتعالى نحو التجريدي والمعنوي والذهني والعمل على وظيفة التشبيه لصتع الصورة الفنية المدهشة
من خلال تشبيه المعنى في الصورة ..تدخن جروحك.. عمق المأساة وتماهي الوجع في صورة الأراجيل وهي تطلق أمواج المواجع كهالات دخان يتصاعد من جراحات الكائن المجهول الذي يمثل كائن اليوم المشوش والمضطرب ويتواصل حشد الصور وتعميق المأساة مع مقطع ..تنفث الجسد من ثقوب الروح
فالشاعرة قد أستبدلت الوظأئف بين الروح والجسد فالروح لها لطافتها وشفافيتها وأشراقتها والجسم له كثافته وثقله وظلاميته فكيف حصل التبادل بين الوظيفتين وهذا هو مكمن ابداع الخيال وصنعة الشعر فقد تماهى امتزاج القهر والتوجع بين الروح والجسد وأضحت الحالة واحدة لا إفتراق بين الجسم والروح وأضحى كل منهما هو كون الآخر عبر فداحة الفجيعة والألم ووصل الأسى الى أغوار الروح فأضحى الجسد روحا والروح جسدا فلا غرابة من ان ينفث دخان الجسد بصورة الأحتراق الجواني للطافته عبر ثقوب الروح وهي صورة غاية في الروعة والأشتغال في تعريف الأشياء بضدياتها والتمكن من تهشيم المألوف من علاقات الصور وانتاج دلالات المغايرة في الفهم
لقد جاء المقطع الأخير في النص الشعري ليبرر حالات الأستفهام الأستنكاري المتكرر فما يجري في فضاء النص يجري خارج متطلبات الضرورة لأنه يلح في الطرق على بوابات النهاية والغياب من دون جدوى .
بقلم: ظاهر حبيب الكلابي
.......................
المصادر
- الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنيةةالمعنوية للدكتور عز الدين اسماعيل..
- أسرار البلاغة عبد القاهر الجرجاني .
- التعريفات للشريف الجرجاني..