قراءات نقدية

لغة الجسد.. عبد الوهاب البياتي أنموذجاً

كل شيء في الوجود له عالمه الخاص به، ولغته التي تميزه عن غيره من الأشياء، فالإنسان كائن بيوثقافي يمتلك لغته الخاصة به وعالمه المميز الذي يعيشه، وكذا الجماد-ككل- والحيوان لهم عالمهم الخاص بهم، ليتوافق الجسد مع لغات العالم جميعها ويمتلك لغة خيالية صامتة ناطقة للجميع، وتنتظر من يفك قيود الغازها وسحرها.

الجسد: ركيزة أساس تدور حوله الأعمال الأدبية -شعراً، قصةً، روايةً...الخ- إذ يعد غاية لأختراق المحرم، وقد استطاع جيل الحداثة الشعرية العربية، أن يوظف الجسد داخل الأعمال الأدبية، لإضفاء معنى ايروتيكي جديد.

ومن المتعارف عليه في اوساطنا الأدبية والثقافية، إن الجسد شكل أهمية كبيرة في حياة الناس؛ لأنه ذا قيمة روحية كبيرة، فالحديث عنه أجده مرهوناً بالمناسبة، فكما نعلم أن لكل حادث حديثاً، أي أن الشاعر لا ينفرد بالحديث عن الجنس فقط، إنما يربطه بالجسد؛ لأن الجسد لغة رشيقة ناطقة بذاتها، وداخل ذاتها.

وهو تعبير رمزي يوظفه الشعر الحديث ليكشف انزياحات الزمن عن طريق تنوع الثقافات، وهو نص له قيمة ثقافية قبل أن يكون ذا قيمة جمالية، وهذه العلاقة الثقافية لا تتحقق دلالتها إلا عن طريق سياقها الذي أنتجها أول مرة، وهو مصطلح يوحي بموقف ايديولوجي، واختراقه يعد عملاً ثقافياً جاداً؛ لأنه عملاً من أعمال المثقف.

عبد الوهاب البياتي، ينتمي إلى جيل الحداثة الشعرية، من رواد المدرسة الشعرية، شعره متعدد اللغات؛ لأنه نابع من عالمية خاصة به، ورحلات سفر عدّة، خاضها الشاعر، بين اسبانيا التي اشتركت في بناء الكثير من نماذجه الشعرية، وهذا ينم عن وعي متقدم للشاعر، وثقافة شعرية، صاغ قصائده عن طريقها، وهذا هو اسلوب شعراء الحداثة أغلبهم، فشعرهم جاء مزيجاً للحداثة الناطقة بلغة الممنوع، والمجردة لذاتها من قيد النمط التقليدي الكتابي.

يقول في قصيدة (صلوات):

انني استنشق الهواء العذب الخارج من فمك

وأتأمل كل يوم في جمالك

وأمنيتي هي أن اسمع صوتك الحبيب

الذي يشبه حفيف ريح الشمال

إن الحب سيُعيد الشباب إلى أطرافي

أعطني يدك التي تمسك بروحك

وسوف احتضنها واعيش بها

نادني بأسمي مرة وإلى الأبد

لن يصدر نداؤك ابداَ بلا إجابة عنه

وقال لي

أنك ستحترق بنار صوتك

وستغدو رمادا

مثل كريم

لغة النص مفتوحة على نافذة المباشرة، ليعبر عن طريقها البياتي عمّا يغازل دواخله من صراعات نفسية واضطرابات شبقية، وجنسية متوهجة، (انني استنشق الهواء العذب الخارج من فمك)عن طريق عملية ابداعية نقلت تصورات الشاعر على أكثر من مستوى، وتعمق نحو الكتابة الإيروسية ذات اللغة الشهوانية، فشعرية مثل هذه القصائد شعرية سردية قائمة على إساس الملاحقة، إذ وظف الشاعر عبارة (أتأمل كل يوم في جمالك)، وهي جملة تدل على رمزية الذات المعذبة من الطرف الآخر، (وأمنيتي هي أن أسمع صوتك الحبيب) ذات الشاعر هنا ترتقب الأمنيات المؤجلة العالقة تحت محطة الأنتظار المميت؛ لأنه هو الذي يراقب، ويتأمل، ويحاكي ذاته بذاته، فالنص عكس الصورة المتولدة من الملاحقة وتحولالت المشهد.

وجاءت لغة النص الشعري بسيطة وغير متكلفة، إذ ابتعدت عن جفوة البلاغة وثقلها، فالنص يأخذ مفرداته من الجسد والروح الأنثوية، وما يسجل على النص هو أن الشاعر أجدهُ يعمد إلى خلخلة الثابت من القيم الثقافية المكبوت عنها، يجعل اللغة الشعرية وسيلة تعبير أكثر منها وسيلة بناء، (أعطني يدك التي تمسك بروحك) لتكون وسادته المتعبة الموجوعة المتألمة(وسوف احتضنها واعيش بها).

ومن جانب اخر نجد تحولاً في مسار الحديث من المباشر غير المعلن، إلى الجنس المعلن، إذ تتحول القصيدة-صلوات- إلى المراقبة، وشكل المراقبة تمثيل للرغبة وعدم المبالاة

(أنك ستحترق بنار صوتك

وستغدو رمادا

مثل كريم)

(كريم) الأسم الذي يحمل اكثر من دلالة في معناه، هذا يدل على أن الشاعر وظفه بصيغة قصدية مفتعلة

أضيف، حققت الكتابات الأدبية الحديثة حضوراً مميزاً في خرق الممنوع، والكتابة بصياغة جديدة، وبلغة ناطقة للرموز، ووسائل فك الشفرات المغلقة، عن طريق كلمات بسيطة لاتحتاج إلى اعمال الذهن لفهمها، بل تحتاج إلى وعي متقدم لما هو مكتوب، وايمان حقيقي بحرية الفكر الحر.

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم