قراءات نقدية

تراسل الهذيان دراسة في سرديات الروائي علي لفته سعيد

1007 مزامير المدينةرواية مزامير المدينة أنموذجا

تأتي رواية مزامير المدينة الصادرة عن دار الفؤاد للنشر والتوزيع عام ٢٠١٨ إتماما وتكملة لهذيانات ومرثيات التوجع العراقي في رواية الصورة الثالثة للكاتب الصادرة عام ٢٠١٥

حيث كانت القواسم المشتركة بالهموم والمواجع وفقدان بوصلة الأستقرار للشخصيات التي جاءت بمستويات سردية لتمثل اختزالا لمرحلة من الضياع عانته

قاعدة عريضة من الجمهور كان يبحث عن لحظة أمان ويتطلع الى بارقة أمل يمنح هذه الجموع المحرومة قسطا من الحلم وبحبوحة من السلام ولكن للحرب جنونها وللسلطة شهوتها وتوق الحاكم لكتابة تاريخ بدماء الضحايا ولأن الطاغية لايفكر يوما بضحاياه يعمد جنونه ببطولات وهمية وكوارث منقوشة على جدران الذاكرة التي تشوهت بصور الموت والخراب والخواء في رواية الصورة الثالثة كانت البطلة سلوى المرأة الممشوقة جمالا ونقاءا وسحرا وإنوثة وكان الشاب محسن الذي أرهقه الفقر  والحاجة وطاردته أشباح الحرب وزبانية اللون الزيتوني فكانت تلك هي بوابات النفي والعقم التي إستلذ بها الطاغية لتمنحه مزيدا من الزهو الفارغ ولو ان السرد لم يقترب من الأرهاصات السياسية وجذور الفواجع الكونية وألقى تبعتها على الحرب ضمن عناوينها وفواجعها الكارثية العريضة .فقد مثلت البطلة سلوى الحاضرة في ذهن ووجدان الشاب محسن المحروم عاطفيا وماديا والتي قد تغيبت بوجودها الواقعي في فضاء رواية مزامير المدينة والتي أضحت رمزا جوانيا  للرغبة والحنين ومن زاوية اخرى صورة لفداحة الخسارات المتوالية وجسامة مرثيات الوطن على بوابات عويل ضحاياه هكذا تتراسل الحواس مع شخصيات الرواية مزامير المدينة ليستكمل البطل محسن هذياناته الضاجة بالهول والفزع والخيبة مما آلت اليه المصائر والأرادات فكانت الأرض الباثة للثراء والجالبة للغنى لكل من أخذ بتلابيب الأثر

ومواريث السلطنةالروحية الموهوبة من فجر التاريخ في وطن تناوشته الخطوب وأنهكته الحروب وكما جاء في الرواية على لسان والد محسن في وصف الحرب انها مثل طابوقة نامت لن تتزحزح فكانت العبارة

بوابة السرد ومرثية هذيانات أبطال السرد وهم يتناولون يوميات القرف بأيقاع سردي يتوسط بين السرعة والأبطاء ولكنه مشحون بمخلفات حربية لن تتزحزح كما هي الحرب في وعي الناس ومواجعهم اليومية فجاءت رواية مزامير المدينة تؤرشف محنة وطن في مرحلة دقيقة من صخب مراياه الأنسانية والكونية

حيث لملمت إغترابات الوطن والمواطن الذي يتطلع نحو الحرية والخلاص ليجد نفسه في أزمة متاهات جديدة يفتحها التصارع المحموم على السلطة والثراء والبذخ بعد زوال الكابوس حيث رصد الروائي عبر هذيانات التراسل الشفاهي بين البطل محسن والأصدقاء مجتبى ومحمود وناهض وآخرين ليرصد الحكي مستويات التفاوت الطبقي والزمن الفائض بالعبث والخواء واللا أدرية بين مجموعة محسن أصدقاء الثقافة والهموم اليومية المزمنة    والوجدانية كما يكشف الملفوظ السردي في لعبة الرواية انعدام الترابط الحميمي مع تكالبا مشوبا بالجشع على المنافع والمواريث وشهوة الأستحواذ على جغرافيا المكان الجاذب للثراء والوجاهة والسلطة على مرأى مواجع المعدمين والمهمشين والمغيبين بالفقر والعوز والحرمان.

فقد لجأ الروائي علي لفته في بناءه الفني لرواية مزامير المدينة في تتويج اللعبة السردية

وإتمام هوس التوجع والتأسي ومراجعة ثرثرات التاريخ وتقليب أوراقه الصفراء عبر شخصية في ظل السرد إبتكرها الروائي تشارك البطل محسن في سردياته فهذه الشخصية الكامنة في الخفاء كانت ترسل برقيات الشحن النفسي والأخباري بيوميات الفقد والألم والثرثرة التي عايشها البطل محسن ورفاقه فالشخصية المبتكرة في الظل كانت شخصية كلية العلم مطلعة على خبايا وأسرار بقية الشخصيات واتصفت بكم معلوماتي واسع عن شخصية محسن وباقي الشخصيات فضلا عن المحيط الأجتماعي ودوامة الصراعات الأجتماعية والطبقية حيث مثلت الضمير الجواني الناطق والراصد لشخصية محسن والمشكل لوعيه والراصد لصيرورة تحولاته الزمكانية .

ان لجوء الروائي الى إظهار شخصية تحاكي شخصية محسن الى اظهار الدور الخفي للضمير الغائب الذي فرضه الروائي للمراجعة والتثبت اضافة الى منحه فضاءا أوسع وأطلق خيال السرد في ابتكارات أحداث ومواقف إتصفت بالمشهدية والحالية كما أغنت الرواية عبر ملفوظها السردي من خلال مواقف الأبطال ويومياتهم المجترة بهذيانات تتراسل من حوارات وسرديات الشخوص ليشكل صداها فضاء الواقع الجديد وأزمة ضمير تحاصر البطل محسن بأنزياحات متوالية

لتضييق عوالم المكان والزمان وخنق عالم الشخصية وأحلامها المرتقبة .لم يكن اختيار البطل للأمكنة خيارا  بل كان قدرا قاهرا معمدا بالفقر والخواء التي ورثها الأبطال من طبول الحرب وشتات المدن الصاخبة برهانات الربح والخسارة فتنقل البطل محسن من شخصية تعد الأرصفة بمتاهات المدن الى مشغل مولدة في فندق في رواية الصورة الثالثة الى جندي يساق الى جبهات الحرب ثم الى مهازل يوميات الفراغ المقيت واستسلامه للعمل حفار قبور في رواية مزامير المدينة . جاء في السرد .......

دعني يامحسن أستريح وأرتاح قليلا وأنت ماعليك سوى أن تلقي جسدك على اي قبر وأغمض عينيك واحلم ...كن شبيه روحك فتنطلق من حيث لاتدري الى الدموع ص٤٨

وقوله... عندما خرجت من بطن القبر تمنيت الا يكون هناك أحد يرى الشكل المترب الذي يشي بميت عاد الى الحياة وتمكن من الخروج من القبر .

كان المكان المقبرة والعمل فيها يشكلان معادلا موضوعيا للمقبرة الأكبر التي تحتضن عوالم الشخصية فهو المكان السلب والعقم الذي يقضم مناخات الأرتقاء والسلام والبحبوحة فكل شيء يشي بالجدب فكانت رحلة الهروب من القبر الى القبر التي تلاحق البطل الباحث عن الأمان والعيش الكريم ...

لكن الأبطال لايملكون الا صراخهم اليومي وعبثهم الذي يطارد أشباح الخواء والخدر ذلك الهذيان الذي يتجاذبون به أطراف الهم اليومي والخدر الزمني الوئيد ليجتر كل من الشخصيات مواجعه وتأوهاته.

 

للناقد ظاهر حبيب الكلابي

 

في المثقف اليوم