قراءات نقدية

جوغينغ: مونودراما مُبهرة تُشرِّح العقلية اللبنانية بمبضع الجرّاح

عدنان حسين احمدتُعدّ مسرحية "جوغينغ" للمخرجة والممثلة اللبنانية حنان الحاج علي من أهمّ العروض المسرحية التي قُدِّمت في مهرجان "شبّاك: نافذة على الثقافة العربية المعاصرة" في لندن للفترة من 28 يونيو/حزيران ولغاية 14 يوليو/ تموز 2019 . وربّ سائل يسأل عن سبب تفرّد هذه المسرحية دون غيرها من الأعمال الفنية التي نالت هي الأخرى اهتمام النقاد، وعناية المشاهدين الذين التهبت أيديهم بالتصفيق لمجمل العروض النوعية لهذا المهرجان الجاد؟ ويأتي الجواب سريعًا: صدق الثيمة الرئيسة، وبراعة الأداءالعفوي للفنانة حنان الحاج علي التي قوّضت الحواجز كلها، وجعلت الجمهور جزءًا حيويًا من العرض المسرحي والدليل أنّ هناك أربعة أشخاص شاركوا، بطريقة أو بأخرى، في متن النص سواء بتقديم شخصيات المسرحية الثلاث التي ستتقمصها البطلة أو بمساعدتها في أحد التمارين الرياضية الذي ينطوي على إيحاءات إيروسية متسامية لا تسقط في فخّ الابتذال. وعلى الرغم من مونودرامية هذا العمل المسرحي الذي يتكئ على شخصية واحدة إلاّ أن نجاحه الكبير يعود إلى نخبة من الفنانين والتقنيين الذين يقفون خلف الكواليس مثل الدراماتورغي، ومصمم الإضاءة، والمؤثرات الصوتية، وسينوغرافيا العرض وما إلى ذلك.

ما إن يدخل الجمهور إلى القاعة حتى يتفاجأ بوجود الممثلة على خشبة المسرح وهي تؤدي فعل الغرغرة الذي يتمثل بترديد الماء في جوف الحلْق، ثم تقوم بتمارين على 27 كلمة تجمع ما بين الخاء والراء بحجة تقوية اللهاة نهارًا، والوقاية من الشخير ليلاً من بينها "خابَ، خافَ، خانَ، خدرَ، خدعَ، خذلَ". وبينما هي منهمكة في هذه التمارين الرياضية تطلب من إحدى الحاضرات أن تقرأ ورقة مكتوبة تلتمس فيها من الجمهور أن يُغلقوا الهواتف النقّالة، ويمتنعوا عن التصوير تفاديًا للفضيحة لأنّ المسرحية "بنت حرام"، وغير مرخّصة، ومَن يشعر بالحرج عليه مغادرة القاعة واسترداد ثمن البطاقة.

تروي البطلة سيرتها الذاتية بضمير المتكلم فنعرف أن حنان الحاج علي هي لبنانية أصيلة، وقد أصبحت مواطنة فرنسية منذ أكثر من عشر سنوات، ومتزوجة من لبناني ماروني أصيل لكنها شيعيّة المذهب منذ الولادة، وهي في بداية الخمسينات من عمرها، ولديها أربعة أولاد غادروا البلد مثل رفاقهم، وتمارس الجوغينغ أي الهرولة أو العدْو الوئيد لتتفادى السمنة، وترقّق العظام، والتوتر النفسي. تستعيد حنان في أثناء هذا الروتين الرياضي أدوارًا وشخصيات متعددة تدفع جسدها لفرز هُرمونيّ الأدرينالين والدوبامين. تحلم البطلة بتأدية الأدوار العظيمة منذ أيام الإغريق وحتى الوقت الحاضر مثل فيدرا، أندرومارك، كاسندر، ميدي وتتعالق مع هذه الشخصيات التي رسخت في الذاكرة الجمعية للفنانين على وجه الخصوص، وأولى هذه التعالقات تحدث مع ميدي البربرية، حفيدة إله الشمس التي تقتل وَلَديها انتقامًا من زوجها جاسون، كما تنقّع فستان عروسته بالسم وتقدّمه هدية لها في ليلة الزفاف فيحترق جسدها البضّ الجميل.

في قصة مشابهة لأسطورة ميدي تقدّم حنان شخصية إيفون، المواطنة اللبنانية التي قررت يوم الخميس المصادف 19 نوفمبر 2009 أن تقتل بناتها الثلاث نورا وأليسا ومريم وأن تلحق بهنّ إلى العالم الآخر حيث تقوم بتحضير سلَطة الفواكة وتضيف إليها سمّ الفئران، وتطعم بناتها، وبعد أن تسجّل شريط فيديو لزوجها تأكل من السَلَطة المسمومة وتخلد إلى جوار بناتها لكن الشريط يختفي مثلما تختفي العديد من الجرائم في لبنان ثم نفاجأ بأنّ هذه الرسالة التي سجّلتها في الشريط هي ليست رسالتها وإنما رسالة الروائية البريطانية فرجيينا وولف التي كتبتها قبل أن تنتحر حينما أصيبت بكآبة حادة بعد الحرب العالمية الثانية.

يبدو أن الحكايتين السابقتين تمهِّدان للحكاية الثالثة التي تحمل ثقلاً نوعيًا للعرض المسرحي وهي حكاية زهرة، المرأة التقليدية التي تنتمي للضاحية الجنوبية في بيروت. وقد تعرّفت منذ السبعينات على الرفيق محمد فقلبَ حياتها رأسًا على عقب حينما اختلط الحُب بالنضال، والمقاومة باليسار فعشقت قضيته، ووقعت في حبه وهيامه. وحينما دخلت السجن كانت واحدة فأصبحت اثنين وعندما خرجت صاروا ثلاثة هي وابنها والله. في معركة خلدة عام 2006 استشهد اثنان من أولادها وهما يقاتلان العدو في الجنوب، غير أن زهرة ليست مثل ميدي فهي لا تمتلك عربة سحرية، وجدها ليس إله الشمس، لكن قصتها لم تنتهِ بعد، فقد قُتل ابنها الثالث عام 2013 وهو يحارب في أقصى الشمال في سورية. وقبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة كتب رسالة صريحة وواضحة إلى أمه يقول فيها أنه عاش 19 سنة لكنه الآن يريد أن يغادر وهو مُوقن تمامًا بأنه قتيل وليس شهيدًا وأنّ أمه تعرف هُوية القاتل، وعلى رأي أبيه:"نيال اللي بيموت مظلوم ومش ظالم". يقرّ الابن المقتول بصريح العبارة قائلاً:"ماكنش في يا أمي لا مخربين  ولا تكفيريين، بيجوز في بغير محل بس أني ما شفت غير عيل جوعانة وناس معتّرة عم تنزتْ عليهم البراميل...الضابط ما كنش عم يضربني ليوجعني... كان عم يضربني ليهينّي ويكسر راسي... وقتها عرفت أنه الكرامة ممنوعة على يللي مثلنا". يطلب الابن القتيل من أمه ألاّ تصدق أنّ ابنها خائن أو عميل أو جبان فهو أشجع من أن يسقط في دائرة الجبن. وإذا كانت هذه هي الشهادة فهو لا يريدها لكنه يصر على وصيته التي يقول فيها:"يا أمي ما بديش عفّن بالتراب، ولا بدي شي يجمعني بهالبلد... أني كفرت فيه، ما بديش أندفن يا أمي. . الله لا يسامحك إذا تلبسي أسود عليي، الله لا يسامحك إذا بتردّي ع حدا بيعيطلك أم الشهيد". يعتقد الابن القتيل بأنه سيحاسبهم في يوم القيامة وأنهم سيكونوا هم المتهمون هذه المرة.

تتضمن المسرحية الكثير من الآراء الحادة التي تنتقد فيها حنان الحاج علي الحكومة اللبنانية، وقد استعارت غير مرة مقولات مأخوذة عن مسرحية شكسبير من بينها:"هناك شيء عفن أو تراجيدي" في الجمهورية اللبنانيةبدلاً من الدنمارك، فلا غرابة أن تأتي على ذكر قضية رأفت سليمان الذي ذوّبوه في الأسيد ليموّهوا على قضايا تزوير وسرقة بملايين الدولارات اشتركت في نهبها رؤوس كبيرة في الدولة العتيدة، أو الإشارة إلى قضية الطفلة نيكول التي كانت تُخدّر وتُغتصب من قِبل خوري المدرسة قبل أن تلقى مصيرها المحتوم بينما اعتاد الشعب اللبناني على القبول بسياسة الأمر الواقع الاستسلامية التي تقول:"قدرنا نعيش بهالبلد، ومهما بعنا وشو ماعملنا مارح يتغير فيه شيء".

يجمع موضوع المسرحية بين الدين والسياسة، ويزاوج بين الحقيقة والخيال، ويفحص مكونات الشعب اللبناني من دون أن يسيء إليها أو ينتقص منها لكنه لا يجد حرجًا في انتقاد حزب الله الذي يكرّس الطائفية، ويزعزع الأمن حيثما يحلّ، وأكثر من ذلك فقد ناصرَ الدكتاتور بشّار الأسد وآزرهُ في الوقت الذي كان يقف على حافة الهاوية لو لم يأتيه المدد الطائفي المقيت من المليشيات المذهبية الخارجة على القانون، إضافة للقوة الجوية الروسية التي رجّحت الكفّة لمصلحة جيش الأسد وأزلامه الذين فتكوا بأبناء شعبنا السوري الأبيّ وفرّقوهم أيدي سبأ.

قبل أن نطوي صفحة هذا المقال لابد من الإشارة إلى العناصر المكمّلة لهذا العرض المسرحي الذي استعمل الهزْل، والمفارقة، والسخرية السوداء لتعزيز النص الجاد الذي لا تُغادركَ شذراته والتماعاته الذكية بعد وقت طويل، فلقد لعب الدراماتورغي عبدالله الكفري دورًا مهمًا في تشذيب القصة المسرحية، وحواراتها الفطِنة الواخزة التي جعلت الجمهور يضحك طوال العرض المسرحي. أما سينوغرافيا العرض فقد كانت متقشفة لكنها كانت مستوفية لشروطها الفنية والجمالية ولم تُضيّق الخناق على الممثلة البارعة حنان وهي تتحرك بحرية تامة في مساحتها الدائرية التي استقطبت أعين الحاضرين، وهذاالأمر  يُحسب لإريك دونيو، والإشادة موصولة إلى مُصممَيّ الإنارة إلى ريّان نيحاوي وسرمد لويس، ولا تفوتنا الإشارة إلى دقّة المترجم والمؤلف المسرحي حسن عبدالرزاق في نقل هذا النص المكتوب بالمحكية اللبنانية "العسيرة" في بعض المواضع وطوّعها بلغة إنجليزية سلسة تفاعل معها الجمهور البريطاني وأحبّ ثيماتها الرئيسة والفرعية.

 

عدنان حسين أحمد

 

في المثقف اليوم