قراءات نقدية

الرواية بين ماضيها و حاضرها.. قراءة في: زمن القص لجابر عصفور

صالح الرزوقفي كتابه “زمن القص: شعر الدنيا الحديثة” يبدأ الدكتور جابر عصفور من نتيجة مفادها أن الرواية تدين بوجودها للمدينة. فهي ظاهرة حضارية انبثقت أولا من البلاط وحاجة السلطان أو الخليفة لإنسان ناضج ومثقف يعتني بكل ما له علاقة بالإرشاد والتربية والتفكير كما هو حال ابن قتيبة في “أدب الكاتب” والقلقشندي في “صبح الأعشى”. وثانيا من حاجة الشعب لخيال يخدر آلامه ويشحذ ما تبقى له من إرادة وقدرة على الحياة كما في “ألف ليلة و ليلة”. وهذا يعني بالضرورة أن الرواية فن له جذور وجدانية في كل من الشكلين المعروفين للحضارة، وهما الرسمي والشعبي. ولذلك إن رواية “زينب” التي صدرت عام 1913 لم تأت من فراغ، وهي ليست نتيجة أوتوماتيكية لتأثير الغرب، وإنما عبرت عن أزمة الطبقة الوسطى ودورها المزدوج في التثقيف والترفيه. ويضيف الدكتور عصفور: إن صعود الرواية في أدبنا الحديث توازى بشكل من الأشكال مع التوسع بالحياة في المدينة لأن الروائي، على ما يبدو، هو بالأساس حصيلة لمخيلة تميل للاستقرار والهدوء. وهذا تعبير عن أزمة تحويل المدينة العربية. فقد كانت تضغط بشكل لا إرادي باتجاه مستقبل ترعاه اليوتوبيا. وعموما إن انتقال الكاتب العربي من الشعر للنثر ودخوله في “زمن القص” كان بمثابة نتيجة مباشرة لولادة المدن وهجرة أبناء الريف إليها. وتقف وراء ذلك الاكتشافات العلمية والصناعية التي تحتاج للتفاصيل وليس الاختزال.

بتعبير آخر جاءت الرواية لتعبر عن حقائق لم تكن موجودة أو تأخر الوعي بالالتفات إليها. وهو ما يسميه الدكتور عصفور برؤية الستينيات.

ولكن ما هي أبرز سمات هذه الرؤية؟؟...

يمكن إجمالها ببندين هما: 1- التكافؤ والتراسل مع المستجدات وأساليب التعبير. و2- التمرد على ذاكرة الأب وربما قتلها ودفنها تحت الأنقاض. ولكن يمكن أن تلاحظ أن التقاليد الجديدة لم تكن متساوية في المشهد العربي. فقد كانت في بلاد الشام أقرب ما يكون لحداثة عدمية، ودشنت انطواء المدينة على غربة أبنائها. بلغة أخرى: كانت المدينة غريبة عن نفسها بمقدار اغتراب الشخصيات عن الواقع الذي جاءت منه. ويمكن القول إنه حصل تبادل في المواقع. أصبح الإنسان هو الموضوع والمدينة هي الذات، كما في “طواحين بيروت” لتوفيق عواد و“لا بحر في بيروت” لغادة السمان و“شتاء البحر اليابس “ لوليد إخلاصي. حتى أن الدراما اختصت بالمكان وليس بالفترة. ولكن في مصر والعراق انصب الاهتمام على لغة سائلة ألغت الحدود بين الشخص ومكانه. وكان البطل يعيد انتاج الموضوع من خلال الذات. وإذا قرأت “المقامة اللامية” لجمعة اللامي أو “الخطط ” للغيطاني ستلاحظ أن المكان ليس في خلفية الأحداث بل هو أمامها، ويحتل دور البطولة، إن لم يفرض على النص معنى نفسيا بمدلول حضاري. لقد كانت المدينة هنا استجابة لرغبة الشخصيات أو جوابا لتلك الرغبة. وهذا يعكس من جانب آخر زيادة نسبة المتعلمين والطبيعة الدرامية والمتأزمة للحياة التي تعتمد على دمج الأفراد في باقات متشابهة من المعاناة والحالة النفسية والوعي، ولا سيما بعد انتشار الذكاء الصناعي واعتماد الإنسان عليه في تنظيم تفاصيل حياته. فبرامج الذكاء الصناعي ساعدت لحد كبير على تغريب الإنسان عن خصوصياته، وربطه بباقة من الحالات الانسانية. ولا أقصد شريحة اجتماعية خاصة. فالحدود بين الطبقات أصبحت متحركة، وتحولت خطوط العزل من الحالة الاقتصادية والوضع الاجتماعي إلى أساليب التعبير عنها. بلغة أوضح إن الانتماء لفئة اجتماعية لم يعد نتيجة مباشرة لواقع الإنسان وإنما انعكاسا لوعيه. والحقيقة أن فن الرواية لا علاقة له بتشكل وتمايز الطبقات، ولكنه ثمرة مباشرة للوعي الباطن وتجسيده. وإذا رأى لوكاتش أن الرواية هي ملحمة الطبقة البورجوازية فهذا لأنه كان ينظر لواقع تحول نمط الحياة بعد حرب مؤلمة مزقت البيت الأوروبي، وبدلت اتجاه السهم من الفرد إلى الشريحة، ومن الأرض إلى علاقتنا بها. وبظني إن الطبقة المتوسطة، هي طبقة افتراضية عابرة للأجناس والحدود، ولديها مشروعها اليوتوبي الخاص. وهي من خلال سعيها المحموم لإنجاز مشروعها اكتشفت روايتها. لقد أصبحت الرواية هي الخطاب الحامل لهموم هذه الفئة غير المحددة، والرواية هي تعريف لحدود هذه الشريحة. إنها فئة غير طبقية تنتمي لنفسها وللهموم الطارئة التي تفاجئ الإنسان وتضطره لاختراع حبكة أو رواية خاصة به. وبواسطتها يقاوم مشكلته مع بقية أعضاء المجتمع، وبالتالي النظام أو الإله.

ولم تكن لدى الدكتور عصفور أية حيرة في تفسير الحاجة إلى الرواية، ومقدار ما تدين به للموروث. ويضرب مثالا بمقامات “عيسى ابن هشام” للمويلحي، و“ليالي سطيح” لحافظ إبراهيم. فالعملان لا يفتحان قلبهما للمؤثرات الوافدة، ويميلان بشكل واضح للتراث بصيغته وتراكيبه. ولا سيما للبنية الفضائحية والناقدة التي بنى عليها الجاحظ أطروحته في “البخلاء”. ولم يفوت الدكتور عصفور الفرصة ليربط الخيال العجيب في البواكير مع غرائب ألف ليلة والملاحم والسير التي تعالج آلام وجراح أبناء الشعب والبسطاء وبوجه خاص من كان يحترق بنار التمييز الطبقي وسوء توزيع الثروات. وقد وصل طغيان الذاكرة العربية (أو أصول الخيال الفني عند العرب) لدرجة تحويل الترجمة إلى تعريب. بمعنى أنه توجب على المؤثرات أن تنصهرفي التقاليد كما حصل مثلا مع بطرس البستاني الذي حول “روبنسون كروزو” إلى عمل مختلف تماما وهو “التحفة البستانية”. وقد تلازمت ملحمة البحث عن هوية الأبطال وهوية الأمة مع رحلة البحث عن هوية النوع الأدبي. ووقف تنوع الأسئلة وراء تنوع الإجابات واختلافها من مرحلة لأخرى ومن كاتب لآخر. ويمكن القول إن الرواية أصبحت فن الطبقة المتغيرة أو الفئة التي يصعب أن تعيد إنتاج نفسها. وهذا يفسر ما يسميه الدكتور عصفور “النسبية المعرفية”. فالرواية فعل من أفعال الاكتشاف والشك أو الاشتباه. فالمسلمات انحسرت في أدبنا الحديث، بوجه عام، وحلت محلها سلسلة من الاتهامات التي تصل لدرجة تجريم الذات. وهو ما يمكن فهمه بضوء الخلل البنيوي الذي نعاني منه سواء على مستوى المجتمع (الجامد والبطيء) أو الحضارة (التي تسقط في هاوية سوء الفهم والتخلف). وبالنتيجة شجعت هذه الحالة على "وعي الضد" و"العقل الذي يفضل السؤال وليس الجواب". فوعي الهوية هو وعي بالآخر دائما. والبحث عن الشبيه يفرض البحث عن المختلف. ولا يستثني الدكتور عصفور أي عمل من هذه القاعدة. مثلا إن رواية “حبيبي ميخائيل” لعاموس عوز تتساوى مع “رجال تحت الشمس” لغسان كنفاني. إن كلا العملين ينظر للحقيقة الساطعة نظرتنا لمدينة تختبئ خلف أسوارها، والمعلن عنه هو دائما غير الظروف الموضوعية. حتى أن بذرة الفكرة في العملين هي التوطين، وإن تعددت الأسباب والأدوات.. إما أنك تبحث عن زمنك الأسطوري أو أنك تهرب منه. ولذلك تفقد الأرض معناها ويغلفها ظل من الريبة وسوء الفهم. وتؤول الحكمة إلى معنى تاريخي يبدل من قيمة المكان وأشكاله. وغالبا يوجد تبادل بين الأسطورة والواقع، وبالمقابل بين تاريخ المكان والجغرافيا. وهذا يضع أبطال العملين في حالة تأهب لا حل له إلا الموت. لقد حركت كنفاني أطروحة عوز والعكس بالعكس. وكانت البطولة غير تابعة لمعنى مضمونها. فكتابة الخيال بلغة الدكتور عصفور “هو وعي ضدي مواز". وذلك لا يعفي العملين من الانتماء لشكلين من أشكال وحدة سردية واحدة. فعوز يبني كل أطروحته على افتراضات وأساطير هي جزء من خياله السياسي. في حين يركز كنفاني على تفاصيل تجربة لها تفسير واقعي ومنظور. وفي وسط هذا المخاض لم يمكنه أن يعزل الانطباعات عن الموضوع. بمعنى أن القيمة الذاتية تبدو له وكأنها معرفة مطلقة. ثم إنه في رواية عوز لا مكان للشخصية الضعيفة، والأبطال يتحلون بالحكمة والعلاقة المتميزة مع تاريخ أسطورتهم الغامضة. أما عند كنفاني إن الشخصية مأزومة وتواجه مصيرها بوعيها الباطن. وهي مستسلمة لتوقعاتها داخل معدة العالم. ولذلك اختار عوز حبكة راكدة تقاطعها مونولوجات. بينما اختار كنفاني حبكة متحركة.

ويختتم الدكتور عصفور كتابه بباقة من الذكريات عن أصدقاء الشباب مثل إدوار الخراط ويحيى حقي وسليمان فياض وخيري شلبي. ويرسم لهم بورتريهات لا تخلو من المودة الصادقة التي تصفح عن الذنوب وتنتبه للمآثر. فقد رأى في كل شخصية من تلك الشخصيات حسنات نحسد الأدب العربي عليها. وحتى إذا اختلفوا بالاتجاه وأدوات التعبير فهم برأيه متفقون على فلسفة واحدة، وهي التعبير عن المطلق بأساليب غير مطلقة، أو ملاحظة اللامتناهي بالتفكير المتناهي. ولذلك استحقوا عن جدارة أن يرتفعوا على الخلافات المذهبية التي لا يخلو منها إنسان أو مدرسة. فالانطباعي يحيى حقي والإيديولوجي إدوار الخراط والوطني العروبي سليمان فياض وإله المهمشين وحارسهم خيري شلبي اجتمعوا في حلقة واحدة يمكن أن نسميها “الحساسية الجديدة”. وهي حساسية ذات رؤية وبصيرة نافذة استطاعت أن تتخطى حدود الفن لتندمج بالحياة العامة والذات، ولتعبر أفضل تعبير عن معاناة كل إنسان وكل مرحلة. وكما ورد في سياق رثاء الطيب صالح: في هذه التجارب كان الشخصي يقود إلى الموضوعي باستعمال تقنيات فتحت الأبواب المغلقة للأجيال اللاحقة، ومالت لشكل له رؤية جذرية تجمع ما بين الظاهر والباطن، والمكبوت في اللاوعي والمعلن في الشعور، والموازي لقيود الثقافات الوافدة المتعالية والتي تدفعنا إلى إعادة انتاج القمع على أنفسنا.

ومن الواضح أن الدكتور عصفور راهن في كل أطروحته على ثلاث نقاط.

الأولى تواصل من حيث انتهى أستاذه الدكتور عبد المحسن طه بدر مؤلف أهم مصنفين في تاريخ نقد الرواية العربية، وهما “تطور الرواية العربية الحديثة في مصر” (1963)، و”الرواية والأرض”(1971).

فقد أعطى كلاهما قصب السبق لـ “زينب” التي كتبها الدكتور هيكل في باريس بين 1912-1911 قبل أن ينشرها في مصر عام 1913. لكن هذا لا يمنع أنه توجد محاولات رائدة سابقة وصلت لذروتها في نموذجين.

1- مجموعة أعمال معربة لنعمان عبده القساطلي، وأهمها “مرشد وفتنة” التي ظهرت عام 1880. وإذا كانت أسلوبيا مفككة وبأدنى درجات النضج والتبلور، فهي من ناحية الموضوع تحمل أعباء الواقع المحلي. كما أنها فتحت لأول مرة ملف أبناء البادية بكل ما في ذاكرتها من ندرة وتحديات وصراع على الوجود. ويمكن القول إنها رواية داروينية لأنها تركز اهتمامها على الصراع في سبيل البقاء. وأعتقد أنها كانت أفضل خلطة من مكائد ألف ليلة وفروسية أبطال الملاحم والسير مع أدوات من الخيال الفني الحديث .

ثم 2- مجموعة روايات تاريخ الإسلام لجرجي زيدان. فقد سبقت “زينب” بخمسة وعشرين عاما تقريبا، وتجاوزت أسلوب القساطلي الذي يخلو من بناء الشخصيات أو الحبكة. وحسب السجلات ظهرت أول رواية من السلسلة بعنوان “المملوك الشارد ” عام 1891، وآخر رواية بعنوان “جهاد المحبين” عام 1912. وكانت ذات حبكة متينة وشخصيات واضحة، مع انضباط في العواطف والوجدانيات، فهي لا تذرف الدموع وتموت من الحب والوجد وبالمجان كعادة الرومنسيين، بل تتبع المنطق والواقع واستعداد البشر للتضحية دون إفراط أو خيال مريض.

 النقطة الثانية هي المحاولة المستميتة بالتأصيل. ويجب الاعتراف أن الذاكرة العربية غنية بالسرد والخيال والفانتازيا. فالكاتب العربي في البداية كتب متأثرا بذاكرته القديمة (أو تراثه). حتى أن الشدياق وعلي مبارك وبعدهما المويلحي وحافظ إبراهيم رزحوا تحت تأثير مقامات الحريري. وتحول هذا الرضوخ لسلطة الأب في منتصف القرن العشرين إلى شكل من أشكال التعبير عن الذات الوطنية. ولاحقا إلى أدب مستقل يراعي الحفاظ على تقاليد النوع مع تجديد شبابه. وهو ما انتهى إلى شكل من أشكال الشراكة بين قطاعات نائمة من الذاكرة وقطاعات وافدة أو قادمة. وقاد ذلك للارتقاء من ثقافة شفهية إلى ثقافة مكتوبة أو لتحرير الماضي على أساس يعني الحضور المشارك. ولكن من العدل أن نضيف: إن ما حصل يحتمل العكس أيضا. فتوطين البلاغة العربية في محاولات فجة انتهى مع ترسيخ النماذج الرائدة مثل “زينب” هيكل و“دعاء كروان” طه حسين أو “سارة” العقاد وحتى “إبراهيم الثاني” للمازني. إن لم نذكر “الأيام” لطه حسين كذلك. لقد قطعت هذه الأعمال مع الماضي، وتنكرت له تماما في البنية والأدوات. وأعتقد أنها دون أي علاقة شرعية معه. ولم يجد التراث صدرا حنونا إلا بعد نكسة 1967 وظهور جيل الخيبة أو الجيل الضائع برموزه المشهورة أمثال الطاهر بن جلون والغيطاني وجمعة اللامي. فقد كانوا حريصين على توظيف أدب التصوف والاهتمام بالرؤية من الباطن باتجاه الظاهر. وهم دون أي شك بعيدون عن شطحات خيال ألف ليلة وأقرب لشطحات النفس المعذبة بسبب الاغتراب عن الجوهر الإنساني، واستحالة التماهي معه، واستلهام الخبرات بواسطة المشقة والمعرفة أو ما يسمى العقل التجريبي والذهني. لقد صنعت تلك المحاولات جيوبا داخل الاتجاه العام، وكانت لها أدواتها. ويمكن القول إنها أفكار تنتمي لأساليب غير منتمية. فالفكرة كانت جزءا من هموم المرحلة، لكن أدوات التعبير كانت خارج حدود الأجناس والأنواع. وهذا يصف أيضا معظم محاولات الغيطاني التي اختار لها هو نفسه شخصيا أسماء وعناوين غامضة مثل: سفر، خطط، كتابة. وكأنه أراد عمدا أن يبرئ نفسه من المعنى الكلاسيكي للرواية. وسار على هذا الدرب العجيلي مؤلف “السيف والتابوت” و“سبعون دقيقة حكايات” و“أحاديث الطبيب”. فقد وضع أعماله تحت عناوين فضفاضة ورمادية مثل أحاديث ومذكرات ومحاضرات وهكذا. إن أساليب المنادمة والسمر، ولا شك، تحتفظ بحق الاختلاف عن المعنى القانوني للرواية، دون أن يعني ذلك أنها من طرف الموروث أو الوافد. وما يحدد هذه الميول طبيعة الكاتب ومواقفه. والعجيلي بالذات كان ينأى بنفسه عن هذه التصنيفات، ويؤكد أن الكتابة سلوك أولا، بمعنى أنها جزء من موقفه من نفسه ومن غيره. وأرى أنه لا يمكننا أن نعزو للعرب أي فضل خاص بنشوء فن الرواية. فقد كانت عندنا مضطربة وغريبة عن معناها الحقيقي ومترددة بين عدة أشكال كالحكاية والأمثال والمواعظ. لكن هناك مشاركة جادة لحقن المشهد المعاصر بكثير من الإضافات التي استعرناها من مخيلة شديدة التنوع والغنى، بالإضافة لمحاولات تأصيل أساليبنا المعاصرة. ولدينا أسباب مضاعفة لذلك، ومنها ضرورة التحرر من التبعية والارتهان لثقافة المستعمر. ولم يستفحل دور التراث إلا بعد التخلي عن الكلاسيكية الجديدة والأدب الواقعي الملتزم. أي ابتداء من السبعينات حينما اشتبه الكاتب أن الخلل موجود في أوهام الحداثة ونظام الخطاب. وبهذه الرؤية المركبة، التي تكونت من محور أفقي (بلاغة التفسير التاريخي للخيال) مع محور عمودي (وهو الخاص بتحليل و تشكيل الشخصيات)، لعبت الرواية العربية دورا هاما في نقل المجتمع من مستوى الضرورة لمستوى الحرية، وبالتالي في تنوير أسباب التأزيم تمهيدا لكسر السياق المغلق وإطلاق سراح الوعي الباطن كما قال الدكتور عصفور بالحرف الواحد. وأفهم من هذا الكلام أن الرواية لم تعد صورة من صور الوعي الشقي بل هي جزء إشكالي منه، أو أنها سلاح فعال في مواجهة تناقضات مشروع النهضة وتأصيل الوعي المدني واستبدال أدوات الحارة والواقع المحلي بوعي المدينة الحديثة كما قال الدكتور عصفور أيضا. ويبدو أن الخيال العربي منذ بداياته يسير على محيط الدائرة.. كل شيء يكرر ذاته إلى ما لا نهاية، حتى أن الخوارق والمعجزات هي نفسها. وإذا قلبت في صفحات أية سيرة شعبية لن تجد غير بطل واحد يؤدي عددا محدودا من الأفعال التي تتكرر بشكل لا متناه. وقد لاحظ أدونيس في “مقدمة للشعر العربي” أن المخيلة العربية لا تعرف السكون، فهي في ارتحال دائم ولكن من طور لطور مشابه. وربما كان نجيب محفوظ هو أفضل من التزم بقانون المتشابهات أو منطق البنية المتكررة. وهو في أهم أعماله يرسم مربعات ودوائر. وتتوالى بطريقة تعكس رتابة وبطء الحياة لدينا كما هو حال “الحرافيش” و“أولاد حارتنا” و“حكايات حارتنا” و“رحلة ابن فطومة”. في هذه الروايات تتكرر صورة الفتوة أو الرحالة تحت أسماء وألقاب متنوعة. وبوسعي القول إن الظاهرة الروائية كانت تحاكي نفسها بعكس فلسفة الأجيال في أوروبا حيث كل جيل يحاكم سابقه ويلغيه. ويمكنني أن أجزم أن الخيال العربي بشقيه الرسمي والشعبي ينظر لماضيه بمرآة حاضره. وفي هذه المرايا المتعاكسة يرى خياله بعدد لا متناه من الصور المتماثلة.

 النقطة الثالثة والأخيرة هي معارضة لفكرة إدوارد سعيد عن دور التوسع والحرب في نشوء أصل الرواية. فالدكتور عصفور يعتقد أن التمدن والحضارة هما الحافز الأول لكتابة الروايات. وبودي أن أضيف النوستالجيا. فالحنين لحياة الصحراء والخيام واتصال الإنسانية مع اللامتناهي والمطلق والمتشابه ساعد القساطلي على ابتكار حبكة محلية. وهو ما تحول على يد جرجي زيدان إلى حنين لجنون الماضي. وهو في رواياته لم يجامل الواقع ولم يضع على وجوه شخصياته أقنعة من بلاستيك. واحتلت لديه المكائد والغدر مساحة من الحبكة تساوي ما احتلته صفات الكرم والإخلاص والشجاعة ...

ومثله فعل هيكل في “زينب”. مع أنه رسم لوحة مشاهده الطبيعية بلون واحد كانت شخصياته تحن للأجزاء المفقودة من الحياة. وأعتقد أن الرواية أساسا هي محاولة للتغلب على هذا الشعور الجديد بالاغتراب والعزلة، أو انفصال الأفراد عن أمكنتهم. ومن هذه النقطة تفرعت رواية المرأة. ولا أعلم لماذا تحامل الدكتورعصفور على رجاء الصانع وفرانسواز ساغان. لقد رجم الكاتبتين بأحجاره. وقال عن الصانع: إنها بلا نماذج بشرية عميقة، وشخصياتها من كرتون ومسطحة وليس لها مكان في ذاكرتنا. وأردف عن ساغان: إنها من فئة تعاني من المرض ومن اختلال القيم و المعايير، وتستغل الرواج لتغطي على القيمة. ولاضرورة للتذكير أن الكاتبتين من شجرة واحدة، وهي أيضا شجرة غادة السمان وليلى البعلبكي وكوليت خوري. أو من اصطلحنا على تسميتهم بذوات الأظافر الطويلة. وجدير بالذكر أن هذه النماذج لها ضرورة فنية وموضوعية. فلساغان ينسب فضل اكتشاف الرواية طريقها إلى النوفيلا. بينما تكتشف الصانع في “بنات الرياض” مشكلة القلب الزجاجي الهش القابل للعطب بنفس طريقة هاربر لي في “قتل طائر ساخر”. وباعتقادي إن الكاتبتين لعبتا دورا هاما في تحرير النص من لغته، بحيث اقتربت البنية من حدود الرؤية. وهذا شرط هام من شروط إلغاء المسافة بين الأسلوب و معناه.

 

صالح الرزوق

.........................

* منشورات الدار المصرية اللبنانية. 2019.

 

في المثقف اليوم