قراءات نقدية

جمالية المكان.. نزار قباني أنموذجاً

يؤسس المكان وجماليته، اضافة إلى الأنطباع الخيالي لهندسة معماريته حافزاً أساسياً في كتابة الكثير من الأشعار، والقصص، والروايات؛ لأنه -المكان- لا يمر مروراً عابراً، بل هو قيمة عليا،هو البيت، الأمان، الأستقرار، وهذه المواصفات لا تنطبق على البشر فقط، بل أن المكان وانطباعاته يمثل الأمان الأول والأخير للإنسان، والحيوان ايضاً.

وركز "باشلار" على أهمية المكان، وعلى جوهرية البيت القديم، الذي يقصد به بيت الطفولة؛ لأنه الحاضن الأول لطفولتنا، نرسم عن طريقه خيالنا، الذي يمتد معنا العمر كله.

استغل الأدب هذه الجمالية، وأسس عن طريقها الكثير من الكتابات الأدبية، بنكهة خيالية عالية الدقة،" باشلار" ركز على نوعين من الخيال: الأول:الخيال الشكلي، والآخر: الخيال المادي.

أنطلق خيال (نزار قباني) وغيره من الشعراء، إلى توظيف المكان وخياله في رسم صورة العشق .

سأقولُ لكِ " أحِبُّكِ"

حينَ تنتهي كلُّ لُغَاتِ العشق القديمَه

فلا يبقى للعُشَّاقِ شيءٌ يقولونَهُ.. أو يفعلونَهْ..

عندئذ ستبدأ مُهِمَّتي

في تغيير حجارة هذا العالمْ

وفي تغيير هَنْدَسَتِهْ

شجرةً بعد شَجَرَة

وكوكباً بعد كوكبْ

وقصيدةً بعد قصيدَة

سأقولُ لكِ "أُحِبُّكِ"..

وتضيقُ المسافةُ بين عينيكِ

وبين دفاتري ويصبحُ الهواءُ الذي تتنفَّسينه يمرُّ برئتيَّ أنا

وتصبحُ اليدُ التي تضعينَها على مقعد السيّارة هي يدي أنا..

سأقولها، عندما أصبح قادراً،

على استحضار طفولتي، وخُيُولي، وعَسَاكري،

ومراكبي الورقيَّهْ..

واستعادةِ الزّمَن الأزرق معكِ على شواطئ بيروتْ..

إن التصور النقدي الذي يستقر في ذهننا، وجود علاقة ترابطية بين عد اللغة جسداً، والجسد لغة، فالتجربة الشعرية في الأساس تجربة لغة، وهي المادة الأساس للوجود الثقافي، لذلك فإن لكل أديب طريقة، وخيال فردي خاص بذاته وقلمه، في نسج لغة قصائده.

وهذا الخيال الذي صاغ جمالية الجسد عن طريق استغلال المكان، مثل الجسد مكان حيوي للنقش، أي أنه لوحة (فسيفساء) يمكننا عن طريقها-هذه اللوحة- كتابة وقراءة خطابات عدّة.

فالجسد كيان ثقافي، وهو نقطة جوهرية، لأستنطاق المخفي، فهو من الاجزاء الحاضرة في الكيان الثقافي ولغته؛ لأنه يفرض قوانينه الطوعية علينا.

النص يمثل الماضي بلغة الحاضر، إذ أسست (السين) حرف استقبال، ومفتتحاً لنسج لغة القصيدة، وطريقاً عابراً لنطق اصغر واعمق عبارة (أحبك).

ويعمد الشاعر إلى توظيف الفعل المضارع( تنتهي) الدال على استمرارية الفعل، فاللغات لا تتوقف، وخصها بالقديمة؛ لأنها مهد الحب وعفويته، ويعني أن اللغات مستمرة ودائمة عنده( حين تنتهي كل لغات العشق القديمة).

(فلا يبقى للعشاق شيء يقولونه.. أو يفعلونه)، يترأى المشهد أمامنا متشكلاً من مجموعة من العناصر الحسية( يقولونه...يفعلونه)، وخصها بالجمع، أي أن عشقه مميز، ومختلف عن الكل.

الأمر الذي يساعد على تنسيق المشاعر عن طريق الإثارات المتنوعة للصورةالشعرية،ومن ثم تنكشف كل الرموز المغلقة، في فضاء مليء بالوضوح،والمباشرة.

فالحب جاء بصورة بصرية مكانية (شجرة بعد شجرة،كوكباً بعد كوكب، قصيدة بعد قصيدة).

(تضيق المسافة بين عينيك... وبين دفاتري ويصبح الهواء الذي تتنفسينه يمر برئتي أنا) لغة النص مفتوحة على نافذة المباشرة، ليعبر عن طريقها الشاعر عمّا يغازل دواخله من صراعات نفسية واضطرابات شبقية وجسدية متوهجة، عن طريق عملية إبداعية نقلت تصورات الشاعر على اكثر من مستوى، وتعمق نحو الكتابة الإيروسية ذات اللغة الشهوانية، فشعرية مثل هذه القصائد هي شعرية سردية قائمة على أساس الملاحقة( وتصبح اليد التي تضعينها على مقعد السيارة هي يدي أنا، سأقولها، عندما أصبح قادراً على استحضار طفولتي، وجنوني، وعساكري).

(مراكبي الورقية .. واستعادة الزمن الأزرق معك على شواطىء بيروت)، عبارات بسيطة تحمل لغة الحياة اليومية بامتياز، لكن هذا لايعني أن النص هنا لايحمل مدلولات غائرة في ذاته، بل أن النص يذهب ليحلق من هذه التوظيفات البسيطة إلى لغة جسد عالية في دقتها، بدليل أن هذه التوظيفات تحمل دلالة الأمكنة، بمعنى أن الشاعر يراوده العشق حتى في هذه الأماكن، وعمد إلى ربطه بـ (شواطىء بيروت)؛ لأنه الهدوء والنقاء، الذي يجعل الإنسان منفرد بذاته فقط، هو والماء وعواطفه، وهو أنقى أنواع المشاعر والحب؛ لأنه يشير إلى النقاء العالي.

أضيف، أن استثمار الشاعر للدلالات المكانية في هذه القصيدة، يرتبط بخيال الشاعر العالي، الذي ربط عن طريقه عشقه لحبيبته، بلغات الماضي التي تمثل امتداد الحاضر، وعمد إلى التكرار الجنوني في كلمة (احبك)، ثم أنتقل إلى ربط عشقه بـ (شواطىء بيروت)، وهي رمزية من رمزيات الحب.

 

د. وسن مرشد

 

في المثقف اليوم