قراءات نقدية

هل قصيدة (أرواح صغيرة) سياسية؟

1133 سورانيعندما قرأت قصيدة (أرواح صغيرة) للشاعر سوران محمد أنتابتني الشكوك حول موضوع النص/الثيمة، هل هي سياسية أم غير ذلك، بما انه تزامنا مع عنوان الشعر کتب: قصيدة سياسية، فراجعت قراءتها مرات تلو الاخری، کي أتأكد من درجة فهمي لها، أم انه خطأ حصل أثناء الكتابة، ولم لا؟ فمنذ الوهلة الاولی لا يحس القاريء بأي اشارة مباشرة تأخذ بيده ويطرق معه ابواب السياسة النتنة ومجرياتها و واقعها المأساوي وما يترتب عليها في يومنا هذا من المآسي والتشرد والتقتيل، بحيث لا يخفی علی القاصي والداني مساويء السياسيين وما يقومون بها من الابادة والاهانة والتهدير وتخلف الشعوب بناء عليه، ولو وضعت أصبعك علی أي بقعة لخريطـة عالمنا العربي لتجد فيها الاجندات تعيد نفسها لكن بوجوه مختلفة واسماء أخری، وكل ما يحدث هنا وهناك يمكن أن يكون موضوعا حيويا وحديثا لمضمون نص جيد، وغالبا يتوقع القراء العصري من الشعر أن يکون أداة مناهضة لأعوجاج المتهورين الذين سموا أنفسهم السياسيين والقادة باستعمال لغة سهلة وعاطفية، وفي نفس الوقت أخذت في بالي ان وظيفة الشعر لا تقتصر علی نفخ الحماسة فينا وتجيش  القراء ضد ظاهرة معينة لو اراد النص البقاء والمقاومة ضد النسيان  والتهميش، ثم بدا لي شيئا فشيئا صحة تصنيفها سياسية، وتيقنت ان هذه‌ القصيدة  سياسة بحتة  اذا استطاع القاريء کشف المستور ما وراء الرموز والحبکة التي تحتويها الصور الشعرية الکونية فيها، أي بمعنی آخر ان خطاب الشعر يصلح ان يکون لكل زمان ومكان مادام فيها ظاهرة الجور وحكام الجهل والفساد، الذين لا يراعون في الضعفاء الا ولا ذمة، يطحنوهم وهم يزعمون انهم يناضلون من اجلهم، يحرمون السواد الاعظم من حقوقهم وهم يرفعون شعار العدالة والمساوات.

‌الميزة الرئيسية التي تتميز بها هذه القصائد هي وجود اسلوب آخر للتعبير غير الذي عاودناه اثناء قراءاتنا لكثير من الاشعار، الا وهي جعل الصراعات عاما وموضوعيا وکونيا بدلا من حصره في زاوية محددة بالاسماء والاماكن والاوقات المعينة، اذ ان الضعف والقوة هما مضادان وونتيجتان للصراعات في آن معا، لكن كيف نستطيع استعادة القوة للضيف کي يسترد عافيته ويكون متوازيا ومتساويا مع الذي شرده وجوعه وکسر اضلاعه الا من خلال زاوية فنتازيا الشاعر الذي يدور في الكون ويستعير المفردات الخفية ثم يصنع منها مادة لصور متجددة ومغايرة للتي نلتمسها ونراها في واقعنا اليومي.  يتجول الشاعر في الكون الشاسع، ينظر عاليا ويختار وظيفة (السحب) من الطبيعة كي يقرب فکرته الی اذهاننا ويرسم لنا لوحة سريالية تعبر من خلالها البون الشاسع بين هارمونيا الطبيعة ومدی خطورة انحراف الانسان علی هذا الخط ان سلك طريق الطغيان، بحيث يصبح كل شيء داخل هذا العالم المظلم معاکسا للطبيعة او شبيها بکابوس يجلب السخرية والاستهزاء معا ولو ان هنالك من يعانون ويموتون حقا علی أرض الواقع الا ان القتلة لا يتوقفون عن سهرهم وسمرهم وضحكهم، حينئذ يتوقف الشاعر عن الغناء لعشق ليلی، ولا ينتظر منه القاريء ان يكون جوقة لأوكسترا الحرب والابادة في سبيل ادامة حياة الاستبداد والظلم الواقع علی أكثرية الشعب الذين سحقوا سحقا بطريقة ما أو بأخری، مباشرة أو غير مباشرة، جسميا أو نفسيا، فرديا أو جماعيا، والشيء المؤسف ونتيجة للمسلمات هذه انها مازالت الاسوداد الناجم عن الغطرسة والطغيان غطت وجه شمس المساوات والعدالة، لذا يحاول الشاعر ان يقول لنا عن طريق هذا النص يا أيها القاريء العزيز لا تنتظر مني ان اكذب مع نفسي واحشر نفسي مع  الاکثرية وانسی معاناتكم فانا المسيح المضحي من اجلكم ولو لا تشعرون، فلا مفر من محاسبة النفس ان جهلت نفسي وبعت ضميري بثمن بخس.

لو اردنا توضيح أكثر لهذا المعنی الذي ذکرناه آنفا، نتمكن من كشفه عن طريق فهم استعارة الشاعر للصور الكونية وتوظيفها في قصيدته، اذ ان السحب في الطبيعة تمطر مطرا أو ماءا نشربه‌ فيما بعد وله لون معين، ولو ان البعض يقولون ان لون الماء يتغير بتغير الاشياء الذي حوله، فمثلا تری ان لون ماء البحر أزرقا ارتدادا للون السماء، الا ان لونه هنا في هذا النص اسود، لأنعکاس لون الظلمة والاحزان الناجم عن قوة الغطرسة، ولو ان الشاعر ما أطال في حيثيات ووصف مصدر المآسي الا انه استعمل الاتجاه الفوقي تعبيرا للسلطة ، بما ان السحب في الطبيعة تمر وتمطر من السماء عالية مطرا تزهوا به الازهار والحياة المتنوعة علی وجه الخليقة الا ان هذه الغيمة اللئيمة الكدرة التي تمطر من علی علو کرسي القصر لا يبشر بالخير ولا ينبت به سوی أرواح صغيرة وضعيفة کأرواح الفراشة أو النحلة أو الدودة ولا تستطيع مقاومة الظلم والاستبداد،  اذ انها ترمز للطبقة الكادحة المقهورة التي ليست بيدها حيلة الا الموت البطيء المأساوي، ولو يطلب من الشاعر ان ينسی كل ذلك ويغوض في النظريات ولو بخداع النفس الا ان سلطة هذا الواقع المأساوي تحرك الشاعر من الداخل لتکوين قصيدة تناسب وتستحق حجم الكوارث والخسائر في زمن لا يلقي القاريء بالا الی خلفية الشظون وما وراء الاحداث الذي يحدث من حوله. ومرة أخری ينهي الشاعر نصه بصيرورة دوامة الصراعات ونزول هذا السواد من علی کرسي العرش علی قصائد الشاعر كذلك بدلا من الرأفة والرحمة والتسامح الموجود في الصورة الکبيرة کونيا، وهكذا يتألم الشاعر کالعصفور الضعيف التائه الواقع تحت سياط العذاب، دون مخرج ومأوی الی ان يسطع شمس حقيقي تنير دهاليز الجهل والحرمان، حينئذ يبتسم الشاعر مع آخر وردة متفتحة التي ترجع للحياة معناها الحقيقي، لكن لا تنسوا ان ما نعايشه هو حلم مر لا خلاص منه الا بالمثابرة والجد والنهوض. وان هذه ليست قصة من التأريخ بل واقع حاضر يعاني منه الشاعر ويلقي عڵيه الضوء في عمله کفرد واع في مجتمع فوضوي خرج علی سكة القانون ونتيجة لذلك يعاني الجميع معا في مشرق مليء بالفوضی، وهذه‌ الرؤية ليست تشاؤما کما يسميها البعض..

ظلال الغيوم المظلمة

تأتي من المشرق

وتحتل الاجواء..

ومازالت تمطر بغزارة

علی مزرعة القصائد

اذن نستطيع توضيح هذه التقنية الشعرية المستعملة في خطاب النص بهذه الصو‌رة التوضيحية:-

-أنظر الی صورة رقم 1 و2:

***

عبد الغني عطية

 

في المثقف اليوم