قراءات نقدية

الحب والخيانة في رواية: البشرات لإبراهيم أحمد عيسى

تحضر تيمة الحب في رواية "البشرات" من خلال مظهرين، أولهما حب الوطن؛ حيث بيّنت الرواية أنه رغم التنكيل الذي تعرض له المورسكيون على يد قشتالة وأراكون فقد ظلوا متمسكين بوطنهم، وحتى الذين اضطروا منهم إلى مغادرته فرارا بدينهم ظلوا يقدمون الدعم والمساندة لإخوانهم الذين ثاروا في وجه الظلم حسب ما أتيح لهم من إمكانيات، وقد تشبع بطل الرواية عبد الرحمان بحب الأندلس، ورفض مغادرتها، وحتى لما نصحه والده بالهجرة لأنهم أصبحوا غرباء في أرضهم، وطمست كل معالم هويتهم رد عبد الرحمان ردا حازما" سنعيش ونموت هنا فهذه أراضينا"[1]، لقد كان يفضل أن يدفن في أرض الأندلس على أن يرحل، رغم أن نفسه تغالبه، وتصر على الهجرة إلى تطوان أو أي بلد آخر يأمن فيه على دينه، ولم ينفذ وصية والده الذي أوصاه بالهجرة، وإنما بقي بغرناطة يقاوم قسوة القشتاليين وظلمهم لأهل الأندلس، وقد دفع حب الوطن محمد بن الحسن الرندي ابن عمة عبد الرحمان إلى أن يختار الحرية والنضال حيث التحق بالثوار في تطوان، وانضم لسفينة عثمانية تغير على سواحل قشتالة وأراغون، فاستمر في مجابهة الظلم والاضطهاد إلى أن استشهد في إحدى المعارك مع الجنود القشتاليين. كما أن القائد التركي مأمون توران الذي كلف من قبل العثمانيين بدعم ثورة البشرات تعلق بالأندلس وأحب حضارتها، وكان قائدا لسفينة عثمانية تغير على سواحل قشتالة وأراكون، وشارك في ثورة البشرات، وقدم الدعم والمساندة لها، وكان صلة وصل بين الثوار والعالم الإسلامي، وحتى لما طالبه العثمانيون بالعودة إلى القسطنطينية لم يفعل، نظرا لتعلقه بالأندلس وشعوره بواجب الدفاع عنها.

والمظهر الثاني للحب هو: العشق المتجسد في قصة البطل عبد الرحمان الذي عانى الحرمان من حبيبته الأندلسية التي زوجها والدها لغيره فرحلوا إلى تطوان هروبا من قسوة القشتاليين وديوان التفتيش، " لم يتوقف وهو يعبر أمام باب الدار لكن قلبه يخفق بسرعة ليذكره كيف كان رحيلها، يذكر ذبول وردته بعدما قرر أبوها أن يزوجها من غيره فرحلوا إلى تطوان وعيناها لم تفارقه بعد"[2]، كما شاهد التنكيل الذي تعرضت له جارة حبيبته التي كانت تأتي له بالمراسيل، حيث أحرقت هي وعائلتها في حفلة ماجنة حضرها نبلاء غرناطة، لمجرد أن والدها رفع الأذان في بيته، فمنذ "ذلك الحين قرر عبد الرحمان الانتقام، فتحولت حياته إلى حمال يجوب السوق بحثا عن رزقه نهارا، وفي الليل صائدا للنبلاء والجنود القشتاليين، حياة سرية لا يعرفها أحد"[3]، وأثناء محاولة الانتقام من الدون ريكاردو الذي أذاق الأندلسيين ألوانا من التعذيب استطاع أن يخلص عائشة منه بعدما حاول اغتصابها، وعائشة من دانية بالقرب من بلنسية التابعة لحكم مملكة أراغون، وقعت في يدي جنود الدون ريكادو أثناء فرارها من الجنود الأراكونيين الذي تكفلوا بتشريد نساء دانية بالجبال بعد أن قتلوا الرجال، وتمكن عبد الرحمان من إحراق ريكاردو بمساعدة من خادمه العربي، فتسبب له في تشوه وعاهة مستديمة، ثم كفل عائشة وصانها في بيته إلى جوار عمته التي تعلقت بها، وأرادت أن تطمئن عليها بتزوجها لابنها محمد ، ورعاها عبد الرحمان كأخت له إلى أن زوجها للفارس التركي مأمون توران.

وتمكن عبد الرحمان من تعويض الحرمان العاطفي بزواجه من ثريا واسمها المورسكي إزابيلا وهي ابنة أحد زعماء الثورة خوان فراندس، فقد" أحبته كيف لا وهو زوجها الذي يحنو عليها"[4] .

كما يتجسد العشق في الرواية في قصة مأمون توران وعائشة، فقد تعرف مأمون على عائشة وأحبها، ثم تزوج منها، ومن تجليات حبه لها في الرواية أنه لما فاجأها تغني موشحا يكشف عن غربة أهل الأندلس وحدثها عن الحب دفعها الخجل إلى تغيير الموضوع فسألته عن مستجدات الحرب المشتعلة قال:

"- نعم إنها مشتعلة بقلبي منذ رأيت عيناك

- قالت بصرامة:

- مأمون، أتحدث عن الحرب وليس الحب

ضحك قائلا:

- وما الحب سوى حرب يخوضها القلب من أجل الحصول على محبوبته"[5]

وكانت هي الأخرى تبادله الشعور ذاته، لكنها تخجل من التصريح بحبها "ارتفعت نبضات قلبها الذي يكاد يخترق صدرها معلنا عن حبها الصامت"[6]

ويرتبط الحب بالتضحية، لذلك دفع حب الأندلس عبد الرحمان إلى تقديم مجموعة من التضحيات، منها أنه قام بتبليغ رسالة إلى هرناندو دي قرطبة بقرية بالور بالبشرات في يوم زواجه ليحثه على وقف المراسلات إلى أنحاء الأندلس التي تدعو للثورة، لأن القشتاليين علموا بأمرها، ومنها محاولته إلى جانب مأمون إنقاذ أحد قادة الثورة وهو القائد الزمار الذي قبض عليه وسيق مع ابنته إلى غرناطة، حيث عذبا على يد رهبان ديوان التفتيش في سجن غرناطة، فماتت ابنته ومات هو الآخر تحت التعذيب دون أن يستطيع عبدالرحمان ومأمون إنقاذه، بل سيخسران قائدا آخر من أبطال الثورة الذي ضحى بنفسه في سبيل نجاتهما وهو الشاب سانشو الأشبوني، ومن أوجه التضحية أيضا تكفل فرج بن فرج بدفع غرامات الأندلسيين خاصة المجاهدين.

وأما تيمة الخيانة فتتجسد في الرواية في خيانة الثورة والوطن، إذ تعد الخيانة من أبرز أسباب فشل ثورة البشرات، ذلك أن الضغط الشديد الذي مارسه القشتاليون على الأندلسيين حتى أصبح القابض منهم على مبادئه كالقابض على الجمر، جعل أعتى قادة الثورة يتحول إلى خائن، بل إن الخيانة كما ورد على لسان بعض شخصيات الرواية تعد سببا مباشرا في ضياع الأندلس فقد أرجع فرج بن فرج ضياع الأندلس إلى حب أهلها للحياة الدنيا واتباعهم الشهوات، وركونهم إلى النصارى، فأصبح الكثير منهم جواسيس ومتعاونين مع القشتاليين، لذلك نبه قادة الثورة إلى ضرورة التزام الكتمان إذا أرادوا النجاح لثورتهم.

ومن صور الخيانة في الرواية تعاون أنطونيو المكاري مع القشتاليين فهو كان يرى أنه على الأندلسيين أن يجاروا الحكام الجدد، فكل ما يهم هو المال والأمان، وكان يتجسس على قادة الثورة، وينقل أخبارهم إلى حكام غرناطة، فقد نبه الرئيس ديسا إلى أن الأندلسيين يعدون للثورة والاستيلاء على الحمراء، مما عجل بخروج السلطان محمد بن أمية إلى البشرات، وكان عقاب أنطونيو الخائن هو القتل من طرف عبد الرحمان.

ومن صورها أيضا أن الوزير دييكو أخ زوجة السلطان محمد بن أمية كان يكن له مشاعر الحقد والكراهية ويحسده على مكانته لدى الناس وهو صغير السن، فتواطئ مع كاتب السلطان أركش على خيانة الثوار؛ حيث قتلا رسول السلطان إلى ابن عبو بقرية البنيول، وزورا رسالة السلطان إليه، وطلبا في الرسالة المزورة من ابن عبو تجريد رجاله من السلاح وقتل المتطوعين الأتراك والمغاربة والجزائريين، وهو ما زرع الفتنة بين الثوار، حيث توجه ابن عبو والقائد التركي حسن وعبد الرحمان إلى السلطان لمواجهته بخيانة الثورة، فنفى السلطان ذلك ودافع عن نفسه معتبرا الرسالة التي توصل بها ابن عبو رسالة مزورة، لكن الكاتب أركش كذب وادعى أن السلطان محمد بن أمية هو من أملاه الرسالة، وهكذا تم اعتقال السلطان ووضع على حراسته الخائنان أركش والوزير دييكو اللذان قاما بقتله في ليلة عرس القائد التركي مأمون وعائشة الذي تحول إلى مأثم، ثم بايع الثوار محمد بن عبو سلطانا عليهم بموافقة من حاكم الجزائر، وكان دييكو ممن يرضون بالذل والمهانة ويتواطؤون مع الحكام الجدد مقابل بعض الفتات، وقد تمكن عبد الرحمان من الانتقام من الكاتب أركش الخائن الذي أخبره أن دييكو الوزير رحل إلى مدريد بعد أن قبض ثمن قتل صهره ابن أمية، وفي نهاية الرواية سيتمكن عبد الرحمان صائد الخونة من قتل دييكو بقرطبة.

ومن صورها كذلك أن الحبقي المجاهد أحد أبرز قادة الثورة، والذي كان يواجه الرئيس ديسا بكل جرأة سيتحول إلى خائن حيث قبل في مفاوضاته مع الدون خوان النمساوي الأخ غير الشرعي للملك فليب الثاني بتكليف من السلطان ابن عبو بخفض السلاح والرحيل عن البشرات، وهو الأمر الذي لم يرض به السلطان ابن عبو، فتحالف الحبقي مع القشتاليين لقتله، لكن السلطان تنبه إلى خيانته فقتله، كما أن القائد الشنيش تحول هو الآخر إلى خائن فتحالف مع الدون خوان النمساوي وتمكن من قتل السلطان ابن عبو، وهكذا تم القضاء على ثورة البشرات.

 

عمر القدري

.........................

الهوامش:

[1] ـ البشرات: إبراهيم أحمد عيسى، مؤسسة إبداع للترجمة والنشر والتوزيع، ط.2، ص.14

[2] ـ المصدر نفسه، ص.15ـ16

[3] ـ المصدر نفسه، ص. 16

[4] ـ المصدر نفسه، ص.97

[5] ـ المصدر نفسه، ص.140

[6] ـ المصدر نفسه، ص. 152

 

في المثقف اليوم