قراءات نقدية

ما يظهره العرَّاف.. قراءة في قصيدة أنت الدنيا

رحيم الغرباويللشاعرة هيام محمد علي

الشعر وسيلة من وسائل التعبير عن وجود الذات بوصفه النغم الذي يكمل نواقص إيقاع الوجود، بل هو المثال المستبطن فيما يسمى بالجوهر الذي يتمرآى للعيان، لكن أثره يبقى يشع في الآخرين، فالمثال حسب الفلاسفة الإغريق، ومنهم أفلاطون الذي يرى: أنَّ عالم المثال هو عالم الجوهر، أما الأعراض فهي تمثل العالم الدنيوي بما فيه البشر الذين يكدحون من أجل أن تتحقق لديهم صورة الكمال، لذا فالشعر حالة طبيعية حين يكون مصدره المثال الماكث في أعماق شعور الإنسان وحسب أدموند هوسرل الذي يرى أنَّ الحقائق ماكثة في الشعور، ولعل الشعراء حين يعبِّرون عن هواجسهم وأحاسيسهم، فيعالجون بها موضوعات متنوعة من أجل إكمال النقص الموجود في الحياة، إذ أنَّ لكل نسخ نواقص وهكذا فالحياة الدنيا أعراض لاترقى إلى المثال (الجوهر)، ما حدا بالفنانين لاسيما الشعراء ينظمون الشعر بأجمل صورة، فيضفون من قدراتهم الذهنية بما يسميه أرسطو (الطاقة الخلاقة) ممزوجة بصورة الواقع لإكمال النقص الحاصل لهذا الواقع، فتأتي نتاجاتهم بأرقى صور الاكتمال؛ ما يجعل المتلقي يندهش؛ لأنها تطابق صورة المثال بجوانيته المغروسة في عوالم لاشعوره الذي يتيقظ حالما تلامسها صورة المُنتَج، وهي تتطابق مع صورة المثال لديه .

ولعل شعرية الشاعر تكمن في إدراك ما يضمره الشعور تجاه الواقعة؛ فيعبِّر عنها تعبيراً من خلال توظيف تقنيات أسلوبية تبعث على الشعور بالجمال لدى المتلقي؛ ليعالق إحساسه بتجربة الشاعر الفنية من خلال إعادة الأخير " تشكيل اللغة ومحاولة مستمرة لصهرها حتى تعادل حرارتها حرارة الحياة الإنسانية ... الأدب عملية خلق متصل لأنساق اللغة وبعث دائب للكلمات " (1)

ولعل الشعر النسوي بذاته شعر صادق الأحاسيس إذا ما خالج صاحبته شعور يعبِّر عن تجربة إنسانية شفيفة سواء أكانت التجربة واقعية أم متخيلة، وخير مثال له شعر هيام محمد علي التي تكتب بفردات مشحونة بالمشاعر الإنسانية إذ نراها تترك بصمتها لدى قارئها، بيد أنَّها ترفل بالشفافية والعذوبة حين تتوجه للحبيب ببطاقة شعرية وهاجة، تقول في قصيدتها (أنت الدنيا):

أنت عمري

ومازالتْ

عيناي

تترقبان

نورك .

مازلت

أجلس

بزاويتي

الظلماء .

نرى النص يتشح برداء الحزن جراء فراق الحبيب الغائب، لكنها هي المرأة الوفية المخلصة التي تترقب مجيئه كل لحظة بدلالة الفعل الناقص (مازال)، بينما هي ما زالت تجلس بزاويتها الظلماء، إشارة إلى حزنها وشوقها لمقدمه، فالظلمة رمز الحزن والألم واللوعة، بينما رمز النور (نورك) الذي يدل على وفائها إليه، فضلاً عن أنَّ الغائب يمثل نور حياتها الذي به تشرق سعادتها .

ثم تقول:

أترقبُ

إشراقتك

في سماء انتظاري،

في شعاب أفكاري،

وفي لوائح قلبي

التي أرَّقتها من حزن

أسراب أشعاري .

أردد أرجوزتك التي تتطوف

على حقول

مواسمنا

وحطَّت من شوق

على جفون أوتاري.

إذ نراها تكرر المعاني التي رصدناها سلفاً، لكن باستبدال الصيغ الشعرية التي مثلت تأكيد المضمون فتوقفت عليه القصيدة، وهذا التكرار للمعنى يأخذنا أن نتوجس طريقين: الأول: هو حيرتها وقلقها تجاه الحبيب المُنتَظر، والآخر هو العيش في ظلاله، وجعل الوقت مواسياً لها، فنراها تردد نفس الموضوع الذي تؤثر الوقوف عليه، وإنْ كانت حركة الجمل متسارعة، كونها بدأتها بالأفعال التي تدل على الحركة والتجدد: (أترقب، أردد، تتطوف، حطَّت) التي تعبِّر بها عن مدى تمسكها بحلمها الممثَّل بالأرجوزة، وهي تستشعرها تحط كالفراشة على جفون أوتارها، والأوتار تمثل عالمها الشعوري الرقراق .

ثم تختتم، فتقول:

كلُّ العمر

أنت

ياعمري

فأين

أمضي، وأنت من أرَّق

ليلي

وهاجرَ طيوب أسحاري؟

وهنا نجد المفارقة والتي لخَّصت تجربتها فيها، لكن نراها تمنحه العذر المفرغ من الدليل، وهي تعاتبه على أنه هو من أرَّقَ ليلها، وهو من هاجر طيوب أسحارها.

وعلى الرغم من بساطة الموضوع إلا أنَّه يمثل لنا ظاهرة عامة في المجتمع تجعل أبناءه أسيري الأزمات والعيش في متاهة الضياع، والذي نرى الشباب اليوم لاسيما المرأة في ظل ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية غير مستقرة في بلد يعيش فوضى ضاربة الأطراف .

 

بقلم د. رحيم الغرباوي

 

 

في المثقف اليوم