قراءات نقدية

يوسف علوان: الاستهلال والفضاء الروائي في رواية: مصل الجمال - اولاد كلب

1- الاستهلال: في اكثر الاحيان تستهل الرواية بمقدمة أو بافتتاحية تسمى "الاستهلال" للدخول إلى عالم احداثها. ويعد الاستهلال من أهم عتبات النص الموازي التي تساعد في الدخول الى عالم النص الأدبي، وهو من العناصر المهمة للبناء الفني، وبمثابة مدخل أساسي لولوج عالم الرواية الحكائي، ويرتبط به بعلاقة تواصلية حقيقية؛ كذلك يساهم في استكناه النص الروائي، ويهيئ القارئ للخوض في عوالم الرواية الخيالي. ولهذا الاستهلال صفات تشترط فيه توفر الجانب الفني واللغوي والفكري، وكذلك يشترط أن تكون البداية مثيرة وقوية لكي تتمكن من جذب القارئ للعيش في عالم الرواية المفترض، كذلك يمهد له الطريق إلى أسرار هذا العمل الداخلية!

في رواية "مصل الجمال - اولاد كلب" للروائي عبدالزهرة علي، يقودنا الاستهلال الذي ابتدأ فيه الكاتب روايته، في اول مقطع منها (الرواية تكونت من 28 مقطعاً) حالة المدينة التي تجري فيها احداث الرواية، وتلك المدينة هي انعكاس لما مر به العراق بعد احداث 2003، وما جلبت هذه الاحداث من مآسي وويلات، اضافة للعذاب الذي كان يعيشه العراقيين قبل هذه الاحداث من جوع وعوز، بسبب الحصار الذي فرضه المجتمع الدولي بعد دخول العراق الى الكويت، هذا الحصار الذي لم يعاني منه النظام ورجالاته، بل كان تأثيره كبيرا على حياة الناس البسطاء العاديين، الذين لم يمتلكوا كسرة الخبز، فلجأوا الى البحث في مواقع النفايات ليقتاتوا على ما توفره هذه القمامة التي كبرت وامتدت حتى صارت مجتمعا قائما بذاته، هذا الحصار الذي لم يكن تأثيره على الاقتصاد واستيراد الحاجات الضرورية للانسان فقط، بل أمتد ذلك التأثير على قيم واخلاق الناس، فتوحشت الناس فيه وبدأ القوي يأكل الضعيف، حتى تحول هؤلاء البشر الى حيوانات ضارية، تعتاش على اصطياد الفرصة لسرقة بعضها البعض. الجوع والحاجة هي التي حولت البعض من هذا المجتمع، الى عبارة عن كلاب، تتمسح باسيادها حتى تصل الى مبتغاها للاضرار بالآخرين. وكان الترميز في هذه الحالة، لاشباه الناس الذين نشهد في هذا الزمن صعودهم وتسلمهم دفة ادارة البلد، والتصرف بامور البلد بشكل فاضح غير عابئين بأحوال الناس، التي وصلت الى اسوأ مما كانت عليه في ايام الحصار.

بدأ الكاتب الاستهلال بوصفه للمزرعة، التي تمثل العراق، في احداث العام 2003، وحالة الجو التي كانت ترمز لما كان يعيشه البلد آنذاك. وقد استعار في وصفه للمطر الذي يرمز به دائما للخير والبركة، الى سببا لحالة الطرق الموحلة التي يصعب الخوض / السير فيها. راسماً صورة بائسة للشخصية/الرمز في الرواية (الكلب الرمادي) الذي اصبح بعد فترة من هذه الاحداث صاحب شأن، بعد استيلائه على بعض الاراضي من خلال تقربه من النافذين الجدد في البلد، واصبح بعد بيعه هذه الاراضي من الاغنياء. وقد استعان في هذا التصور الرمزي ببعض الحيوانات التي كانت تسكن هذه المزرعة/ العراق، مصورا لردة فعل تلك الحيوانات على دخول "الكلاب" والاستيلاء على كل شيء فيها ومن ثم تخريبها؛ فكانت "القرود" اكثر استعدادا لقبول هذا الاجتياح، ومع ان الجميع في المزرعة: "الابقار والمواشي والغزلان وبحيرة الاسماك" التي بقيت بدون حراسة بعد ان غادر رجالها/ القوات الأمنية والجيش: "تاركين اسلحتهم ومعداتهم في اماكنهم" هاربين والبعض منهم، والذين كانوا يوصفون بالاقوياء (هربوا بملابسهم الداخلية). لم يكن لتلك الحيوانات القدرة على مقاومة ذلك الاجتياح!

اراد استهلال الرواية الذي سطر على صفحات المقطع الاول من الرواية، ان يصور الحالة التي كانت تمر بها المزرعة/ العراق، في ذلك الوقت، وحالة الهلع التي اجتاحت حيواناتها، بعد رؤيتها لاعداد الكلاب الكبيرة الراكضة باتجاهها والتي تحاصرها: "يثبون راكضين في اللا اتجاه". هذه الصور التي يرسمها الكاتب لحالة الفوضى التي عاشها العراقيون، في ذلك الاجتياح الذي وقفوا امامه عاجزين عما يقررونه! فالخلاص من نظام البعث كان امل الجميع، بعد ما عاشوا تحت ظلم ذلك الحزب وبطش اجهزته القمعية، وتحملوا حروبه ومغامراته الصبيانية، لذلك كان موقف الشعب العراقي من احتلال العراق، هو ترقب ما الذي سيحصل بعد ذلك، وبالاخص ان الهدف المعلن لقوات الاحتلال كان هو تخليص العراق من حكم صدام.

تكلم الاستهلال عن المكان/ المزرعة، وتكلم عن الزمان/ ايام دخول القوات الامريكية العراق في العام 2003 ، وتكلم عن الاشخاص/ الكلاب، التي كانت تجري مسرعة لتأخذ حصصها، عندما حان موعد انتقامها كمجموعة من الانتهازيين: "اليوم وطئت قوائم كلاب غريبة مدينتنا والتي جاءت من اللامكان"(ص7). فهل ساهم هذا الاستهلال، الذي شغل المقطع الاول من الرواية، في استكناه النص الروائي وهيأ القارئ للخوض في معالم الرواية الخيالي؟ والدخول في عوالم احداث ما بعد 2003، التي ما زلنا نعيش وقع احداثها، وما جرته علينا من ويلات اضافة لما كنا نعاني في نظام صدام؟

الذين عاشوا هذه الاحداث سيكونون معنيين بالاستمرار بقراءتهم لهذه الاحداث، لان الشخوص التي ذكرها الاستهلال او اشار الى مرموزاتها؛ "الكلاب" و"القرود" و"الابقار" سيعرفها القارئ الذي عاش فترة ما قبل احداث 2003. اما الذين ولدوا بعد هذه الاحداث، وهم اليوم جيل الشباب فسوف تجذبهم غرابة احداث "المزرعة" وحيواناتها!

2- الفضاء الروائي:

يشكل الفضاء الروائي، الحيز الزماني الذي تظهر فيه الشخصيات واحداث الرواية، وهو ضروري للسرد لكي ينمو ويتسع، ويحتاج الى عناصر زمانية ومكانية، كذلك يرتبط بزمن السرد ويقيم صلات وثيقة مع باقي مكونات النص، وفي مقدمتها علاقته بالحدث الروائي والشخصيات التخيلية. بل يمكن القول إن الفضاء الروائي هو مجموع الأمكنة والأزمنة في الرواية، والمدى الذي تتحرك نحوه الرواية عبر الشخصيات والأحداث ومسارها، وهو العالم الواسع الذي يشمل مجموع تلك الاحداث فـ(مكب الازبال وبناية المستشفى التي لم تكتمل، وبيوت التجاوز التي شيدها المواطنون الذين لا يمتلكون سكنا في المدينة التي تدور فيها أحداث الرواية، وما يعانونه من جوع وحاجة، واعتمادهم على ما يلتقطونه من تلك النفايات من حاجات بسيطة، لا توفر لهم الا النزر البسيط من النقود التي يحتاجونها في حياتهم اليومية: "اسراب النسوة الملفعات بالسواد يبحثن في النفايات المرمية في الساحات الفارغة بين البيوت عن العلب الفارغة والقناني واسلاك النحاس، ثمة جيش من القطط والكلاب والذباب يزاحمهن في نبش القمامة.."(ص21) كل تلك الصور التي اجاد الكاتب تصويرها لنا، ليرسم صورة مطعمة بالعوز والفقر، لما هو حال هؤلاء الفقراء سكنة هذه البيوت المتجاوزة، التي لا يصح تسميتها "بيوت"، لان اكثر هذه البيوت لا تمتلك ابوابا لتستر ساكنيها فاستعانوا ببعض البطانيات وقطع القماش لتكون ابوابا لبيوتهم! ما هي الا صورة بائسة لحياتهم! مع ان هؤلاء المساكين، لم يسلموا من اذى النظام السابق وافعاله. مثل (المخبول) الذي تبين انه قد تم اعطائه حقنة أدت به الى هذا الجنون الذي يعيشه، بعد ان تم اعتقاله بضعة اشهر. وقد تكلم عن معتقلين كانوا معه في المعتقل: "اشخاص اعرفهم تاجروا بايام اعتقالهم وملأوا كل الجلسات فخرا بنضالهم، كنت اسمع صراخهم بنفسي، بكاءهم، توسلاتهم"(103). اصبحوا فيما بعد احداث 2003، من رجال السياسة والمتنفذين. وكذلك ثائر (الاخرس) الذي فقد القدرة على النطق مثل الآخرين، وكان يستعين بالكتابة لما يريد ان يقوله او يعبر عنه في ورقة لصعوبة نطقه! فزع عندما عرف ان الضيف الذي دعاه (جلاب) لزيارة المنطقة واقام احتفال لاستقباله، محشدا كل المتواطئين والمتزلفين لـه، هو الذي كان سببا في قطع لسانه، وانهما كانا زميلين يشتغلان في صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة عسكرية. وكان شاعرا فاشلا، بعد التغيير اصبح محللا سياسيا، لانه عرف اللعبة وهو مثل الكثيرين "باعوا انفسهم في الزمن الماضي والان يتصدرون المشهد، ذلك الرجل الذي سرق مخازن الدائرة وسجن. وهناك اصبح عينا للحراس وكثيرا ما وشى على العديد من رفاقه السجناء"(113).

وحكاية التاجر الذي اشترط على زوجته ان تبقي كلبه بعد موته ليعيش معها، وما يحدث لهذه الزوجة مع هذا الكلب. وثيمة الجينات التي تولد او تتكون من ممارسة بعض النسوة للعملية الجنسية مع تلك الكلاب، وولادتهن لاشخاص يتحولون في بعض الاوقات لكلاب، رغم غرابتها، لكن الكاتب اراد ان يرسم لنا صورة للانحطاط القيمي الذي وصلت له الأمور بعد احداث 2003، وتغيير تلك القيم التي تربى عليها المجتمع العراقي الى سلوك نقيضها، فالسرقة والتملق ونسيان العهود، حتى اصبح من السهل ادعاء الأمانة والصدق في تعاملات الناس، وادعاء العفة والصلاح من خلال ارتداء ملابس رجال الدين، رغم ان حقيقة هؤلاء هي الاحتيال والضحك على الناس البسطاء، والتغرير بهم؛ وهذا ما أجاد فعله الشخصية السيئة في الرواية (جلاب) الذي كان يرمز له الكاتب بـ "الكلب الاقرع" الذي سار مع المد الاسود بعد أحداث 2003، وتمظهره بالطهر وبنائه لجامع وادعائه بالتدين، بعد ان استولى واستحوذ على الكثير من اموال الناس والدولة، بعد تقربه من السياسيين الذين جاءوا بهذه الاخلاق واصبح ديدنهم هو الاستيلاء على كل ما يستطيعون الحصول عليه، بعد غياب القانون وتقوية سلطة المال والسلاح والقيم المنحرفة التي عملوا عليها!

الرواية دعوة لاصلاح الامور، التي تدهورت في البلد، من خلال اعادة القيم الحسنة التي اضاعها المجتمع، بسبب السياسة التي لا تعير القيم والاخلاق أهمية تذكر. والعودة الى قيمنا العريقة والاهتمام بنواحي الأدب والجمال والفن ورفض الافكار الغريبة التي تريد ارجاع البلد الى القيم التي امست بعيدة وغريبة عن مجتمعنا، قبل ان تدفعه السياسة الى حافة الهاوية.

***

قراءة : يوسف علوان

في المثقف اليوم