قراءات نقدية

عبد الجبار نوري: فجائعية الثمانينيات في رواية "كم أكره القرن العشرين" لعبدالكريم العبيدي

إن الكاتب ولاعب رقعة الشطرنج كلاهما يلعبان (العقلانية) على رقعة جغرافية الواقع في مواجهة الحدث، وهكذا أقتحم العبيدي(الواقع) بجرأة وثقة كبيرة في كشف أفرازات القرن العشرين التعيسة وما تبقى من فواتير الخيبات والنكوصات لتلك الحروب العبثية الملوثة بالحصار الأقتصادي الظالم، نعم (غداً) سوف تسددها جراحات الشعب العراق .

إن سيمياء العنوان "كم أكره القرن العشرين" يحمل كل مفردات السيمياء والتي هي (أداة) لقراءة السلوك السايكولوجي للذات البشرية في عموم مظاهرهِ المختلفة بداً من الأنفعالات مروراً بالطقوس الأجتماعية والأنتهاء عند الآيديولوجيات، وتدور أحداث الرواية في ثمانينيات القرن الماضي وتحكي حياة أبطالها من جيل الشباب الغض مرغمين ومدفوعين  إلى محرقة الموت حيث المجهول والضياع . 

أبرر كراهية الروائي العبيدي للقرن العشرين وأشاطرهُ الرؤى فيها لكوني تعايشتُ مآسيها وخيباتها ومطباتها التأريخية مثل (الحرب العراقية الأيرانية 1980 ، ضرب حلبجة بالكيمياوي 1988، حرب الكويت 1991، قمع الأنتفاضة الشعبانية 1991الحصار الأقتصادي 1991)، وأبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد تلك الحرب بمسلسل درامي في هجرة آلاف من الأ سر البصرية وتألم الروائي البصري من أوجاع البصرة وما أصابها من شظايا تلك المآسي والويلات لتلك الحروب المجنونة، ودخل العراق في القرن الواحد والعشرين بأم النكبات التي هي الأحتلال الأمريكي البغيض في 2003، لذا أثني على رؤية الروائي عبدالكريم العبيدي في كراهيتهِ للقرن العشرين ولآن الرواية تحكي عالم أبناء جيلنا وطفولتنا ومراهقتنا وشبابنا وأمنياتنا وأحلامنا الممنوعة ومدينتي بغداد التي غادرتها ولم تغادرني، إنها الرواية الواقعية ذات النهايات المفتوحة بأسئلة وأرهاصات سوداوية لم تتم الأجابة عليها، لقد أقنع المتلقي بكونها منجز أدبي وثقافي متكامل من بنية معمارية وهندسة لغوية ونصية نثرية برصانة أدبية شكلاً ومضموناً، وهو يريد توصيل القاريء إلى أن السعادة تنبثق من ليل الألم الطويل عبر مطحنة الصراع الطبقي التي أجهزت على الطبقات الفقيرة بلا رحمة وكأنها هي المعنية وحدها بفواتير الحرب الثقيلة، فهي حكاية تراجيدية مأساوية لتلك الزمكنة السوداوية المظلمة ذات البوصلة المضطربة، وبحبكة سردية رصينة يلقي ضوءاً كاشفاً على صيرورة وكينونة جيل القرن العشرين على أنهُ : فقد الأحساس بالزمن ولم يعي لديناميكية الظواهر السوسيولوجية عدا الدموع والجنائز وخيم الفواتح والجدران الموشحة بيافطات سوداء تحكي أسماء دافعي فاتورات تلك الحرب المجنونة وهم يتعايشون خلال فراغ زمني موحش يجتر الغيبيات في تقديس القديم بعفوية فطرية بسبب فوبيا المجهول، وهو شيءَ طبيعي حين تنحوالطبقات الفقيرة البائسة إلى ما هو معروف بألعاب الحظ ولو إنها من أختراعات مافيات المال والفساد للوصول إلى المال السهل .

نجح الروائي العبيدي في أظهار مأساة جيل الحرب العبثية ومقصلة الحصار الأقتصادي والتآسي للذين ولدوا أبان تلك المطحنة البشرية وأكتوت طفولتهم المبكرة بمآسي حصار الموت البطيء وتهجروا قسراً، حقاً هو كاتب محترف بميتافيزيقية الكينونة البشرية وأعماقها المظلمة بتوليفة نهايات براكماتية تعكس الواقع .

اسلوب الروائي عبدالكريم العبيدي

-يلقي الضوء الكاشف برشاقة وشفافية متناهية على سرديته النصية وترويج تكريس " السلام العالمي. "، ونبذ الحروب والنظم الشمولية وهو القائل: ومن قال : إن الحرب فيها منتصر!؟ وهي تسرطن النفوس .

- وبروايته يحتفي بقضايا الرأي والثقافة والتأريخ .

- توظيف تجارب أدباء عالميين في الصبر والمطاولة القيمية المعرفية متقارباً مع صبر همنغواي في روايته الشيخ والبحر.

- توظيف تصارع الأضداد (العقل والجنون، الحرب والسلام، الخير والشر، الرحمن والشيطان، الحقيقة والزيف) .

- تمكن من رسم السعادة بأرق معانيها وعرى واقعية الحرب بكل جرأة مبيناً عبثية الحياة في جغرافية أتون الصحراء الملتهبة والمستلبة للروح البشرية، لذا اراهُ يلقن أبطال روابته معايشة الجفاف الروحي .

- وجدت في قراءة الرواية: بروز الملامح وحركية الأبداع والتجريب في الخطاب الروائي، حينها أبدع الروائي عبدالكريم في تجسيد أوجاع تلك الجريمة بمسلسل درامي في أستلابات الحرب وهجرة الآلاف .

- أعتمد الروائي على سيمياء العنوان كما هو أسلوب أكثر الروائيين عموماً نموذج رواية ماركس في العراق للروائي فرات المحسن في أستعماله أسما بارزا، وربما تنحو عند ألآخرين إلى السعة والتنوع كما في رواية الرجع البعيد لفؤاد التكرلي والنخلة والجيران لغائب  طعمة فرمان، والثلاثية لنجيب محفوظ، ربما ترى سلبية عادية في سريان اليأس في أدبيات الروائي الفذ العبيدي في الفصول الأولى وهو شيء طبيعي يظهر في أغلب الروايات العالمية، وهويقول: كثيراً ما أذلني اليأس من مرارة التجوال داخل أزقة غدت عزوفة عن تقبل أي أحساس يداهمني من خارج خوائها شاخت البصرة يا (بالاجاني) غادرت ماضيها بلا رجعة، وتحولت نهاراتها إلى مترادفات مبهمة قبيحة الوجوه وفاقدة للوضوح، أيضاً لم يعد فيها ما سيستوجب التمعن أو يستحق أي رثاء لقد بدأ الأمر وكأن البصرة قديمة تنزاح مقسمة لمعاول الخراب، رسم ركام دولة جديدة من دويلات أواخر القرن، وببراعة الروائي نقل الفعل من واقعه الحقيقي إلى عمل فني يترك للمتلقي خيال الم مزدوج بنوع من الأضطراب والقلق المتأتية من فوبيا جمهورية الخوف والأستدعاءات الشبه أسبوعية من قبل دوائر الأمن وليس بالضرورة أن يعود إلى البيت لحماً حياً أو يبتلعهُ الثقب الأسود لجمهورية الرعب .

- وشكل العبيدي في رواته الرائعة " كم أكره القرن العشرين " نسيجاً محكماً في سداه ولحمته من خلال الأحداث الواقعية على جغرافية العراق في الحرب والسلم والحب والكراهية والرعب والأمان والموت والحياة .

- وأجمل ما في الرواية وجدتُ بمجمل فصولها شعبية واسعة من الجمهور المتلقي والأعجاب الشديد بفصول الرواية لتسلسل الأحداث وتراكيبيتها التأريخية ربما تأثر الروائي ببعض الفلسفات كالفلسفة اليونانية والفلسفة الماركسية من خلال معالجته للأحداث وهي مارة بالصراع الطبقي وحتمية التأريخ .

- ويتألم العبيدي من بؤس ووجع البصرة الفيحاء ويقول في فصله الأخير: لابد أن أقر بهزائمي لم يعد العقل أعدل الأشياء توزعاً بين الناس يا " ديكارت " في هذه المدينة المجنونة هو بيت الداء المسكون بالجن، النخل شاص مبكراً وبات في أعنف نوبات شكوكك يا "ديكارت "وتكون مسؤولاعن أول ضربة معول في فوضى هذه الحواس .

***

عبد الجبار نوري - كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

ديسمبر2023

 

في المثقف اليوم