قراءات نقدية

احتمالات الشاعر سامي مهدي باتت في فكَّي مسخٍ هزيل

رحيم الغرباويفي أحيان كثيرة يجسد الشعر رحلة عذاب وألم، ومحنه فادحة إذا ما عاش الشاعر في عصر المحن بوصفه الصوت الذي يعبر عن لهاث المظلومين والفقراء والمساكين في زمن تشيع فيه روح الانكسار؛ نتيجة الظروف القاهرة التي تسود البلاد .وكلما ازدادت المعاناة نطقت القصائد بها كأنها نيران مراجل، ويبدو أنَّ الشاعر العربي لاسيما العراقي في تاريخنا الحديث والمعاصر وهو من يمثل أبناء جيله يواجه كثيراً من الظلامات التي تسببها السياسات الخاطئة، ما يجعله يبوح بصراخه شعراً، إذ نرى شعوره فيه أمَّا متألماً أو رافضاً أومبتئساً، وفي عصرنا الحاضر كما في الأمس يعبّرعن مصير أبناء شعبه في حين بلده يساق نحو المجهول؛ نتيجة للأوضاع السياسية القاسية التي أناخت كلاكلها فيه، ما يجعله يعبَّر عن رفضه للواقع المزري الذي نفد منه الصبر .

ولما كان الشعر سلوكاً وجدانياً ينشط في الإنسان عندما يحل به الكمد أو الحزن، الفرح أو الغبطة، فيتمرآى في وجدانه فيضطر أن يبوح به، للتعبير عما يستشعره، لذا نجده مؤثراً، كونه نابعاً من جوهر الشعور الإنساني العالمي الذي ينبثق بالقوة نفسها لدى جميع أبناء الإنسانية حين يكون صادقاً في التعبير عن هواجس صاحبه تجاه قضاياه الإنسانية.

وقصيدة (انتظارات) للشاعر سامي مهدي، هي واحدة من القصائد التي وثَّقت معاناة الشاعر، وهو يعبِّر عن محنة وطنه في ظل الأحداث التي يمر بها البلد من ظلمٍ وجور وتقتيل وفساد، يقول :

بعد هذا الطريق الطويل

بعد هذا العناء المُحمَّل بالممكن المتوقَّع

والمشتهى المستحيل

ما الذي يتبقَّى في يدِ الاحتمالات

غيرُ انتظارِ غدٍ غامضٍ

وولادةِ مسخٍ هزيل . ؟

ولعله يتذمر لأنَّ طريق النضال كان طويلا والجميع يتأمل خيراً لكنه مشوب بالشك، فالطريق الذي آثره المناضلون أخيراً هو طريق لم يتَّسم بالاستقامة، وأنَّ المشتهى فيه بات مستحيلاً، وإن كانت الاحتمالات فيه مطروحة، لذا نراه يتساءل عن تلك الاحتمالات التي ليس لها سوى انتظار أملٍ يستشعره قائماً بيد أنه يراه بعين المستبصر ولوداً لمسخٍ هزيل، أي أنَّ الأمر ليس كما يرام، بل يراه مثقلاً بالشؤم والبؤس اللذين يؤديان إلى نتائج هزيلة .

ليسَ ثمَّةَ ما يُبهجُ القلبَ في ما نراه

فالهواء تعفَّنَ

حتى استوى في العفونهِ

ما لامستهُ وما لم تلامسهُ مِنَّا يداه:

عَفَنٌ في الحروب

عَفَنٌ في القلوب

عَفَنٌ في الجراح

عَفَنٌ في الشَّجر

عَفَنٌ في الحجَر

عَفَنٌ في أشعةِ شمس الصباح

وأبخرةُ الدم لمَّا تزلْ في ثقوبِ الأنوف

والحتوف

شُرَّعٌ كلُّ أبوابها

وألوفُ الألوف

تتضوَّر في بؤسِها .

فهو يشير إلى البؤس الذي يعيشه أبناء الوطن، إذ ليس من بهجةٍ تراها القلوب فالهواء تعفَّن وحين يتعفن الهواء يبدو كل شيء مرعِباً، إذ لاحياة ستستمر مادام الوباء يطفح في الأفق، فالحروب والجراح والشجر والحجر وحتى أشعة الشمس،   تلوثت من فداحة الظلم والتقتيل، فأبخرة الدم تجتاز الأنوف كناية عن القتل الجماعي اليومي الذي ساد البلاد وأفنى العباد، بينما الحتوف مشرعة أبوابها وما التفجيرات والقتل على الهوية ماهي إلا سلسلة مميته من الإرهاب الذي ساد البلاد، فتضورت الناس من فرط بؤسها عليهم.

ولعله يوعز بذلك التقتيل إلى جهات خارجية وأذنابها في الداخل، فراحت تقتل وتسفك الدماء من أجل مشاريعها الوضيعة كتجارة الأسلحة والنفط وغيرها بينما الناس تموت بدمٍ بارد، فهو يقول :

والمزادات مفتوحةٌ

وسماسرة السوق لاهون

إلا عن البيع

أمَّا المفوَّض في أمرنا

فهو يهبرُ من لحمِنا

ما يرى فيه من مشتهاة .

فهو يشير إلى المفوَّض في أمرنا إلى تجار الموت من السياسيين المتعاقبين على حكم البلاد، إذ لاتهمهم أرواح الناس، فصاروا يهبرون من لحمنا من دون مشتهاة، ثم يتساءل، فيقول :

ما الذي نرتجيه إذن، من زمانٍ عليل

وقرود تقلِّب دفَّتهُ، وهي سكرى

بما شَرِبت من دماءِ القتيل ؟

ما الذي يتبقَّى لنا في يدِ الاحتمالات

غير انتظارِ غدٍ غامضٍ

وولادةِ مسخٍ هزيل .

فيرى أنْ لارجاء في هذا الزمان العليل الذي تقود بلدنا فيه القرود الذين ليس لهم سوى مصلحتهم النتنة، وهي يعيشون سكارى بدم أبناء الوطن، فنراه يائساً من كل ما قرأه عن الساحة السياسية من احتمالات، فوجد مستقبلاً منكسراً، بل وفي انتظار مسخ هزيل، وهي رسالة لجميع الحكام في العالم ممن تسببوا في قتل أبناء بلاده من أنَّ  الدم المراق ماهو إلا رسالة الحرية والسلام اللذين اغتيلا بقتل المطالبين بهما، وأنَّ الدم المراق لن يذهب سدى، فمن اغتيل ستظل تحمل صوته قصائد الشعراء ورسائل الأدباء للأجيال التي ستقع على عاتقها مهمة النضال من أجل الحرية والعيش بسلام .

 

بقلم: د. رحيم الغرباوي

 

في المثقف اليوم