قراءات نقدية

أدب الأوبئة والجوائح: رواية الطاعون لـ ألبير كاموا "أنموذجاَ"

محمود محمد عليفي ظلّ الأجواء التي تخيّم على العالم جراء استفحال وباء فيروس كورونا تداول الكثير من القراء وعشاق السينما، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الكثير من الأعمال الروائية والسينمائية التي تناولت هذا الموضوع في سياق كلاسيكي لأوبئة وجوائح فتاكة عرفتها البشرية على مر تاريخها كالطاعون والكوليرا والسل، وأخرى ذات طابع خيالي تم تناول أغلبها في إطار وصف مجتمعات ديستوبية Dystopia مستقبلية تمثل لكتابها, وخصوصا منهم كتاب الخيال العلمي الغربيين، آخر مراحل التواجد البشري على الأرض.

لكل وباء أو كارثة أو مأساة كِتابها المفضل، ورواية “الطاعون”  La pest(1947) للأديب الفرنسي “الوجودي” ألبير كامو، من أشهر هذه الأعمال التي عرفت انتشاراً واسعاً في أدب الأوبئة والجوائج ؛ وقد جاز بها علي جائزة نوبل في الأدب، كما أن هذه الرواية تعد أول نجاح كبير للكاتب من حيث المبيعات (161000 نسخة في السنتين التي تلت النشر، وملايين النسخ منذ ذلك التاريخ).

ومع تفشي فيروس كورونا في عام 2020، كانت الرواية الأكثر مبيعًا، كما أشارت صحيفة البيان الإماراتيّة إلى أنَّ دار «بنغوين» للنشر أعادتْ طباعة الترجمة الإنجليزيّة للرواية تلبية للطلب المتزايدِ عليها، لاسيّما وقد نفدَ المخزون منها على موقع «أمازون» مع ارتفاع المبيعات في الأسبوع الأخير من فبراير بنسبة 150% عن نفس الفترة من عام 2019، وفي حين تصدَّرت الرواية قائمة المبيعات في إيطاليا، ارتفعت مبيعاتها في فرنسا أيضا بنسبة 300% عن العام السابق.

وذكرت صحيفة “لوموند” الفرنسية أن رواية “الطاعون” للفرنسي ألبير كامو عام 1947، و«العمى” للبرتغالي جوزيه ساراماجو عام 1995، شهدتا انتعاشا في المبيعات بمكتبات إيطاليا، منذ اندلاع الأزمة الصحية في العالم.

آمن ألبير كامو بالفن أداة لمواجهة عبثية الحياة و" لاجدواها"، وقال " الفن عكس الصمت"، ورفض فكرة الانتحار بعكس باقي رموز الوجودية من الكتاب والفلاسفة، وبالإضافة إلي " الغريب" و" أسطورة سيزيف"  و" المتمرد" ترك كامو العديد من المؤلفات الأخري،ومنها رواية " الطاعون"، التي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية، وتتناول فكرة القدر الفردي للإنسان ومواجهة سكان المدينة لقدرهم الجماعي التمثل في الموت بسبب الطاعون. وتسرد الرواية حالة من الرعب تقارب بشكل رمزى ما يحدث فى الواقع المعاصر، حيث يؤدى الغزو للبلد من قبل جماعات الجرذان، إلى ارتفاع نسبة حصاد الموت دون وضوح سبب الموت الجماعي في البداية.

والحقيقة أنّ رواية كامو حول الطاعون كانت جدّ ثريّة بالمعطيات النفسيّة والاجتماعيّة لردود فعل أهالي المدينة (وهران) تجاه حالة الوباء، إضافة إلى المعطيات الطبيّة الدقيقة حول أعراض الطاعون وكيفيّة تعامل الأطبّاء معه في عقد الأربعينات من القرن الماضي.

وقد قيل بأنه في هذه الرواية سرد ألبير كامو من خلالها قصة واقعية جرت عام 1940 م في الجزائر في مدينة وهران، وصف فيها طبيعة الشعب الجزائري وعاداته وتقاليده ونضاله في صراعه ضد الاستعمار وضد التخلف والجوع وضد الطاعون الذى حصد الآلاف من الضحايا، ويعلن المجلس البلدى أن الوباء قد زال، وأن أبواب المدينة ستظل مقفلة والتدابير الصحية ستبقى على سبيل الاحتياط والحذر تحسبًا من عودة المرض مرة أخرى.

وخلالَ الرواية وضعنا كامو حرفيًا في أجواء الوباء، حيث وصفَ لنا أعراضه وعواقبه، لكن البعض رأى أن الميكروب كما بدأ من خلال عدسة المؤلف لم يكنْ فسيولوجيًا بقدر ما كان اجتماعيًا، فكريًا وفلسفيًا. وعلى الرّغم من أن روايته تتعقب تطوُّر وباءِ مُعين في مدينةٍ وبلدٍ وإطارٍ زمنيّ محدد، فإن موضوع كامو الحقيقي يقع خارج الزمان والمكان، خارج الرُّقع الجغرافية والأعلام والعملات والأناشيد الوطنية؛  يقول كامو إنَّه ضعفٌ إنسانيّ عالميّ: “الجميع يعرف أنَّ الأوبئةَ لها طريقةٌ متكررة في العالم، ولكنْ بطريقة ما نجدُ أنَّه من الصّعب أنْ نعتقد في أنَّها قد تسقط علينا فجأةً من السماء “.

بعد هذه المقدّمات، أعود الآن إلى تفاصيل الرواية،  فهي تتحدّث عن طبيب فرنسي يدعى الدكتور برنارد رييو Bernard Rieux يعيش في وهران بالجزائر (ولكن كلّ الذين يتعامل معهم في المدينة هم من الفرنسيّين، في تغييب كامل للسكان العرب!) وتعاني زوجته الشابة من مرض عضال استوجب نقلها إلى مدينة أخرى خارج وهران حيث تتوفّر ظروف أفضل للعلاج. وفي الأثتاء قدمت أمّ الطبيب لتعيش مع ابنها وتساعده في شؤون البيت.

في مدينة وهران، بدأت آلاف الجرذان، التي لم ينتبه لها الاهالي في البداية، تموت في الشوارع. وبعد ذلك، أخذت تلك الهستيريا بالتنامي والازدياد، الامر الذي جعل الصحف المحلية تتناول هذا الحادث. وبعد استجابتها لضغوط الاهالي، تأمر السلطات بجمع الجرذان الميتة وحرقها، غير مدركة أن تلك المجموعة نفسها كانت العامل المحفز لانتشار الطاعون الدبلي.

ثم يسرد كامو أحداث الرواية التي تبدأ في صبيحة السادس عشر من أبريل على لسان شاهد غامض، حين يرى الطبيب «برنارد ريو» ذلك الجرذ اللعين ميتاً أمام عتبة البناء الذي يسكن فيه، لم يعره أدنى اهتمام حينها، حيث اكتفى بإلقاء نظرة عليه ثم قام بركنه جانباً، لكن وبعد تكرار حوادث موت الجرذان يبدأ الطبيب بالتساؤل «أمن المعقول أن يكون الطاعون...؟!».

وهنا لاحظ برنارد ريو في البداية موت الفئران في المدينة بطريقة لافتة، ثمّ أصاب مرض غامض بوّاب العمارة وأودى بحياته دون أن يتمكّن الطبيب من إنقاذه. ثمّ بدأ المرض ينتشر تدريجيّا، ممّا جعل الدكتور وبعض زملائه يقتنعون بأنّها من أعراض الطاعون. وبذلك دُفعت السلط الجهويّة إلى إغلاق المدينة كليّا ومنع السفر منها وإليها. وانطلقت إنذّاك معركة الدكتور الكبيرة ضدّ الطاعون، حيث بدأت أعداد المصابين تتكاثر إلى أن صارت تعدّ بالمآت كلّ أسبوع. وقد دعا الطبيب إلى عزل كلّ الأشخاص المصابين وإلى عزل كلّ الذين تعاملوا معهم… ولم يجد لديه أيّ دواء فعّال ضدّ الوباء فكان يستقبل المرضى في المستشفى ويحاول تطهير تقرّحاتهم ومدّهم بالأدوية المتاحة التي لم تظهر أيّ جدوى في مواجهة المرض. كانت الحمّى الشديدة تلمّ بالمرضى إلى جانب أعراض أخرى جلديّة وتنفّسيّة تزيد من معاناة المصاب وألمه وتؤدّي به في الأخير إلى الموت. وكان الموتى يُدفنون في البداية في مقبرة المدينة ثمّ ارتفع عددهم فصاروا يدفنون في مقابر جماعيّة وأخيرا  صارت جثثهم تحرق فلا يبقى منها إلاّ الرماد. وكما داهم الطاعون أبناء المدينة دون استئذان فإنّه غادرها بعد عشرة أشهر ليعيد إليها طمأنينتها إلى حين…

ولم يكن الدكتور ريو يواجه لوحده وباء الطاعون بل وجد مساندة من بعض المتطوّعين من المنتسبين إلى المجتمع المدني على غرار السيّد تارو  Tarrouوالقسّ بانلوPaneloux  والصحفي رمبارRambert  والقاضي أوتون  juge Othon ولكلّ واحد من هؤلاء قصّته..

أيام قليلة فقط ويبدأ الموت يدبّ إلى الناس أيضاً، وتزداد الوفيات يوماً بعد آخر، ولا أحد يجرؤ أن ينطق باسم ذلك الوباء المفجع، لكن حين تصل الوفيات إلى حدود اللا معقول، يعترف الناس بالحقيقة المفجعة أخيراً «المدينة مصابة بالطاعون»، وهنا تُسيّج المدينة، وتغلق منافذها تماماً، وتعزل عن العالم الخارجي.

ونعود إلى الدكتور “رييو” الذي صرّح في الفصل الأخير أنّه هو الراوي الحقيقي للأحداث وأنّه التزم التجرّد والحياد في نقلها، مستعيناَ أحياناَ بمذكّرات تارو، وصورة الطبيب في الرواية تمدّنا بشخص هادئ، مسؤول، مفعم بالنشاط، يحترم الآخرين ولا يعامل أحداً باستعلاء… نسّق هذا الطبيب إجراءات الوقاية والإسعاف والمرافقة للمصابين بالطاعون في مدينة وهران، وواكب عن قرب ما حصل في المدينة خلال إصابتها بالطاعون وقام بواجبه الطبّي والإنساني على أحسن وجه.

إن أكثر الشخصيات جدلاً فلسفياً هي شخصية الطبيب «ريو»، والذي يبدو أنه البطل الذي اختاره «كامو» لروايته، وذلك لدوره في مواجهة الطاعون، حتى في الحالات التي يتملّكه اليأس، ويبدو له أن ليس ثمة أمل بالنجاة، إذ يواصل «ريو» أبحاثه مدفوعاً بما يسمّيه بالواجب الأخلاقي، حيث يجسّد النموذج الذي سيحمل أعباء البشرية على عاتقه، ويكافح في سبيل تحقيق الخلاص الجماعي!

فالطبيب يمثّل مشاعر الثبات والعقلانية، وهو الشخص الذي يعلم خطورة الطاعون، ومع ذلك لا تزال مشاعره ثابتة؛ بسبب تعرّضه لأكثر من حالة مصابة يومياً، ومواجهته للهلع والخوف كل يوم، حتى أصبحت الحالة في المدينة لا تعنيه وإنما ينتظر الموت أو فناء المدينة بثبات؛ ويقول نقاد أن طاعون كامو في حقيقة الأمر ليس المرض نفسه وإنما النازية الألمانية التي احتلت أوروبا وأرادت إبادة البشر.

وفي رواية الطاعون ثمة إسقاط علي واقع البشرية التي واجهت حربين عالميتين مدمرتين، كما أنها ما تزال تواجخ أخطار الحروب والأمراض والفقر والجهل وغيرها من المآسي وفي أغلب أعمال كاموا يكون الحديث هو قدر مفاجئ تجد الشخصيات كلها مضطرة للتعامل معه وقبوله . فمرض الطاعون يظهر فجأة في المدينة التي تعزل فيما بعد عن العالم الخارجي كإجراء وقائي من قبل السلطات لضمان  عدم انتقال المرض، وهنا يبرع كامو في تصوير معاناة السكان الذين يتوقون للمساعدة الخارجية دون جدوي فيقول علي لسان بطل الرواية  الطبيب ريو:" إن الناس يتعبون من الشفقة إذا كانت الضفقة غير مجدية"، وفي ذلك اختصار لمضمون فلسفي عميق يشكل جزءً مما أراده كامو قوله في روايته؛ كما تطرح الرواية أسئلة حول ماهية القدر والوضعية الإنسانية. تغطى شخصيات القصة طبقات اجتماعية مختلفة من الطبيب إلى المطلوب لدى العدالة، ويصف وقع الوباء على الطبقة الشعبية.

رواية «الطاعون» هي تجسيد لفلسفة «ألبير كامو»، والتي تتمحور حول فكرتين أساسيتين هما «التمرّد والعبثية»، وهي في الوقت نفسها تطرح رؤية حول الموت والوجود، وأسئلة فلسفية تتعلق بماهية القدر والوضعية الإنسانية، إذ بعد عشرة أشهر قاسية ومرعبة يبدأ وباء الطاعون بالاختفاء بفضل تكاتف الجميع وسعيهم لتحقيق خلاصهم الجماعي، إذ نجح الطبيبان «ريو» و «كاستيل» بإنتاج مصل مضاد أعطى مفعولاً في وجه الطاعون، ليترقب «ريو» نشر الإحصاءات العامة التي كانت تذاع في مطلع كل أسبوع، فإذا هي تكشف عن نهاية الوباء.

حسب الصحيفة الفرنسية، فإنه “على مر العقود، أدى الطاعون إلى قراءات متعددة من زوايا مختلفة، إذ يصف النقاد رواية كامو، بتجسيد صراع المقاومة الأوروبية ضد النازية، والدليل على ذلك، أن هذا العدو الذي لم يكشف عن اسمه، اعترف به الجميع، وفي جميع بلدان أوروبا، لكن لا يمكن رؤيته بالعين المجردة”.

كما يناقش كامو قضية أخلاقية مهمة تتمثل في مسؤولية الانسان عن بقية البشر، والتشابك الغريب بين السعادة الفردية وبين الالتزام الأخلاقي تجاه الآخرين، ويصور كامو كيف أن من يسهمون في تخفيف المعاناة عن غيرهم، هم أكثر الناس سعادة وراحة، بينما الأشرار هم الأنانيون الذين لا ينظرون للوباء على أنه خطر مشترك.

يؤرخ العمل التفشي السريع والانحسار البطيء للطاعون بمدينة وهران الجزائرية الساحلية، في وقتٍ ما في أربعينات القرن الماضي، وبمجرد ما أعلن الوباء المتباطئ عن وصوله حتى خيّم على حياة وعقول أهل المدينة قرابة العام، حينئذ رحل مسرعاًَ وغير قابلٍ للتفسير، "تسلل خلسة عائدا إلى الجحر الغامض الذي انبثق منه".

كان هدفه من العمل هو تناول موضوع العدوى التي قد تباغت أي مجتمع على نحوٍ مجازي كالكوليرا والإنفلونزا الإسبانية والإيدز والسارس وكوفيد 19، وحتى الأيديولوجيات الهدامة كالفاشية والشمولية التي تصيب مجتمعات بأكملها. عندما كان كامو يكتب هذا العمل، رأى النازيين يقتحمون باريس في سنة 1940 خلال الحرب العالمية الثانية. تولى حينها رئاسة تحرير مجلة كومبات، المجلة السرية للمقاومة الفرنسية، التي كان من بين مساهميها أندريه مالرو، وجان بول سارتر، وريموند آرون، أبصر كامو حينئذ العلاقة المتأصلة بين العدوى النفسية والجسدية، واتضح هذا جليا بالعمل.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط.

 

في المثقف اليوم