قراءات نقدية

البنية الإيقاعية في القصيدة العراقية.. "يداً بيدٍ مع اللازَوَرد"

وليد العرفي للشاعر العراقي: سامي العامري أنموذجاً

تمهيد: تقوم فكرة القصيدة على بُعدٍ اجتماعي، وهو يتمرأى علاقة الذات بنظيراتها سواءٌ مَنْ كانوا مُختارين بانتقائية، وعنْ حريّة إرادة، أمْ ممَّنْ تفترض الحياة التعامل معهم، وأياً تكن الأسباب والدوافع الكامنة وراء نشوء هذه العلاقات يبقى السلوك الإنساني في التعامل هو معيار استمرار تلك العلاقات أو انقطاعها، كما يعكس جانبي الرضى عنها، أو النفور منها، وعلى هذا المنحى يبدأ الشاعر في طرح رؤيته .

العنوان وفعل المجاوزة والانغلاق

بدايةً أودُّ التوقف عند العنوان، والعنوان في النص الأدبي مفتاح دخول القارىء إلى عالم النص، لأنه: "  رسالة لغوية تُعرّف بهويّة النص، وتُحدّد مضمونه، وتجذب القارئ إليه وتغويه به "  ، مثلما يُشكّل قناة الاتَّصال الأولية مع القارىء غير أنَّ العلاقة تبدو مخاتلة في مقصدية العنوان هنا، وهو ما يُثير التساؤل عن ماهية العلاقة بين العنوان والنص، يتألف حدّ العنوان من تكرار يقوم على الأسماء، يداً بيدٍ مع اللازورد، وهو أقرب ما يُشير إلى عنوان شعاراتي ؛ فما وجه الالتقاء بين هذه المكونات:  اليد عضو في الكائن الحي يرمز إلى القوة، اللازورد من الأحجار الكريمة، وهو ما يدخل عادةً في صناعة الزخارف والمنحوتات ذات الطبيعة التاريخية، وبناءً على هذه الرمزية يبدو ثمَّة انغلاق يُحجّر على ذهن المتلقي فهم مرمى النص، وأنا أعي رغبة  الشاعر العامري  في تغلغله في تلك المساقات غير أن المجاوزة والغموض شيء، والانغلاق على المعنى شيء آخر.

البنية الإيقاعية ومستوياتها

ينطلق الشاعر: سامي العامري  في هذه القصيدة على راحلة البحر الخفيف، وهو من البحور ذات الطبيعة المركبة، كما قسمها الفارابي ذلك أن ما تألف من تكرار تفعيلة واحدة كالمتقارب بُسمَّى بسيطاً، وما  اختلفت في تأليفه التفعيلات يُسمى مركباً  ومنه الطويل والخفيف الذي اعتمده الشاعر، وهو يقوم على بنية فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن  وسأتوقف عند:

أولاً -  حدّ الأنساق القافوية

حدَّد العروضيون أنواع القافية بناء على معيارين هما:

- المعيار الكمي الذي يعني التزام القافية في القصيدة كلها بوحدة تامة- .

- المعيار الكيفي الذي يعنى بظواهر تكرار الحروف  والحركات، وبهذين المعيارين تمت عملية ضبط القافية، وما يعتريها من خرق أو خروج فيما يسمى بعيوب القافية، وقد أضاف حازم القرطاجني (الوقف)، وهي ترتبط بمسألة النهاية في البيت فهو مهم للتنغيم  لما للشعر من ارتباط بالغناء الذي يقتضي طبيعة تقفية مطلقة لا مقيدة  فالحرف الساكن حين يقع في نهاية الكلمة وثم يراد الوقف على كلمته قد يتعرض ذلك الحرف إلى الغموض أو الإبهام فيقل وضوحه في السمع أو قد يسقط في النطق،ولا سيما حين يكون من الحروف المهموسة الشديدة كالتاء والقاف ؛ فلا يكاد يتضح في الأذن، ولا يكاد السامع يدري حقيقة أمره ولا يحس بموسيقاه  ، فكيف تعامل شاعرنا العامري مع هذه المسألة من حيث اختيار القافية وطبيعتها، وتشكيل الأنساق القافوية على المستويين الأفقي والعامودي ؟  لقد اختيار شاعرنا العامري نمط القافية المتواتر، وفيه تتناوب الحركة والسكون بشكل ثنائي / 5/5

أ - الأنساق القافوية على المستوى الأفقي: *على مستوى الحرف تؤدي المواضع التقطيعية دوراً مهماً في تأليف نسق  القافية على المستوى ؛ لأنها  تظهر الإمكانيات المتسقة مع نصف الشطر تشطير التصريع، ونهاية القرينة غير المركبة تسميط الشطر ونهاية القرينة الترصيعية المركبة من أكثر من كلمة تسميط البيت، ونهاية الشطر حيث يقسم البيت إلى شطرين ومنه:

1- التصريع، وهو ما يُسهم عبر المواضع الأفقية في خلق تشكيلات من ألوان البديع المرتبطة بهذا النمط  ومما أورده العامري في هذه القصيدة التصريع، وهو أن يكون آخر حرف المصراع الأول على شاكلة حرف المصراع الثاني في البيت   أو ما كانت عروض البيت فيه تابعة لضربه تنقص بنقصة وتزيد بزيادته، وهو ما يغلب في مطالع القصيدة،  إذ يكون له في أوائل القصائد طلاوة ووقع في النفس لاستدلالها على قافية القصيدة   يقول العامري في مطلع القصيدة ؛ فقد توافقت آخر كلمة في المصراع الأول آخر كلمة في المصراع الثاني من حيث الوزن والتقطيع الصرفي وحرف الروي

 شَغلتْهُ الكؤوسُ عمَّا يليقُ         بفتىً مثلهِ  وطـــــــالَ النقيقُ!

2- التسميط : وهو أن يجمع عدة سلوك في ياقوتة أو خرزة ما ثم تنظم كل سلك منها على حدته يسيراً ثم تجمع السلوك كلها في زبرجد أو شبهها أو نحو ذلك ثم تنظم أيضاً كل سلك على حدته وتصنع به كما صنعت أولاً إلى أن يتم السمط، ومنه قول العامري:

دَبَّ في نهره الشجا فاشتهى الموتَ       فنادى كما روى لــــــــــــيْ غريقُ

 فثمة توقفات في البيت عند حرف الألف اللينة في كلمات الشجا، أشتهى، نادى، روى، وهو ما أسهم بزيادة النغمة الموسيقية  داخل البيت وقوت من الترابط بين أجزائه .

** أما على مستوى الكلمة ومن أنماطه رد العجز على الصدر،  ويلجأ الشاعر فيه إلى أن يمهد للقافية بلفظ مجانس لها في أحد مواقع البيت السابقة في صدر البيت أو الحشو أو الختام، وقد حددت نوع القافية بالتكرار أو بالمتجانسة أو قريبة منها أما مواقعه ؛ فيلزم الثبات في آخر البيت، ويتغير في صدر المصراع الأول وحشوه وآخره وصدر المصراع الثاني وحشوه، ومما لجأ إليه شاعرنا:  العامري هو صدر المصراع الثاني في قوله:

 فجموعٌ شـــطَّتْ، وغالتْ جموعٌ     وفــــــريقٌ صلّى، وعابَ فــريقُ

 أما الدلالي وهو على نوعين:

الترشيح: ويعني أن يأتي لفظ في البيت يدل على القافية، وذلك بأن يستدعي المذكور الغائب إلى الذهن لوجود رابطة دالة، وهو ارتباط يتخذ أشكال معنوية من مثل ارتباط السبب بالنتيجة أو ما بين فعلين متلازمين  ومن هذا القبيل والتلازم:

أنــــــــــتِ أبهى وإنْ تريدي فإنّا    نُكمِل البعـــــــضَ والزفيرُ شهيقُ

 فالزفير تستدعي إلى الذهن مرافقتها الشهيق ؛ لارتباطهما في عملية واحدة تقوم على التناوب، وهو ما يقتضي  وجودهما معاً،  وقد يكون الاستدعاء على لزوم الصفة للموصوف كما في قوله:

ما خـــــــــــلا ظلَّه البهيَّ وأنّى      يطأ الأضـــــــلعَ النسيمُ الطليقُ؟

إن ذكر الشاعر لفظ  النسيم  يستدعي الصفة الملازمة له، وهي الطليق   على سبيل التلازم ما بين النسيم وصفته الطليق

وفي قوله:

قالتِ الشمسُ قد تذيب مســـامي         قلتُ كـــلا، فذاك عصرٌ سحيقُ

فالحوار القائم على توقع أمر، ثمَّ نفيه من قبل الشاعر استدعى إلى الذهن صفة سحيق ؛ لتنسجم مع دلالات المعنى المراد إيصاله، والهدف الذي يرمي الشاعر إلى تحقيقه وقد يكون الاستدعاء قائماً على تلازم بين شيئين يرتبطان ببعضهما ارتباطاً يقوم على اشتراكهما في النوع من مثل قوله:

ولتفجير كـــــلِّ أوكارِ  ضَيمي          ليــس يكفي البارودُ والمنجنيقُ!

فالبارود المادة الدالة على فعل الموت تستدعي المنجنيق ؛ لارتباطهما بالغاية ذاتها .

وتتبدّى الموسيقى الداخلية بجمالية انتقاء الأصوات التي يبدو أنَّ الشاعر انتقاها بعناية لافتة ؛ لما فيها من الهمس، والمقاربة في مخارج الحروف، كما في مقاربته بين حرفي الصاد والسين والميم والتكرار الذي لم يخلُ منه بيت من أبيات القصيدة :

وقد بلغ التكرار ذروته في هذا البيت إذ تكرر حرف الميم 3 ثلاث مرات في كلمة واحدة هي (مسمّى)، كما تكرر حرف  السين بالتجاور  بين اسم، ومسمى، وكذلك تجانس حرف الصاد والسين لتقارب المخارج والصفة فيهما:

يا صِحاباً، إسماً علـــى لا مُسمّى

 أتُرى لا يَلْوح منكم شـــــــــفيقُ؟

ومن تجاور حرف الصاد في كلمتين ما نجده في:

الفعل: يصح ــــــــــــــــــــــــ   و الاسم: صديق

  ومن تجاور الفاء

الفعل دفعتم ــــــــــــــــــــ والاسم فاتورة

في قوله:

كم دفعتمْ فاتورةً عـــــــــن تحايا        ونقاءٍ ولم يصحَّ صــــــــــــديقُ

  كما يؤدي تماثل التركيب إلى إضفاء الموسيقى الداخلية ومن ذلك تماثل أشباه الجمل في البيت التالي: في دمعتيه، في وجنتيه، في وساداته، في خفايا،

 دَبَّ في دمعتيهِ، فــــــــي وجنتيهِ            في وســـــــــــاداته التي لا تفيقُ

ومن تكرار الفاء والميم والسين ما نجده في قوله:

 في خفايا خــــــــفائه اللاّ مُسمّى           كإلهٍ أنساهُ سُـــــــــكْرٌ عميقُ

وقد عمد إلى إعادة اللفظ الذي يرتبط بإكمال المعنى من مثل قوله:

 ليـــس غيرَ الندوب في القلب خِلٌّ      عنده اليومَ، والفراغُ شـــــــقيقُ

فقد جعل من الظرف نقطة فصل وانتهاء في البيت، ثم ابتدأ به لاتّصال المعنى الذي يريد إكمال فكرته والتعبير عنها بتوسيع الدلالة .

 غير أنَّ التكرار إذا لم يكنْ مُنضبطاً قدْ يُثقل على السمع، ومن ذلك ما نجده في تكرار حرف الشين 4 أربع مرات  في هذا البيت:

 عندَهُ مِــــنْ مآزقِ الفكرِ ما لوْ      عشْتُموهُ عَشَّشَ فيكمْ حــــــــــريقُ!

ناهيك على أنَّ العلاقة تبدو مغلقةً عصيةً على الفهم في تسويغ  الجمع بين القافية الحريق التي يبدو أنها طُوّعتْ لموافقتها القافية في إسنادها إلى فعل عشَّش ؟ !

  وسيلحظ المتابع تكرار غير حرف ما بين الصدر والعجز في بقية النص فحرف العين تكرر بين: العوم ــــــــــــــــــــــــــــ يعيق

  بُغيتي العَومُ كالضـــــياء ولكنْ    بَشَراً كونيَ اقتضــــــــــى ما يُعيقُ

 وتكرر حرف الراء  بين الأفعال: رأيت، يخرج، والاسمين: ركب، ريح  في قوله:

ورأيتُ الســـحابَ يخرج من نايٍ      وعصْــــــــفاً بركبِ ريـحٍ يَحيقُ

وبين الأسماء: الريح، وراء، دوران  البحار، والدوري: بصيغتيه الاسمية والفعلية في قوله :

  قلت للريح ما وراءك؟ قـالت:      دون لَفٍّ أو دورانٍ، عشــــــــيقُ!

 قلتُ لفِّي حـــول البحار ودُوري        وغـــــــناءُ الدُوريِّ فيك لصيقُ

كما يتكرر حرف القاف الذي أسَّس عليه حرف الروي في قفلة القصيدة إذ تكرر بين:

الحقد، قلت، حقدي، رشيق:

 ثُـــــم عادت فاستدركتْ بسؤالٍ       هل كبا الحقدُ؟ قلتُ حقدي رشيقُ

كذلك حرف الكاف والحاء والفاء والجيم: وهو بلا شك تكرر لا يُخفي انتباه الشاعر إلى محاولته تحقيق قدرٍ كبير من الموسيقى عبر انسجام الأصوات، وتقاربها، وهمسيتها . 

 كحنوٍّ علـــــــــى الحياة وأدري       كــــــان قد جفَّ مثلما جفَّ ريقُ

  التسبيغ أو تشابه الأطراف وفيه يعمد الشاعر إلى إعادة لفظ القافية في أول البيت الذي يليه، ويُسهم هذا النمط في تماسك وحدة البيت ويمنحه بُعداً دلاليَّاً عبر التكرار للفظ نفسه ومنه:

عبثاً وعيُنا انتهى مــــثلَ خُرْجٍ       بثقوبٍ ينثالُ مـــــــنها الدقيقُ؟

لا دقيقاً نرى وســـاءت موازيــــ....  ــنَ وفكراً كدرب نملٍ يضـــــيقُ

فتعاقب دقيقاً التالي لدقيق في قافية البيت السابق شكلت لحمة على المستوى الدلالي فحولت البيتين إلى بيت بنية لغوية معبرة عن معنى واحد ودلالة محددة، وهو ما ينفي عن النص انفراد البيت واستقلاليته، ويُكسبه نوعاً من الوحدة العضوية ذات الدلالة الواحدة .

ليتَ حُبَّ الجميعِ صــــافٍ وعارٍ

عن ثآليلِ مَـــــــن مضوا وحليقُ

 

كتماســــــــــيحَ قد علاها فَراشٌ

فاســـــتكانت والجلدُ بضٌّ رقيقُ !

الأنساق القافوية العمودية

تُشكّل القافية الوحدة البانية للقصيدة على المستويين الصوتي والدلالي، وقد جاءت القافية مطلقة،  وهذ النوع من القوافي يؤدي دوره الموسيقي الفاعل بسبب انفتاحها على حروف المد الناتجة عن إشباع الحركات، وهو ما يمنح هذه الحروف  أمداء أوسع في الاتساع والامتداد الصوتي، وهو ما يبدو قد لفت عناية الشاعر إليه في اختياره والتزامه غير الملزم بحرف الياء السابق للروي وهذا الالتزام أكسب القصيدة طاقة موسيقية مضافة، ومما أسهم في دعم تلك النغمة الموسيقية تناوب الحركة والسكون في القافية ما يؤدي إلى إطلاق الصوت واتساع مدى نبرته،  وهو ما حققته القافية المتواترة التي اعتمد الشاعر عليها في بناء القصيدة التي جاءت ركيزتها المعمارية على إيقاع البحر الخفيف في تأكيد من الشاعر أنه يغوص في أي بحر طالما أنه يتقن مهارة فن العوم .

وبعدُ فإنَّ هذا ما أمكنني رؤيته، واستكناه مرامي دلالاته التي كانت ضبابية في بعض جوانبها، وقد يرى سوايَ ما لم أره، وهو حقُّ اختلاف، فكلُّ إضافة على استبطان المُضمَر إنما هي إنجاز لثالوث الإبداع:  النصَّ، والمبدع والناقد . 

 

د. وليد العرفي

.....................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في المثقف

 

يداً بيد مع اللازَوَرْد / سامي العامري

 

في المثقف اليوم