قراءات نقدية

جماليَّة المُضمَر في قصيدة : الصَّوت الثالث

وليد العرفي للشَّاعر : نزار سرطاوي

تبدو قصيدة الشاعر: نزار سرطاوي مشغولة بحمولاتها الدلالية على مستوى الفكرة التي تُعالجها، وهي من أكثر الموضوعات حساسية، ما يقتضي جرأة في مقاربتها وفق هذه الرؤية، ووفق هذا البعد تبدو اللغة بنت بيئتها، وواقعيتها، إذْ تعكسُ القصيدة علاقة المواطن بالحاكم  في موضوعة السلطة التي تُورث  من الآباء إلى الأبناء.

 يبدأ الشاعر الاستهلال بسردية تقوم على فعل القص، وهذا القص يرتكز إلى أركانه البنائية إذ يُحدّد زمان بـ (مساء) والمكان بـ (الحانة) والشخصيات بـ كل من: الشاعر والصديق، والصوت الثالث، وتوحي طبيعة المكان، والمشهد الموصوف بما وراء الغاية من ذلك؛ فالحانة التي يجلس فيها الشاعر وصديقة تتيح له التعبير بحرية أكبر من أي مكان آخر، كما يكشف المشروب  عن غاية ثانية، وهي أنها لحظات لا حرج فيها، وهي من أكثر اللحظات قدرة على الكشف والمواجهة التي ربما لا تتحقق في أوقات مغايرة للحظة تعاطي المشروب، ما يعني غياب الوعي، وإمكانية الاسترسال في الحديث من غير التزام بضوابط، أو تفكير في عواقب تلك الأحاديث، بينما يبدو الصوت الثالث الذي جاء مُبهماً في دلالته التجسيدية، وهي لفتة ذكية، وإلماحة حقّقت دلالتها في هذا التعتيم على طبيعة صاحب الصوت الثالث، أو حتى الكشف عن مصدره، وفي هذا يتخذ الصوت دور المحرّض على استجرار الحديث، وهو يؤدي تلك المهمة عن وعي، وتفطّن ما يؤكد ذلك أنه يشرب القهوة، وهو مشروب عادة ما يكون لزيادة فعالية النشاط الجسمي، ولهذا السبب يقترن تناول القهوة بالصباح عادة، وهكذا يتبدى بدء الحديث الذي يبدأ بفعل استدراج من الصوت الثالث لكل من الشاعر وصديقه :  

 

كلَّ مساءٍ نجلس في الحانِ

أنا

وصديقي

والصوت الثالثْ

  الصوتُ الثالثُ يشربُ

قهوتَهُ

وأنا وصديقي نشربُ

كأسين

وننفثُ دُخّان سجائرِنا

ونثرثرْ

 الصوتُ الثالثُ أمسِ اسْتَدرَجَنا

فتَحاوَرْنا حولَ

الحُكّام

 ويبدأ الحوار بتحديد فكرة القصيدة العامة التي يدور حولها موضوعة المناقشة بين  كل من الشاعر وصديقه والصوت الثالث الذي يُفاجىء الشاعر وصديقه بالسؤال  غير المتوقع ورثة، ومفاده (مّنْ يرث الحكّام) ؟

الصوتُ الثالثُ فاجأنا:

من يَرِثُ الحُكّامَ إذا... لا سمحَ اللهُ؟

أجيبُ:

متى سمحَ اللهُ –

ولا بدَّ سيسمحُ، هذي سُنّته في الأرض –

فأبناءُ الحُكّامِ 

همُ الـ يَرِثون الحُكّامَ

يُصوّر الشاعر حقيقة الإنسان العربي في تعاطيه السياسة التي غالباً ما يكون الحديث فيها محفوفاً بالمخاطر، وهو ما يقتضي الحيطة والحذر في الكلام، وهنا يبدو الاعتراض الذي جاء على شكل رجاء وتمنٍّ مُبطنٍ غير خافٍ  في التركيب ـــ لا سمح الله ـــ إشارة إلى مدى ما يعتمل في نفس الإنسان العربي من الخوف القابع في داخله من السلطة والحكام، غير أنَّ حقيقة نهاية الكائن الحي بالموت لا بدَّ أن تكون حتمية المصير والمآل، وهذه الحقيقة غير القابلة للنكران، أو التجاهل يعمد الشاعر إلى تجميلها بتأكيد توريث الأبناء للحكام، وهو ما يُخفّف ربّما من وطأة ذكر الموت من دون ذكر استمرار الحكم في الابن ؛ إذ إنَّ استمرار الحكم له دلالته لدى الحكَّام الذين لا يتصوّرون زواله منهم .  

" صديقي الثوريُّ – وقد لمعتْ عيناهُ –

يُلوّحُ بالسبابة،

يسأل:

كيف يموتُ الحُكّامُ؟

يلوّحُ بالسبابة ثانيةً، ويجيب:

يموت الحُكّامُ وأولاد الحُكّامِ وأحفاد الحُكّامِ –

وأنتم أيضًا يا أتباعَ الحُكّامِ

تموتون جميعًا –

حين تجيءُ الثورةُ،

والثُوّارُ هم الـ يَرِثون الحُكّام

(أغمغمُ: لا سمحَ الله) "

 يبدو صوت الصديق الذي يُجسّد نبض الثورة التي لا تعترف للحكام بذلك الحق في التوريث  نبرةً حادَّةَ الصَّدى، إنَّهُ الصَّوت  الذي يُراهن على التغيير، وإنَّ الثوَّار هم ورثة الحكَّام، فيما يظهر صوت الشاعر مُعبّراً عن حقيقة الخوف المتأصّلة في داخله عبر عدم اتّضاح رؤيا، ولا استشراف أفق مستقبلي ؛لما يُمكن أن يكون عليه الحال لو تغيّر الحكَّام :

" الصوتُ الثالثُ يتركنا بعض ثوانٍ ثم يعودُ إلينا مبتسمًا:

وإذا مات الثوّارُ...؟

يسود الصمتُ قليلًا

ثمّ أتمتم كي لا تسمعَني

الجدران

إذا مات الثّوّارُ

فأبناءُ الثّوارِ هم الـْ...

وأخبّىء رأسي... "

ينفتحُ النصُّ على تسلسل أسئلة مُوجعة تتَّخذ من الواقع مأساوية أجوبتها ؛ لما أكَّدته الوقائع، وأثبتته الحقائق ؛ فلا الحكّام الذين ماتوا لم يُورِثوا، ولا الثّوَّار الذين وصلوا إلى الحكم غيّروا من عادة التوريث، وهكذا يبدو المشهد العربي مُجرّد تغيير شخوص، وتمثيل أدوار يُؤدّيها كلٌّ منَ الحاكم والثائر على خشبة مسرح كبير اسمه الوطن .

لقد كشفت قصيدة الصوت الثالث للشاعر : نزار سرطاوي عن جمالية المُضمَر الذي أظهر أكثر ممَّا أخفى، وكان بهذا التخفّي أبينَ قولاً،وأوضحَ كشفاً ؛ فقد ينشغلُ القارىء بتحديد رمزيّة الصوت الثالث الذي ربّما يتعدّد فيه التأويل والإحالة، وفي هذا التعدّد وتلك الإحالات تتبدّى جماليّة المُضمَر أكثر من المُصرَّح به، إذْ إنَّ الصوت الثالث  في حقيقته إنَّما هو صوت الضمير الجمعي الذي يسكن أعماق الشاعر الذي يُعبّر عن لسان  حال كلّ مواطنٍ  في كلّ زمان، وفي أيّ مكان . 

 

د. وليد العرفي

.....................

للاطلاع على القصيدة في صحيفة المثقف

الصوت الثالث / نزار سرطاوي

 

 

في المثقف اليوم