قراءات نقدية

قراءة في شعر: يوسف الجزراوي

وليد العرفي تسعى هذه المقاربة إلى الكشف عن تقنياتىالأسلوب لدى الشاعر الأب يوسف الجزراوي من خلال بعض أنموذجاته الشعرية،

تقنية القصّ في قصيدة:

 (قبل صياح الديك) 

" في ساعةٍ متأخّرةٍ

من لَيْلَةٍ صَافِيَةٍ

ألتمَّ فيها شملُ

القمرِ مع النُّجومِ

رأيتُ ديكَ الوطنِ

يتسكّعُ مُتنكّرًا ومُرتَبكًا

بينما عيونُهُ مُثَقَّلَةٌ بالنّعَاسِ!

كان يدورُ حولَ نفسهِ كالنّاعورِ!

نظرتُ إليهِ مُبتسمًا وسائلتهُ:-

عَلامَ تسيرُ في آخرِ الّليل؟!

أجابني بصوتٍ خنقتهُ الحَسْرَةُ:-

لكي أرقبَ مَن سيُقبّلُ الوطنَ على خدِّهِ

ومَن سيسلّمُهُ بثلاثينَ من الفِضَّةِ!

نَزَعَتُ قبّعتَهُ من رأسهِ

وحللْتُ ربطةَ عنقِهِ

.ثُمَّ حاولتُ أن أُمرِّنَ صوتي معه

رغْمَ هذا اِمْتَنَعَ

وأبَى ان يُبشِّرَ العِراق

بطلوعِ فجرٍ جديدٍ!

سألتُه: لماذا ؟

فأجاب: .لئلّا ينكروه قبل صياحِ الدّيكِ "

يقوم نص الشاعر: يوسف الجزراوي على تقنية الحوار الذي يُشخصن فيه الديك بما يُحيل عليه من رمز غير خاف في دلالته  يبدأ الشاعر قصيدته بسردية القصّ التي تعتمد على وصفية المشهد و الزمن الماضي، وهما دعامتا السرد في هذا الاستهلال الذي يبدأ بشبه الجملة، وهو استهلا يُعنى بتحديد مكونات بقية عناصر القص من زمان:  (ساعة متأخرة من الليل ) ومكان : (الوطن) لينتقل بعد تلك الممهدات إلى قلب الحدث المبني على تقنية الحوار عبر السؤال والجواب، وهي تقنية تُكسب النصَّ أبعاده على مستوى الكشف عن مخبوءات النفس التي تُعبّر من خلال الآخر المٌشخصن: (الديك) بما يعتمل في داخلها، وبما تحسُّ فيه من وقائع ؛ لتقول بلسان الآخر ما تريد الإفصاح عنه، وعلى هذا تبدو تقنية الحوار القائمة على صيغة الاستفهام المكونة من السؤال والجواب استجابة لتكنيك الأسلوب الذي يلجأ إليه الشاعر في التعبير والإبانة

تقنية التسريد

"أحيدُ ولا تحيد" يقول فيها:

رأيتُ في المنفى

سحابةً سوداءَ تبكي

كلّما نظرتُ إليها بطرفِ عيني

تَحِيدُ عني ولا أحيد

ليقيني أنّها قادمةٌ

 من بلادي!.

تبدو في هذه الومضة إحالة رامزة على التعلّق بكل ما يأتي من الوطن، فالسحابة على الرغم من لونها الأسود الذي لا يحمل إلا الأسى، ولا يبعث في النفس سوى حالة من اليأس والإحباط غير أنَّ الشاعر رغم تلك الإحالة لا يحيد بنظرته عنها لمجرد أنها قادمة من جهة الوطن، إنها التعبير عن تعلّق المغترب بأرض وطنه، وقد اعتمدت السردية التي لجأ فيها الشاعر إلى التعليل بالبرهان والأدلة .

حُكَّامٌ مارقون

الحقَّ للحقِ أقولُ:

ثمّةَ حُكَّامٌ قبل حكمهمِ

ألقوا ببلدي في غرفةِ الانعاشِ

ثَمّ اِنهَمَكَوا في القَسّامِ الشّرعيّ

 واِنشَغَلَوا بتقاسمِ الميراثِ

فتناسوا العِبادَ والبلاد!!.

تعكس هذه الومضة حقيقة ملموسة، وتوصف واقعاً مأساوياً ؛فجاءت اللغة تقريرية تفضح طبيعة الحكام الذين لا هم لهم سوى الاستحواذ على ثروات الوطن واقتناص خيراته على حساب البشر والحجر.

تقنية السؤال والجواب

كما في قصيدته (سألهُ وأجاب)

سألَ المَكُّوكُ الخيَّاطَ:

لماذا الإبرَةُ تكسوُ النّاسَ وهي عاريةٌ؟

فمتى ستخيطُ لها ثوبًا؟.

هل أعمى الخيطُ عينيها

أم هي مَن ضلّت الخَيطَ؟

أجابَ الخيّاطُ:

آهٍ يا إبرَةُ

كم خَيطًا خذلتِ!.

تقوم هذه الومضة على السؤال الذي لا يبحث عن إجابة، وإنما يبقى مفتوحاً على إثارة الخيال، ومزيد من الرؤى والتأمل، إنها ومضات تختزل المشهد، وهي تنأى عن إيقافه ؛ لتتجاوز راهنية اللحظة إلى مساقات ليست وليدة وجودها، بل تتجاوزها إلى أفق متعدد ومنفتح على التأويل، واتّساع القراءات ؛ فيما يتّخذ الشاعر فيها دور الراوي .

إيقاعُ الأسدِ ورقصُ الكلبِ

الكلابُ الّذين رقصوا

فوق جثّةِ الأسدِ

نسوا أو تناسوا

أنَّ الأسدَ

هو مَن ضبط لهم الإيقاع

فالكلبُ يبقى كلبًا

وكذلك فإنَّ الأسدَ سيبقى أسدًا

حتّى بعدَ مَمَاتِهِ

فالموتُ لا يخبّئ العُظَمَاءَ!.

تُعبّر هذه السردية الومضة عن ثبات الحقيقة التي لا يُمكن أن تتغير نتيجة حالة عابرة أو راهنية ظرف  ؛ فقد جاءت الومضة تأكيداً لحقيقة واستمراً لمقولة لا تتغير بفعل  متغير، وهنا تبرز قيمة الإحالة التي لجأ إليها الشاعر في تجسيد قيمة الخلود للعظماء الذين لا يسطرون أسماءهم في سفر الخلود، ويبقون أحياء في ذاكرة التاريخ، ولو غيب الموت أجسادهم .

تقنية الأسلوب الإنشائي

(خُبزُ أُمّي)

أيّتُهَا الغربةُ

أقْسِمُ لكِ بالخُبزِ الماسخِ

الّذي أكلتهُ على مَوائدكِ

ما زال مذاقُ خُبزِ وطني

.في فمي يُلاك

وكَيف لي أن أستذوق خُبزًا

ليس فيه

ملح دموع أُمّي!.

ومضة راعشة بالحنين إلى الوطن من خلال رمزية الأم الحاضن الأولى للإنسان، والوطن الأصغر الذي يشتاق إليه الإنسان كلما أضناه التعب، وفاض به الشوق، إنها الأم التي طالما حنّ إلى خبزها، وما يرمز إليها عجينها من دلالات تحيل على البركة والخير والنقاء والطهارة، ويحضرني في هذا السياق قول محمود درويش أحن إلى خبز أمي، وقد نوّع الشاعر في أسلوبه بين صيغ النداء والاستفهام، وهو ما حقّق حركة النص وحيويته .

تقنية السرد باعتماد الزمن كما في قصيدة: (ومضة)

بعد عقدٍ ونيّفٍ

ما زلتُ ألفظُ الغربة

كَمن يريد بشدّةٍ

أن يلفظَ حصاةً

عالقةً في حالبهِ!!.

حالة تجسد حالة المغترب الذي يشعر الألم بعيداً عن موطنه، وهو يُعاني مرارة اللحظة في مغتربه،إنه الألم المستمر الذي يتمنّى انتزاعه .

لقد جسد الألم النفسي بالإحساس العضوي، وبهذا استطاع الشاعر أن ينقل  الشعور، ويمنحه هيئة، وشكل معاناة بالحواس باستخدام الزمن الذي جاء دالّاً تعبيرياً عن عمق المعاناة .

عَسَى المَانعُ

يا الله

مُنْذُ عام ٢٠٠٣

وأنا أُرْسِلُ لكَ الرّسائل

 مِن أجْلِ بلدٍ

لم يزل يَنثِر

.ملح الصَّبر على جراحهِ

ولكَنّكَ إلى اللحظة

لم ترد!

عَسَى أن يَكُونَ المَانعُ خيرًا.

ومضة تعتمد التوقع، وهي محاولة من الشاعر في تحقيق مقصدية رسالته الكلامية في التعبير عن حجم المعاناة والآلام التي تستنزفه أملاً في أن يكون الخلاص بفعل رباني، وقضاء قدري يتمنَّى حصوله، وقد قارب في هذه الومضة لغة الشاعر محمد الماغوط .

 

  د. وليد العرفي

 

في المثقف اليوم