قراءات نقدية

جماليَّةُ التَّصوير في شعر ياسين الخراساني

وليد العرفي بدايةً لا بدَّ من الإشارة إلى أنَّ اجتزاء الصورة بمعزل عن السياق النصي العام، إنما هو تشريح بحت للصورة، وهو ما يفقد النص جماليته على مستوى الوحدة الكلية والموضوعية التي تسم القصيدة الحديثة غير أن َّ مسوّغ هذا البتر يرجع إلى ضرورة الإشارة، وليس إلى التعبير عن تجربة كاملة، وهو ما سنحاول أن نشير إليه في صور مجتزأة من قصيدة الشاعر: ياسين الخراساني الموسومة بـ: "ظل الصنوبر"

يُعرّف علي البطل الصورة بأنها: "تشكيل لغوي يكونها خيال الفنَّان من معطيات متعددة يقف العالم المحسوس في مقدمتها" [1]، وفي هذه المقاربة سأحاول الكشف عن جماليات الصورة في شعر: ياسين الخراساني التي تبدو أنها عفوية تأتي في سياقها من غير تكلف أو إجبار: " فقيمة الصورة لا تبدو في قدرتها على عقد التماثل الخارجي بين الأشياء، وإيجاد الصلات المنطقية بينها، وإنما في قدرتها على الكشف عن العالم النفسي للشاعر، والمزج بين عاطفته والطبيعة " [2]

تبدّت تقنيات الأسلوب البلاغي للشاعر: ياسين الخراساني في ثلاثة أنماط، وهي تقنيات: التشبيه والاستعارة والتشخيص .

أوَّلاً ــ تقنية التشبيه:

التشبيه  كما يرى القيرواني: "صفة الشيء بما قاربه وشاكله من جهة واحدة أو من جهات كثيرة لا من جميع جهاته ؛ لأنه لو ناسبه مناسبة كلية لكان إياه " [3]، وتتأتى جمالية التشبيه من كونه: " ينتقل بك من الشيء نفسه إلى شيء ظريف يشبهه، وصورة بارعة تمثله،وكلما كان هذا الانتقال بعيداً قليل الحضور بالبال، أو ممتزجاً بقليل أو كثير من الخيال كان التشبيه أروع للنفس وأدعى إلى إعجابها واهتزازها "[4].

وأمَّا من حيث صيغته فيتمثل بالمعادلة تركيب لغوي هو:  أهي ب  يُقارَن فيه بين شيئين من الواقع العيني والمحسوس،  أو الفكري والمعنوي [5]

من أنماط التشبيه

يعمد الشاعر في بناء اللغة على مقاربة بين مظاهر العالم المادي؛ فنجده يُقارِن المحسوس بالمحسوس، يقول: فأنت ككلبٍ شريدٍ رأى عَظْمة الحُبِّ،

أو ربّما سار في عَقِبِ الكلماتِ

تقوم بنية التشبيه هنا وفق الترسيمة التالية:

المشبه ( الشاعر) الذي جاء بصيغة الضمير أنت  ــــــــــــ الأداة (الكاف ) ـــــــــــ المشبه به (كلب)

وقد جاءت الأطراف مما يتصل بالعالم المادي المحسوس من خلال الإنسان والحيوان، وقد أردف ذلك بتقنية الاستعارة التي جاءت في التركيب الإضافي: "عظمة الحب" التي واءمت بين المحسوس عظمة، والمعنوي الحب مما منح الصورة بعدها الجمالي من حيث الطرافة والندرة في آن معاً، وفي موضع آخر يقول:

هل أنت في قُوّة العُمْرِ مثل مصارعِ وحشٍ

وحاملِ رُمحٍ؟ فسدِّدْ إلى جهة القلبِ،

تعرفه جيدا موضع الألم المُتَكَلِّسِ،

فقد جمع أركان الصورة من عالمه الحسي الذي قرن الإنسان والحيوان بجامع التعبير عن القوة،إنه الإبداع الذي يخرق المألوف، ويحرك الساكن، ويتجاوز المعهود، ولولا ذلك ما كان الإبداع .

وفي قوله " أنت كجَدْي الهضاب يُعيقُك صخرُ السفوحِ "

تبدو الصورة طريفة في حسن انتقائها لطرف التشبيه الجدي بما يحيل عليه من حيوية ونشاط وفوضوية وطفولية، وهي صورة لفتت انتباه جيل الشباب في مقارباتهم الصورة التشبيهية، وحركة الأفعال المتسارعة المتحدية، وهذا الميل نجده لدى الشاعر السوري د. ثائر زين الدين الذي يُقارب تلك الصورة بقوله يصف نفسه:

" أما زلْتَ ــ كالجدّي ــ تصعدُ تلاًّ، وتهبطُ  وهداً،وتسبحُ في غيمةٍ منْ حبور، وتسرحُ في موسمِ الخصبِ خلفَ المواشي؟

فتجمع أصحابكَ الأشقياء لدرسِ البراري، ويخفقُ قلبُكَ في مشهدِ الحبّ كالطَّيرِ تغلي دماك "[6]

نمط الأسلوب الاستعاري والكنائي في قوله:

في تُخومِ الضّياءِ أُعَرِّف نفسي على نفسِها:

لَونُها شاحبٌ من طباعِ السّماءِ،

كأن تَبزغَ الشمسُ في يومِ عيدٍ.

مازج الشاعر بين الأسلوبين: الاستعاري والكنائي، فقد زامن في الحواس باستخدام  حاسة البصر، (لونها شاحب)،  والأسلوب الكنائي في التعبير عن صفة الضيق التي تعكس الحالة النفسية التي يمرُّ بها الشاعر من خلال اللون .

" ولستُ طويلا ولكنّ ظِلي بطولِ الصنوبرِ،

تَسكنهُ عُقدة الإرتقاءِ. أراهُ يُحاسبني

إن أطَلْتُ المُكوثَ قريبًا من الشّمسِ

من قال لي أنَّ أجْنِحتي من شموع وطين؟"

وجاء الأسلوب الكنائي كذلك في التركيب الاستفهامي بقوله :

هل تعرف الظلَّ؟

أطول من عُمرنا هو أعلى من الأرضِ،

في يده يأكل الفَيْنقُ النورَ، يغسلُ

(ريش الأساطير)  الذي جمع بين طرفي تشبيه متباعدين وقرّب بينهما بصورة باعثة على التساؤل عن طبيعة تلك المشروعية في الجمع، لو كان في الشعر مجال لطرح مثل هذه الأسئلة التي لا يعترف بها الشعر، ولا يركن إليها قانون التجاوز والإبداع، والاستعارة في اللغة: " مأخوذة من العارية، وهي نقل الشيء من شخص إلى آخر حتى تصبح العارية من خصائص المُعار له، والعارية والعارة ما تداولوه بينهم، وقد أعار الشيء وأعاره منه وعاوره إياه، وهي شبه المداولة والتداول يكون بين اثنين . وتعور واستعار طلب العارية، واستعاره الشيء، واستعاره منه طلبه منه أن يعيره إياه"  [7]

وقد أعلى من شأنها الجرجاني الذي وجد أنه من خلالها: " ترى الجماد حياً ناطقاً، والأعجم فصيحاً، والأجسام الخُرَّس مبينةً، والمعاني الخفيّة باديةً جليَّة " [8]

ويلاحظ متأمل شعر:  الخراساني أن الاستعارة قد اتكأت على  الحقل الدلالي الخاص بالطبيعة، إذ تغلب على استعاراته عناصر البيئة على اختلاف مظاهرها في الطبيعة، من بشر وطير وحيوان ونبات، ومن ذلك قوله:

أشتهي اليومَ ظِلَّ الصنوبرِ.

ليس لِلَمْسِ الظِّلالِ حفيفٌ،

ولا يخْمُش الذّكرياتَ كما يفعلُ

الشّوكُ في حُمْرةِ الوردِ.

يَحمِلني.. أحملُ الضّوءَ عنهُ،

يسيرُ إلى بلْدتي في الشّتاءِ الأخيرِ.

أنا معهُ، لا أبارح ريحًا تداعبهُ.

هو في داخلي مثلَ حُب قديمٍ تَشَابكَ بالشَّعْرِ.

قلتُ أمشِّط أطرافَه بالرُّموشِ.

ولكنّ ظلَّ الصنوبرِ أعلى من الأرضِ...

كيف أعودُ إليَّ إذا طِرْتُ في نَشْوةِ الظلّ؟

أفادت بنية الصورة  من  الحقل الدلالي الخاص بألفاظ الطبيعة التي شكلت متنها  صنوبر، ورد، الظلال، وقد نهضت الاستعارة في هذا المقطع على تقنية التحويل الدلالي الذي أفاد من تقنية التشخيص، وهو: " إضفاء الخصال البشرية على أشياء، وكائنات غير إنسانية سواء أكانت حية، أم جامدة معنوية، أم غير معنوية . " [9] ؛ كما في خمش الذكريات، وريش الأساطير

وهكذا نُلاحظ أن الاستعارة شكَّلت حامل الصورة الفنية  في تلك الاشتغالات اللغوية  التي نهل فيها من منبع الطبيعة صوره، كما كانت مصدر وحي لجماليات الانتقاء التي أفاد منها في تجسيد صوره من خلال أطياف الطبيعة المختلفة بجمالياتها الفطرية

كما يعمد إلى تقنية تشخيص الجماد يقول:

أنا واحدٌ بكثيرٍ من الانزياحِ

ضعيفٌ على وزنِ هذي الحجارةِ.

ألمُسُ أرضي بخفّة قطٍ. أزيل الغبارَ عنِ الوهمِ

فالشاعر مفرد بانزياحه المفارق، إذ يمشي على الأرض بخفّة القط ، وهي صورة مخاتلة ومفارقة للتوقع، ومن هنا تتبدّى جمالية الصورة في شعر الخراساني الذي يُبدي اهتمامه اللافت في تشكيل صوره، واستعارات أبعاد طرفي التشابيه عنده، إنه يُجسّد حالة اشتغال راقية مع العناصر التي تتباعد لتقترب، وتقترب لتتباعد عن ذهنية السائد والمألوف، فالوهم يتجسّد بشيء يمسح عنه الغبار، وبذلك يمنح الوهم، وهو معطى ذهني مُتخيل حيزاً حسياً له مكان ووجود، ومن هنا يبدو انعتاق الشاعر الخراساني من نمطيات الذاكرة أمرأ يُحمَد له، ونقطة تُسجَّل له في مشواره الإبداعي الناهض بسرعة وانتقائية باعثة على الأمل والطموح المشروعين في تحقيق مشروعه المستقبلي بأن يحمل بصمته الشعرية بثقة واقتدار .

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

ظلال الصنوبر / ياسين الخراساني

 

د. وليد العرفي

..........................

[1] ــ علي البطل: (1981) م الصورة في الشعر العربي حتى أواخر القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها ط2، دار الأندلس، بيروت، ص 30.

[2] ــ عبد الحميد هيمة (2003) م الصورة الفنية في الخطاب الجزائري، دار اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر، ط1،  ص 56.

[3] ــ العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده: (1996) م، ابن رشيق القيرواني (أبو علي الحسن ) قدم له وشرحه وفهرسه صلاح الدين الهواري وهدى عودة، ط1، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1996 م،  ص 455.

[4] ــ البيان فن الصورة: (1993) م: مصطفى الصاوي الجويني، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية، ص 33 .

[5] ــ المكونات الشعرية وانسجامها في قصائد ثائر زين الدين مجموعة كتاب، ص 27 .

[6]ــ د. ثائر زين الدين: (1996 ) م، أناشيد السفر المنسي، وزارة الثقافة، دمشق، ط 1، قصيدة الثلاثون، ص 35 ــ 65.

[7] ــ لسان العرب مادة ع و ر

[8] ــ أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني( ت479 ) ه: (1978) م، أسرار البلاغة: تصحيح: السيد محمد رشيد رضا، عن نسخة الشيخ: محمد عبده، دار المعرفة، بيروت، أسرار البلاغة، ص 41.

[9] ــ جابر عصفور (9983) م  الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب :  دار التنوير للطباعة والنشر، بيروت،  ط2، ص 84 .

 

في المثقف اليوم