قراءات نقدية

صورةُ الأزمة الموصليَّة في الشّعريَّة العراقيَّة

وليد العرفي قصيدة: "لها وحدها" للشاعر: حسين يوسف الزويد أنموذجاً

رُبّما يكون من أسوأ ما مرَّ فيه الإنسان العربي ــــــ عـلى الرغم من كل المآسي التي عصفت بهذه الأمة ـــــ الأحداث في عقد السنوات الأخيرة ؛ لما أحدثته من خللٍ أصاب  البنية الاجتماعية أكثر مما هدَّم من البنى الأخرى الاقتصادية والفكرية والسياسية، وكان الأدب في هذا الميدان الحلقة الأضعف، إذْ يُلحظ أنَّ كثيراً من الأقلام صمتت إما رهبة، أو رغبة في النأي بالنفس عن واقع غير معروف نهاية النفق فيه، وإزاء هذا تبدو الكتابة صورة تعكس عمق الفاجعة التي كان الأديب يتجرَّع غصصها ؛ فهو وفق هذا يبدو كبالع السكين على الحدّين كما يقول المثل، وفي هذا السياق سأتوقف عند انعكاس تلك الصورة المأساوية في الشعر، وكيف تبدّت تلك اللوحة بقتامها في رؤى الشعر الذي عاش الواقعة، ورأى تحوّل الحالة والحال، ويأتي في هذا المجال ما تعرّضت له مدينة الموصل إبان احتلالها من قوى داعش التي جعلت منها ولاية الدولة المزعومة التي أُريد لها أن تكون، خلافة مسمى من دون فعل حقيقي تبدّى في سلوكيات وممارسات لا تمت إلى الدين الإسلامي الحنيف  بصلة، ومن هنا يبدو تجربة الشعر أكثر الفنون الأدبية التصاقاً بالواقع لأنَّ الشاعر تعبير انفعالي آني يستطيع الإفصاح عن الواقع بسرعة، وردة فعل أسرع مما تستطيعه الفنون الأخرى ، وهذا ما نجده مثلاً في قصيدة شاعرنا د. حسين يوسف الزويد التي يُصوّر فيها معاناة الإنسان في تلك الظروف التي عصفت بمدينته

على ضفاف العنوان: جاء العنوان في تركيب مؤلف من: شبه جملة وحال وضمير فما دلالة هذا التركيب؟ من نافل القول إنَّ الكلام يتمُّ بتمام الجملة التي تتألف من فعل وفاعل ومتمّمات

به جملة   لكن حين ينحرف عن ذلك النمط ؛ فثمة ما يستوقف اللغوي والأسلوبي على حدٍّ سواء لأنَ العنوان كما يعرفه رولان بارت " أنظمة دلالية سيميائية تحمل في طياتها قيما أخلاقية واجتماعية وإيديولوجية وهي رسائل مسكوكة مضمنة بعلامات دالة مشبعة برؤية العالم يغلب عليها الطابع الإيحائي"

ويبدو أنَّ الجار والمجرور، إنما جاء الشاعر بهما لإفادة التخصيص والحصر بأنَّ هذا القول موجّه إلى مدينته الموصل على سبيل الحصر فيما يبدو ضمير الغائب بُعداً يشي بعمق الألم الذي يكتنف الشاعر بسبب البعد القسري عنها، وهو إضمار مقصود عكس حالة التغيير الطارىء على المدينة باحتلالها الذي غيَّر طبيعتها المسالمة ؛ فيما يبدو الحال إفراداً للمدينة التي انتكبت من دون المدن الأخرى من جهة، كما أنه إشارة إلى ارتهان المدينة بلحظة زمنية متوترة غير مُستقرة، وهو ما يفصح عنه دلالة الحال التي لا استقرار لها، وإنما هي في حالة تغيّر وتبدُّل مستمرتين ومن العنوان ألج إلى فضاءات القصيدة  التي يستهلها الشاعر بقوله:

لها وحدها

أميــرةٌ أنــتِ في عينَيـكِ مُنْشَغَلــي

                يا دارةَ الحُسْنِ والأشواقِ والمُثُلِ

مــا لــي أرى وَتـري أغراكِ في طَرَبٍ

                والعــودُ فـي فَمِهِ حُزْني على طَلَلِ

ينفتح هذا الاستهلال على صورة مُفارقة بين صورتين: صورة الماضي المختزن في ذاكرة الشاعر عن مدينته، وصورة الواقع الذي تراه العين الباصرة أمامها واقعاً مأساوياً باعثاً على الأسى والحزن:

 مواجعــي منكِ في الأعماقِ طاعنــةٌ

                 جُرْحي عميقٌ وباتَ القلبُ في وَهَلِ

ولنلحظ استخدام الشاعر لكلمة مواجع التي جاءت بصيغة الجمع للدلالة على تنوّع الآلام وكثرتها، كما أنه أسندها إلى ذاته بالضمير (ياء)، وهو ما يكشف عن معاناة الشاعر تجاه المصاب الجلل     

لينتقل بعد

وجــدي عليكِ مــدى الأيامِ يمنحُنـي

                هــذا الهيــامَ فــلا صــحــوٌ لِمُنْثَمِـلِ

كمْ كانَ لــي مِنْ ليــالٍ فيــكِ أعشقُهـا

                وتُهْتُ في الوصلِ والتهيامِ يا سُؤُلي

ضاعَ الخلاصُ ومـا فـي الأفقِ بارقــةٌ

يتخذ الشاعر من المدينة آخر يبثُّه شكواه وحنينه، إنَّ شخصنة المدينة هنا لها دلالاتها الرامزة التي حوّلت المدينة من مكان جغرافي إلى مكان نفسي يعيشه الشاعر حالةً غير منزاحة عن مكانتها الوجدانية، وإن كانت بعيدة في حدودها الجغرافية الطبيعية، أداوفة المنادى: (يا) وكأنه يُخاطب شخصية هي الحبيبة ، ومن غير الخفي إسنادها إلى ياء المتكلّم بما تعنيه من رغبة تملك وتخصيص بالذات، وتمسك بهويّة .   

  يا (موصلَ) الحُبِّ  والتحنانِ والقُبَلِ

يا (موصلي) يا حديثَ الروحِ يا وَجَعي

                 عــداكِ شَرُّ العِــدا والصُفْــــرِ والعِلَلِ

يــا كــلَّ بيبونــةٍ كالشمــسِ أرســمُهــا

                 في القلبِ يـا نينــوى الأفراح والغَزَلِ

سُــقياْ جـــمالِكِ فوقَ الأرضِ تَسْكُبُهـــا

                  مواســــماً مِنْ ربيــــعٍ أخضــــرٍ هَطِلِ

سُقْيا عبيرِكِ في روحــي تَفــوحُ هــوىً

                   مُكابــِراً وســؤالاً ماطــــرَ الأمَــــــلِ

عيداً وحَلْوى وصــدراً دافئــاً وفمــاً

                 مازِلْتِ، والطفلُ يهــوى العيدَ لَمْ يَزَلِ

شوقـــاً علــى ثغــرِكِ البسّــامِ أنقُشُهــا

                عَزْفــاً أنــــارَ عُتامــاتٍ علــى سُبُلــــي

فَكَمْ بنفســجِ حَقْلٍ كنــتِ فوقَ دَمــي

                 ونجمةً كنــتِ فــي حِلّـي ومُرْتَحَلــي

سيهطلُ الوردُ فــي كلِّ الرُّبــى فَرِحــاً

                  مــا أنْ نظرْتِ إلــى غيــمٍ وعَنْ جَذَلِ

لَهْفـي عليــكِ شِغافُ القلــبِ تعزِفُــهُ

                   أُوّاهُ منــكِ ومِنْ قلبــي ومِنْ ثَمَلــي

وأمام مأساوية المشهد، وضيق الشاعر بالواقع يحاول أن يستعيد الماضي كحالة انتكاس نفسية، وفرار على طريقة الشعراء الرومانسيين الذين يهربون من قسوة الواقع باللجوء إلى الطبيعة، وهو ما نجده لدى الشاعر  الزويد  الذي يجد في الارتكاس إلى الماضي الذي عاشه في مدينته الموصل تعبيراً عن محاولته إعادة التوازن النفسي إلى ذاته الممزّقة، وهو يرى ما آلت إليه الأمور في مدينته التي يحبُّ . 

إنّي لأعــــرِفُ أحلامــــي التـي قُبِرَتْ       

                    عنــدَ الســواحلِ فاقَتْ كُرْبَتــي حِيَلي

مراكبــي أبحــرَتْ في ألــفِ عاصفــةٍ

                     ويلــي عليكِ وويلِ الويلِ يا وَجَلــي

مــا للبواكــي علـى الخدَّينِ تندُبُنــي؟

                     أمُــتُّ فــي كَمَدٍ يبقــى بــلا أمَــــلِ؟

هاكُمْ فــؤاداً لــو انَّ الصــخــرَ مَعــدِنُهُ

                   لصــاحَ مِنْ وَجَعٍ وانَهدَّ فــي عَجَلِ

بيد أنَّ الحقيقة تظلُّ مخرزاً يُدمي العين بمشاهدها المؤلمة، وبذلك نلحظ الشاعر يعود بأسلوب الفات على صعيد الخطاب اللغوي، إذ يُعبّر بالكلام الخبري الطلبي الذي جاء بمؤكدين: (إنَّ ولام المزحلقة في الخبر)، إمعاناً من الشاعر في تحقيق إبلاغه، وتأكيد مقالته فيما يراه من أحلام قد دفنت، وأنًّ حجم المصيبة أكبر من قدرة احتماله عليها، وهكذا يبدو العويل والبكاء نتيجة طبيعية أما العجز الذي يعيشه الشاعر، وهو يجد نفسه عاجزاً عن فعل أيّ شيء تجاه الكارثة التي تُميت القلب وتزلزله ولو كان من معدن لا يحسًّ، ولا يشعر بعاطفة تجاه الواقع الموضوعي، وما يدور فيه من مجريات

وأخيراً يمكن القول إنَّ قصيدة لها وحدها للشاعر حسين يوسف الزويد جاءت صرخة في وجه الظلم، كما كانت نفحة وفاء عبَّرتْ عن عمق انتماء الإنسان للأرض التي تربّى فيها، وتنفَّس هواءها، وشرب ماءها ؛ فأبى أن يُدنّس ترابها أي محتلّ، أو يعتريها أي شرٍّ، وتلك سمات الإنسان العربي الأصيل الشهم .  

 

د. وليد العرفي

..........................

للاطلاع على قصيدة الشاعر في صحيفة المثقف

لها وحدَها / د. حسين يوسف الزويد

 

في المثقف اليوم