قراءات نقدية

هل مضى عصر الرواية؟!

يسري عبد الغنيلم تكن العلامة اللغوية التي صدّر بها د. علي الراعي مقدّمته لكتابه: "الرواية في الوطن العربي"، أي: "المجد للرواية العربية"، تثميناً للإنجازات الكبيرة التي حققتها تلك الرواية فحسب، بل تثميناً أيضاً للدور الذي نهضت به في الحياة الثقافية العربية من جهة، وللمكانة التي شغلتها في الوعي الجمعي العربي من جهة ثانية.

‏ المجد للرواية العربية! لقد جعلها أفضل المبدعين فيها لسان حال الأمة، وديواناً جديداً للعرب"، فمن أعمال الرواد الأوائل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى نهاية القرن العشرين والسنوات الثلاث الأولى من الألفية الثالثة قطعت الرواية العربية أشواطاً طويلة في طريق التأسيس والتأصيل لجنس أدبيّ عربي حديث، وحققت خلال ذلك إنجازات شديدة الغنى والتنوّع، وأثبتت كفاءتها العالية في تجديدها لنفسها دائماً، وفي مساءلتها لأدواتها وتقنياتها، وفي مغامراتها الجمالية التي مكّنتها، دائماً أيضاً، من إحداث تواز مستمرّ بين محاولات مبدعيها البحث عن كتابة روائية لها هويتها الخاصة بها، ومحاولات هؤلاء المبدعين أنفسهم بآن لمواكبة إنجازات السرد الروائي في الأجزاء الأخرى من الجغرافية الإبداعية.‏

ولعلّ أبرز ما ميّزها طوال تاريخها ليس مواكبتها لمختلف المدارس والتيارات والاتجاهات والفلسفات الوافدة فحسب، بل تمرّدها أيضاً على الثابت والمستقّر من القيم والتقاليد الجمالية التي ما إن كانت تذعن لها لوقت حتى كانت تبتكر بدائلها المناسبة التي غالباً ما كانت تحمل بذور فنائها في داخلها، صائغة بذلك سمة تكاد تكون وقفاً عليها من المشهد العالمي، وإلى حد بدت معه ومن خلاله فعالية إبداعية مفتوحة ومشرعة على احتمالات غير محدودة، ودالّة على قابلياتها الكثيرة للهدم والبناء دائماً، وعلى امتلاكها ما يؤهلها للتجدّد والتطوّر دائماً أيضاً.‏ ولئن كانت هذه السمات جميعاً، وسواها، هي ما جعل تلك الرواية الجنس الأدبيّ الأثير إلى جمهور القراء، على الرغم من حمّى الإقصاء الذي مارسته، وما تزال، وسائل الاتصال الحديثة لمختلف أشكال الكتابة،فإنها هي أيضاً ما يؤشر إلى أنّ هذه الرواية نفسها هي فنّ المستقبل بامتياز كما كانت الفنّ الإبداعي المميّز في النصف الثاني من القرن العشرين خاصة بامتياز أيضاً. وليس أدلّ على ذلك من وعي عدد غير قليل الروائيين العرب، كما أثبتت نصوصهم، أنّ كل تحول في حركة الواقع يستلزم تحوّلاً في الوعي الجمالي، وليس أدلّ عليه أيضاً من بزوغ أصوات جديدة دائماً مثّلَ عددٌ منها علامات في التجربة الروائية العربية من جهة، وبدايات لإيقاع جديد أو لمنعطف جديد في هذه التجربة من جهة ثانية.‏

إن الرواية العربية بدأت تنحدر إلى مستويات مخيفة، قال البعض لي هذا الرأي صادم أمام الضخّ الروائي الذي وصل إلى أكثر من 3 آلاف رواية خلال العقد الأخير

أنا لا أهاجم الرواية، وأعلم جيدًا دورها وأهميتها في وقتنا الحالي، وهناك العديد من الروائيين يسعون إلى أن تقوم الرواية بدورها، أنا أشفق على الرواية وفقا لما أراه على الساحة من روايات هابطة، لا يعرف أصحابها معنى كلمة رواية، وليس لديهم أدنى فكرة عن تاريخها أو أصولها أو قواعدها أو بنائها، ما يحدث في حقّ الرواية هو جريمة بكلّ المقاييس، وإذا استمرّ الحال على ما هو عليه فأعتقد أن الرواية العربية مهدّدة بالاندثار. فلنقل أننا في زمن النصّ الأدبي الجيد، أو في زمن النصّ الأدبي الذي نتمنّى أن يعّبر عنا عقليًا ووجدانيًا، بغض النظر عن تحديد الجنس الأدبي .

لنترك المتشائم تزيفتان تودوروف وكتابه “الأدب في خطر” جانبا ونسأل سؤالنا الخاص بهدوء: ما الذي يهدد الرواية؟ إذا كنا قد حسمنا أمر “موت الرواية “باعتبارها جنسا قد تغول بشكل يجعل من التبشير بموته عملا أشبه بالتنجيم المضحك، فإن هذه الأبدية التي يبدو أن الجنس الروائي قد أمسك بخيوطها لا يمكن أن يحجب عنا ما يتعرض له هذا الجنس اليوم من أخطار ومآزق قد تجعله يعجل الدخول إلى عصر الانحطاط. انحطاط آخر غير الذي وصف به لوسيان جولدمان الرواية بصفتها” بحث أصيل عن قيم أصيلة في واقع منحط”.

ما الذي يدفع بالرواية فعلاً إلى أن تنحط إذا؟ متى تنحط الرواية؟ وما الذي يهدد وجودها الأصيل؟

تعيش الرواية العربية اليوم أسوأ فتراتها مع الرقابة.. إن الرقابة التي تهدد الرواية في المعارض تهدد وجودها لأن تلك المعارض تحولت بالنسبة إلى الناشرين السوق المركزية للرواية وتحولت إلى معارض إنقاذ لدور النشر من ديونها والتي تجعلها تصمد في وجه واقع الأزمة التي يعيشها النشر.

لكن الخطر لا يتمثل في الرقابة نفسها بل في تقديم تلك الفضاءات على أنها السوق الكبيرة التي لا تنافس لاستهلاك الرواية من ناحية وغيابها سيشكل مأزقا مميتا للكتاب بشكل عام وللرواية تحديدًا، ومن ناحية ثانية يقف على أبواب تلك المعارض رقيب متخلف يهاجم أجنحة الناشرين يتفقد منسوب الحرية في ما يعرض، بل ويهاجم حتى قاعات الندوات أين يقدم الروائيون شهاداتهم ورؤاهم الجمالية.

إنه القدر العجيب هو الذي جعل الناشر العربي يتردد أمام المخطوطات قبل أن يجيب أصحابها ويفحص درجة جرأتها وحظها من الانفلات من عيون محاكم التفتيش بل إن من الناشرين من يذهب إلى التجسس على صفحات الكاتب ليرى مواقفه من تلك البلدان وأنظمتها قبل أن يجيب على مخطوطة الروائي.

لم نتصور أنه سيأتي اليوم الذي سيظهر فيه من جديد السيد “سينار” محامي الكاتب جوستوف فلوبير أمام محامي الادعاء السيد ارنست بينار ليحاكم روائي بسبب ما ارتكبه خياله ولنكتشف أن الخيال ليس حرا ولا الفن ولا الأدب. فالشخصيات الأدبية يمكنها أن تحاكم بسبب مجونها أو كفرها أو أخلاقها الهابطة، وبسبب تعذر القبض عليها يتحمل الكاتب المسؤولية ويقضي هو العقوبة فهو خالقها وولي أمرها بل هو شيطانها الذي أوعز لها بارتكاب الفواحش.

كنا نتصور أن ذلك انتهى مع القرن التاسع عشر أو بداية القرن العشرين. لكن المحاكم العربية تذكرنا كل يوم بأننا شعوب لا روائية ومازال الوعي الروائي بعيدا عنا رغم حصولنا على جائزة نوبل للآداب عن جنس الرواية، ويكفي أن نذكر أن محاولة اغتيال نجيب محفوظ بطعنة سكين في العنق تمثل دليلا صريحا على أن المنجز الروائي مازال بعيدا عن وعيننا الشعبي بالرواية كفن.

ولئن فلت نجيب محفوظ من السجن فإن مواطنه الروائي الشاب أحمد ناجي، الذي ظل وراء القضبان أشهر طويلة لم يفلت من الاعتقال، ليؤكد استمرارية محاكم التفتيش التي تعقد لتحاكم الأدب والتخييل محاكمة أخلاقية وتعتبر أن بعض الأدب جرائم استنادا إلى دساتير تلك البلدان.

كل جرم الروائي أحمد ناجي أنه نشر فصلا من روايته “استخدام الحياة” في جريدة “أخبار الأدب” فتحولت تلك الوثيقة دليل إدانة له وهذا ما قدرته النيابة من أمر النص الذي اعتبرت بعض مشاهده من السلوكيات اللا أخلاقية والمشجعة على الرذيلة فوجب معاقبة مرتكبها. هكذا يزج برجل الخيال وراء القضبان بتهمة ما ارتكبه من خيال.

إن اعتقال الروائيين ليس هو الخطر الوحيد الذي يهدد الرواية بل إن هذا الاعتقال قد يكرس روائيا يكتب أعمالا رديئة فنيا فيكسب ذلك الروائي من وراء الاعتقال شهرة وصيتا أكبر من حجمه، وليس المقصود هنا أحمد ناجي بل نتحدث عن الظاهرة بشكل عام وما يمكن أن تفرزه من خطر على المشهد الروائي من طفيليات سجنية.

أليس هذا ما حدث مع الأنظمة الاستبدادية عندما اعتقلت “كتابا” سيئين واكتسبوا بذلك الاعتقال حصانة أمام المؤسسة النقدية التي تضطر كل يوم إلى مجاملتهم أو تجنبهم فيكرسهم المجتمع المدني وتفرضهم الأحزاب المنتمين إليها أو الإعلام الباحث عن الإثارة فيما يسمى ب”أدب السجون” . أوليس هذا الأدب أردأ ما في الآداب العربية بسبب الاختراق حتى أصبحت التأشيرة لعالم الأدب ليست النص الأدبي نفسه بل سنوات السجن التي قضاها صاحب الكتاب.

وتدفع الرقابة بعض الروائيين إلى مغادرة أوطانهم فالوقوف في وجه السلطة يمثل أيضا طريقا إلى المنافي والملاجئ الأوروبية وهناك أيضا يربي الغرب رواية عربية رديئة، حيث يصل الكاتب إلى الغرب برصيد نضالي يكون هو جواز الوحيد للجوائز والترجمة وليس نصه الإبداعي. وهكذا يتورط الآخر في تهديد الرواية العربية الراقية بالاحتفاء بالأعمال الروائية الرديئة ذات التوجهات الأيديولوجية، ونحن هنا لا نتهم كل أدب المنفيين بالرداءة إنما نقول أن عددا لا بأس به منهم لا يرتقي ليكون محل ذلك الاحتفاء والتكريس وأن السبب الوحيد لذلك الحضور هو وضعه كلاجئ أو منفي.

والحق أن هذا الآخر قد لا ينتظر وصول المنفيين من الكتاب الرديئين إليه بل يذهب إليهم أحيانا في بلدانهم ليترجمهم لغايات غير أدبية بل استشراقًا مضادا وتجسسا على تلك المجتمعات المنطلقة الغامضة أو تشجيعا لتيار ما.

إلى جانب ما يرتكبه الكتاب من جناية ضد الرواية بالدفع للناشرين لينشروا لهم أعمالهم تحت علامة لا علاقة لها بمتن المنشورات، ودفعهم للمترجمين والمرتزقة من المترجمين الأجانب والدفع للناشرين الأجانب لنشر تلك الترجمات في نسخ قليلة لضرب المشهد الروائي العربي بهذه السير المزورة لأشباه الروائيين، تنهض الجوائز الأدبية الخاصة بالرواية داء داخليا ذكيا يهدد الجنس الروائي نفسه دون أن يدري، فانتشار الجوائز ذات المبالغ المالية الكبرى والممولة من بلدان غير مؤمنة بحرية التعبير وليست لها تقاليد أدبية في هذا الجنس الأدبي باعتباره حالة من التحرر المطلق يمثل خطرا على الرواية، لأن واضعي الجوائز وضعوا معها شروطهم المتناقضة مع أدبيات الفن الروائي، فهذا الجوائز المحافظة أصبحت تحول وجهة الكتابة الروائية نحو قالب جديد مغربلة لغتها ومشاهدها ومضبوطة أقاصي جرأتها.

بهذه الجوائز ينحرف الخطاب الروائي نحو خدمة الدين أو الطائفية الدينية من خلال عدد من الكتابات التي تدعي الروائية وهي الغارقة في خطاب أحادي مضاد للجنس الروائي برمته. خطاب خادم للفكر الديني المتشدد في شموليته ضاربا فكرة التعايش والتحاور والتعدد والنسبية التي نشأت الرواية فيها ومن أجلها. فالكتاب الديني غير المستنير خطاب شمولي يقيني أزلي.

إن هذا الخطاب الذي جعل من الرواية العربية خطابا تبشيريا رديئا نجح في التغلغل في عقول الشباب عبر “جماعات القراءة” التي تقودها أياد خفية وراء أولئك الشباب البريء الحالم. أياد قذرة استطاعت أن تجند المراهقين من خلال الخطاب الروائي الملغوم تحت شعارات كبرى قومية كمحاربة الصهيونية والدفاع عن الإسلام.

أقول لكم-يمثل استعجال الكتاب في دخول عالم الرواية تحت إغراءات الجوائز أحد أهم أسباب تشوه المشهد الروائي العربي بنصوص كثيرة رديئة، والسبب الثاني تسببت فيه مواقع التواصل الاجتماعي التي شكلت سوقا لبيع الأوهام أول من تخدع تخدع الكاتب الذي يظهر فيها لأول مرة كمبدع بسبب تلك الأكداس من “اللايكات” التي تعلن إعجابها بتلك النصوص المنشورة وهو ما يجعل هؤلاء الفايسبوكيون والتويتريون يتسرعون في تجميع تلك الكتابات ويطلقون عليها روايات.

والحق أنها ظاهرة عالمية وليست عربية مما دفع بالروائي الايطالي امبرتو ايكو إلى التصدي لها قبل وفاته فوصف وسائل التواصل الاجتماعي بأنها «تمنح حق الكلام لفيالق من الحمقى، ممن كانوا يتكلمون في البارات فقط بعد تناول كأس من النبيذ، دون أن يتسببوا بأي ضرر للمجتمع، وكان يتم إسكاتهم فورا. أما الآن فلهم الحق بالكلام مثلهم مثل من يحمل جائزة نوبل. إنه غزو البلهاء». وسخر منها الروائي الأمريكي جوناثان فرنزان ” حين أتأمل وسائل التواصل الاجتماعي اشعر أن العالم الذي كان ناضجا تحول فجأة إلي كافيتريا مدرسية بها صبية من الطلبة الصف الثاني إعدادي وحين أتأمل صفحة الفيس بوك اشعر أنني بإزاء صالة القمار في لاس فيجاس”.

نضيف إلى ذلك أن المؤسسة النقدية، في غياب الدوريات النقدية والأدبية والملاحق الثقافية بالصحف العربية، أخذت تنقرض شيئا فشيئا وتترك مكانها لخطابات أخرى مبتسرة وانطباعية وسطحية ، مع استثناءات قليلة، تغدق على النصوص بالثناء أو باللعنات تسمى تجاوزا “مراجعات”. هذه المراجعات التي تمتلئ بها الصحف وخاصة منها الصحف والمواقع التي تدفع لكتابها تتحول بسرعة إلى مؤسسة موازية للمؤسسة النقدية وتحل محلها كوريث شرعي. خطر هذه المراجعات أنها ماكينة إنتاج لذلك فهي خالية من فعل الإبداع النقدي بل هي متلبسة به في ما يمكن أن نسميه “انتحال صفة” لذلك تتجرأ على الحكم على النص أو له. هذه الأحكام هي التي توطن الرواية في خانة من الخانات وتعلي من شأنها أو تسقطها وهي التي تعبد لها طريق الجوائز أو طريق النسيان.

إن الرواية قد تكون نجت من الموت وكذبت المنظرين لموتها وتلاشيها الطبيعي كأنواع أخرى سبقتها لكنها قد تنجو من الاغتيال من خلال محاصرتها بالرقابة والقمع أو عبر الاحتفاء المبالغ به وتحويلها إلى شأن كرنفالي استعراضي أو بتحويل وجهتها لخدمة أغراض أخرى غير روائية سياسية كانت أو دينية.

وبعد، فلقد شيّد الروائيون العرب في العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين والسنوات الثلاث الأولى من هذا العقد عمارة إبداعية راسخة، ودالّة على إمكان انتماء الجنس الروائي العربي، أكثر من سواه من الأجناس الأدبية العربية الحديثة الأخرى، إلى المستقبل، كما كانت دالّة على شرعية انتمائه إلى الماضي والراهن. ولتعزيز تلك السمة، بل لتأكيد صوابها لا مناص أمام الروائي العربي من إحداث تحوّلات فنية /جمالية لا تكتفي بالتأصيل لكتابة لها هويتها الخاصة بها فحسب، بل تتجاوز ذلك إلى وعي الذات في مواجهة معوّقات التقدّم التي يعانيها الراهن.‏

 

د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم