قراءات نقدية

قصيدة: مجرةُ المجر للشاعر سعد ياسين يوسف.. قراءة نقدية

جمعة عبد اللهتأخذنا قصيدة شاعر الأشجار د. سعد ياسين يوسف (مجرة المجر) بتناولها الواسع إلى عتبات ومنصات عديدة ومتنوعة تدل على الابتكار والخلق في التناول الشعري والاستلهام الواسع والتناص والرؤية المستخلصة من التناول والطرح، كما تأخذنا هذه الصياغة الشعرية غير التقليدية إلى أطر عميقة عبر التناص الحضاري والديني والتراثي بما فيه الموروثات الشعبية التقليدية التي تتجلى في صورها التعبيرية الملهمة في هذا الشغف الشعري الذي يتدفق عذوبةً وتوهجا في أنواره المضيئة بما يدل على التمكن من الصياغة والفكرة الخيالية المشبعة بالرؤية الفكرية والفلسفية في استلهام هذا التناص في انزياحاته المتعددة والمتنوعة .

إنَّ القصيدة بقدر ماهي سفر تكوين المكان فهي تختلط أيضاً بقدسية الحبّ لهذا المكان من خلال التباهي به بوصفه بمجرة الله التي خلقت في المكان المحدد بالضبط (المجر) جنوب العراق،وهذه المجرة من المجرات السماوية في نجومها المضيئة والمشعة بجلالة نور الله .

أراد الشاعر أن يدلل بطريقة واعية وذكية وبلغة قدسية إنَّ هذه المجرة الإلهية خلقت في فردوس الأرض ببركته ونعمته الواسعة،في فردوسها القائم في جنّة الله على أرض العراق الجنوبية،بقدرة الخالق وبعصاه المقدسة ونعمة نهرين من عسل وحليب مجسداً هذا الاعتزاز عبر التباهي بفردوس الله في أرضه مَجرة (المجر):

(من نهري عسلٍ وحليبِ الجنَّةِ

استلَّ عصاهُ المقدسةَ

رماها على جرفي نهريها ...

وقالَ لها : كوني ....

فأنبتتْ حقولاً من قصبِ السُّكرِ)

هي مصدر الثراء الحضاري التليد الذي نشأ في هذه البقعة الجنوبية المقدسة . والتي يحق لها الاعتزاز بمعالمها الشعبية والتراثية التي تميزت بها وأصبحت علامة فارقة في مكانها الحضاري المشعّ في أنواره وهي أنوار الله الربانية تتمثل في حوريات نسائه كأنهن حوريات الجنّة لترقص فوق قبابها :

(فأضاءتْ مدىً شاسعاً من سماءٍ وماء،

"خزّاماتٍ" وأساطيرَ و"يشنٍ"

ترقصُ حورياتُ النّورِ

فوقَ قبابِها).

هذا تأكيدٌ بأن الجنوب منبع الحضارة السومرية ومنبع العشق الإلهي في وفرة بركاته، وفي بركة حقول قصب السكر ووفرة الماء المقدس، في حياضها العامر، في تجلي نور الله في هذه البقعة المقدسة، قال لها الخالق : كوني فكانت كأروع ماخلق الله على الأرض:

(رماها على جرفي نهريها ...

وقالَ لها : كوني ....

فأنبتتْ حقولاً من قصبِ السُّكرِ

ضفائرَ عمَّدها المسكُ، القرنفلُ،

غاباتٍ من يشاميغَ سومر...)

وفي آنيتها الخلّاقة وفي نسائها حوريات مجرة الله اللواتي تعطرت ضفائرها بالمسك والقرنفل وتأزر رجالها الأبطال ب(اليشماغ السومري ) ليكونوا أمتدادا لسومر في الجنوب العراقي رمز قوة ومنعة في مواجهة الصعاب والغزاة عبر العصور .

(ضفائرَ عمَّدها المسكُ، القرنفلُ،

غاباتٍ من يشاميغَ سومر... )

هذا الإبهار الشعري ليدل بأحسن تعبير،عن مدى عمق جريمة الغزاة في انتهاك حرمة الله المقدسة ومدى الخراب الذي أشاعه التتار الجدد في هذه الأرض المقدسة، التي شكلَّها وصنعها وخلقها الله في أحسن تقويم وأحسن فتنة من الجمال الساحر الذي تجسد تراثاً حضارياً وشعبياً مذهلاً .

إن هذه الأرض التي هي رمز للعراق وعبر الزمن لم تهادن الغزاة البرابرة الذين توقعوا استقبالهم بأحسن حلة وبأفخم لباس، كما تصور الشاعر اليوناني (قسطنطين كفافيس) غير أنَّ استقبالهم كان على يد أحفاد سومر كان بألف لعنة ولعنة والمصير الاسود والمشؤوم كان بانتظارهم لانهم تعدّوا على هامات النخيل ورطب الله المقدس، في هذه الجنّة الإلهية ولأنهم ارتكبوا أكبر معصية لله والسماء ولهذه المجرة السماوية .

(تصهلُ الرِّيحُ إذا ما تأزَّروا بها

للغزاةِ ...

وهاماتٍ من نخيلٍ كلّما مرَّ بها خائفٌ

تسَاقَطَ عليهِ رُطبُ الأمانِ ...

حلّقَ في الأغنياتِ مع أسرابِ "الحِذّافِ")

هذا الدفء في القدسية للمكان في التناول الملهم في هذه التحفة الشعرية جاء وكأن القصيدة تشخص سفر تكوين الجنّة في حضارتها، وسفر تكوين المجد في براعته عبر منصات الإيحاء والرمز . لكي يدلل بأن هذه المجرة السماوية في (المجر) ولدت من غصون شجرة الله المقدسة، التي خلقها في أحسن تقويم ومنحها الله النور المقدس . هذا التألق الشعري بالتناول والطرح غير التقليدي وغير المألوف، في التعاطي مع المقدس والاعتزاز القدسي للمكان ليؤكد انتماء الشاعر وانحيازه إلى مجرة الله المقدسة عبر تناول شعري انطلق من فسائل الرؤية التي تملك براعة الابتكار والخلق في التدليل على المكان الذي هو أصل التكوين والحضارة في جنّة تجري فيها الأنهار من عسل وحليب .

وعلى ما أعتقد أن الشاعر وضع ثمة إشارة غير مباشرة على تواني الأحفاد الذين خالفوا وصايا الله في هذا المكان المقدس، الذي يحمل الدفء والكرم والضيافة في دقَة فناجين القهوة ورائحة الهيل وهي إشارة مبطنة إلى معصية الأحفاد وتوانيهم عن أن يكونوا بعظمة الأجداد وربما هو تحفيز لأن يكونوا كذلك لتستمر حركة التأريخ

(مَضِيفاً للنورِ وكوناً، دفئاً

لا يشبهُ إلا دفءَ القهوةِ

دعاءَ الأبوينِ

دفءَ الجنّةِ

وكلماتِ اللهِ الأولى ...

إذْ ألقى عَصاهُ على الأرض!!!

***

بقلم : جمعة عبدالله

.....................

مجرةُ المجر

د. سعد ياسين يوسف

مذ خلقَ اللهُ مجرَّتَها...

وأجرى على الأرضِ نهريها

شَقَّ بمِرود أمِّنا حواءَ

عينيها فكانتْ مجرَّةً للسماءِ

تلألأتِ النجومُ في أعماقِها

فأضاءتْ مدىً شاسعاً من سماءٍ وماء،

"خزّاماتٍ" وأساطيرَ و"يشنٍ"

ترقصُ حورياتُ النّورِ

فوقَ قبابِها .

من نهري عسلٍ وحليبِ الجنَّةِ

استلَّ عصاهُ المقدسةَ

رماها على جرفي نهريها ...

وقالَ لها : كوني ....

فأنبتتْ حقولاً من قصبِ السُّكرِ

ضفائرَ عمَّدها المسكُ، القرنفلُ،

غاباتٍ من يشاميغَ سومر...

تصهلُ الرِّيحُ إذا ما تأزَّروا بها

للغزاةِ ...

وهاماتٍ من نخيلٍ كلّما مرَّ بها خائفٌ

تسَاقَطَ عليهِ رُطبُ الأمانِ ...

حلّقَ في الأغنياتِ مع أسرابِ "الحِذّافِ"

المتسلقِ نهرَ "العدلِ" * إلى "صحنِ الله"*

حيثُ أعتادَ الواهبونَ على التصغيرِ

ليشيعوا الألفةَ .

ألفة بيتِ القصبِ حينَ يصيرُ

مَضِيفاً للنورِ وكوناً، دفئاً

لا يشبهُ إلا دفءَ القهوةِ

دعاءَ الأبوينِ

دفءَ الجنّةِ

وكلماتِ اللهِ الأولى ...

إذْ ألقى عَصاهُ على الأرضِ ....!!!

***

 

......................

* المجر: مدينة من مدن محافظة ميسان، تقع على حافتها بعض أهوارالجنوب .

* نهر العدل: من أنهار المجر وكان طريقاً مائياً إلى هور الصحين .

* صحن الله: المقصود هور "الصحين" وسميت كذلك لوجود فضاء دائري في وسطها .

 

 

في المثقف اليوم