قراءات نقدية

جورج سارتون وأطروحته للدكتوراه بعنوان: دافينشي العلم والفن (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن جورج سارتون وأطروحته عن ليوناردو، يقول سارتون : كان ليوناردو ميكانيكاً بالفطرة، وكذلك رساماً، ونمت ميوله الميكانيكية في أستوديو فيروكيو، وكان فيروكيو مثالاً ورساماً وحداداً ؛ وأشهر عمل له هو تمثال "بارتولوميو كوليوني" الفارس في فينسيا، ولعله أعظم أثر من نوعه في العالم، وتضمن تنصيب هذا الأثر حل الكثير من المشاكل الميكانيكية .

وكان ليوناردو في خلال سنوات مراهقته يتأمل باستمرار الآلات المتنوعة التي ستجعل مهمة إشباع حاجات السلام والحرب إسهاماً، وكان المصدر الوحيد المتاح للطاقة هيدروليكياً، وكان من الضروري حفر القنوات التي كانت أفضل وسيلة، لنقل المواد الثقيلة، وباء طواحين المياه علي الأنهار الجارية .

إن رسومات ليوناردو مليئة بمشروعات ميكانيكية مرسومة بتفاصيل كاملة ودقيقة جداً، لدرجة أنها تبدو أحياناً، مثل الرسومات الميكانيكية الحالية، وفي الحقيقة أنه كان من الممكن إعادة بناء الآلات التي اخترعها، ولكن هل اخترعها هو؟. إن هذا الأمر غير مؤكد وغير وارد ؛ لقد كان هناك الكثير من المخترعين في القرن الخامس عشر، بل وحتي من قبل القرن الرابع عشر، ومعظمهم كانوا أميين، وفي حالات كثيرة كانت السرية هي حمايتهم الوحيدة .

ومن الهيدروليكا انتقل ليوناردو إلي الديناميكا الهوائية، وقام بعدد كبير من الملاحظات المفصلة والدقيقة بخصوص طيران الطيور، وكانت مشروعاته تشبه مشروعات ديدالوس وايكاروس، ولكنها بالأحري، كانت تشبه مشروعات مهندسي القرن التاسع عشر الذين حاولوا حل مشكلة طيران الإنسان قبل اختراع المحركات، وسأل ليوناردو نفسه سؤالاً معقولاً جداً : وهو لماذا لا يستطيع الإنسان أن يحلق في أجواز الفضاء كما تفعل الطيور؟ وفكر قائلاً أنه لتقليدها ينبغي أولاً أن نكشف كيف تفعل ذلك بالضبط، وملاحظاته في هذا الموضوع لم تكن تضاهيها أية ملاحظات حتي في القرن التاسع عشر.

لقد كان ليوناردو يتساءل دائماً، كيف تحلق الطيور في أجواز الفضاء؟ وكيف تطير مع أو ضد الرياح ؟ وكيف توجد طيرانها وتصل إلي هدفها؟ ولاحظ توافق لأجنحة وانثنائها وأنواع الريش المتنوعة وحركة الذيول، وكيف تستخدم هذه الوسائل للصعود لأعلي والهبوط لأسفل والتحليق والتوازن والحط دون أن تكسر رجليها ؟ وباختصار فإن ليوناردو فعل كل شئ يمكن فعله في عصره . ومن الخطأ أن نطلق عليه أنه كان سلفا لكوبرنيكوس أو هافي ولكنه يستحق تماماً أن يعتبر أحد رواد الطيران .

وسيكون من المضلل جداً أن نتصور أن ليوناردو يشبه مخترعاً من مخترعي الوقت الحاضر، هدفه في الغالب جمع المال، فقد كان رجلاً عملياً، ولكنه كان أيضاً فيلسوف يحب أفكاره كثيراً جداً، لدرجة أنه فقد الاهتمام بتحقيقها . وكما نعرف جميعاً، أنه عندما تطرأ فجأة فكرة عظيمة لمخترع، فإنه ليس هذا هو نهاية الأمر، ولكنه البداية؛ وأصعب مهمة هي الذي ستأتي بعد ذلك، وعليه أن يتوصل إلي تفاصيل لا حصر لها، وأن يتحقق من الإمكانيات الصناعية والتجارية، وأن يوفق خططه مع الواقع .

ولم يكن بمقدور ليوناردو الذي لم يكن لديه أي صبر، وأي موهبة لهذا النوع من الأشياء أن يصبح مخترعاً ناجحاً، وكان يشبه قليلاً أولئك الرجال الذين يحبون العبث مع النساء، ولكنهم ينسحبون إذا وجدت ملاحظاته للنساء ترحيباً وقبولاً، لا يريدون أن يتورطوا .

كما كان ليوناردو فيلسوفاً أكثر منه مهندساً،وكان مهتما بالمبادئ النظرية أكثر من اهتمامه بتطبيقها، ولكن لسوء الحظ فإن مبادئ الميكانيكا في عصره لم تكن واضحة بعد. وواصل ليوناردو التقاليد القديمة التي يمكن إرجاع تاريخها إلي أرسطو وأرشميدس ولكنها كانت غير منظمة وغير سرية للغاية

والسؤال الأول الآن، هل عرف ليوناردو الكتابات القديمة والوسيطة عن الميكانيكا؟

نعم لقد عرف عن تلك الكتابات، فهو يذكر أرشميدس عدة مرات، كما أنه يذكر بياجيو بيلاساني والبرت السكسوني، وكل هذه الكتابات كانت بالغة اللاتنية كانت إلي حد ما تجريبية ومجزئة، وحيث أنه كان إيطاليا كان بمقدوره أنه يفهم جملة لاتينية، ولكنه كان أمياً تقريباً يقرأ القليل جداً ولا يقيم بالمرة وزناً للمراجعة .

وعلي الرغم من المزاعم التي تناقض ذلك، فإنه لم يكن عالماً رياضياًً دقيقاً،وإن كان يحب الرياضيات بالأسلوب الأفلاطوني، ولكن ليس بصورة جدية للغاية. وكان ميكانيكياً بالغريزة وحاول طوال حياته أن يفهم ظواهر الاستاتيكا والديناميكا؛ بل أن هحاول أن يفهم قواعد الهيدروليكا والايروديناميكا، ولكن بدون جدوي، استطاع أن يكتب : " أن الميكانيكا هي فردوس الرياضيات لأنها تعطينا ثمار هذا العلم "، وكانت هذه مقولة شعرية وحدس يدعو للإعجاب، ولكن الثمار لا تزال بعيدة جداً عن النضج، وكان من غير الممكن حل المشاكل الجوهرية لأنه لم يكن من الممكن صياغتها بعد، وواصل ليوناردو بشجاعة الخضانة القروسطية (أي الأخذ عمن سبقوه من العصور الوسطي)؛ ولم يكن من الممكن أن تحدث الولادة إلا في زمن أو عصر " سيمون ستيفين " وجاليلو، وبدأت الميكانيكا تنضج فقط بالقرب من نهاية القرن السابع عشر مع " هويجنز " "ونيوتن".

وفي مجال الميكانيكا الرائع، استطاع ليوناردو، رغم عبقريته أن يشق طريقه فقط كرجل أعمي . وفي مجال آخر - مع ذلك - كان من الممكن الحصول علي نتائج قيمة في الحال، وكان هذا المجال هو علم التشريح . وهنا مرة أخري كان يواصل التقاليد القروسطية، لأنه من الخطأ الاعتقاد بأن التشريحات كانت محرمة طوال العصور الوسطي، فقد كان هناك مشرحون متميزون مثل موندينو دي لوزي وجويدو دا فيجيفانو، علي التشريحات البشرية كانت نادرة ومنظمة تنظيما سيئا . وجاءت الصعوبات من المدرسة السكولائية أكثر من الدين (أي أنها حرمت التشريح أكثر من الدين)، وكانت روح التجريب تكاد لا تكون موقظة والأسوأ من ذلك، هو أن منهج الملاحظات بدقة وبدون تحيزات كان غير معروف تقريباً، فقد كان جالينوس وابن سينا يسيطران علي الاطباء لدرجة أنهم كانوا غير قادرين علي الرؤية بأعينهم وهناك كشفت عبقرية ليوناردو عن نفسها رغم أن الرؤية في هذه الحالة كانت ناقصة ومجهضة .

ومع ذلك يمكننا القول، بان التشريح الحديث أسسه رجلان هما "ليوناردو الإيطالي" و"اندرياس فيساليوس الفلمنكي"، علي أن هناك فرقاً أساسياً بينهما، فقد قام ليوناردو بتشريح نحو ثلاثين جثة، وترك عدداً وفيراً من الملحوظات والرسومات، ولكنه لم يقف أبداً بتأليف بحث في التشريح، بعكس فيساليوس الذي نشر في عام 1543 عملاً عظيماً تحت عنوان " تركيب جسم الإنسان وهو حقاً أساس علم التشريح الحديث . أما بالنسبة لليوناردو فقد ظلت ملحوظاته ورسوماته مجهولة تقريباً حتي هذا القرن الذي نعيش فيه، في حين أن كتاب فيساليوس أثر تأثيراً في كل المرشحين الذين جاءوا بعده، ويجب أن نستنتج أن " فيساليوس " وحده هو علم مؤسس علم التشريح الحديث .

ومع ذلك، فإنه علي الرغم من أن تأثير ليوناردو في التشريح يكاد لا تذكر، إلا أن أعماله التشريحية كانت مذهلة، وإذا كان فيساليوس بحكم كونه طبيبا وأستاذا للتشريح، كان يجري كثيراً من العمليات التشريحية، فإن ليوناردو كان مثله، حيث أجري كثير من التشريحات، وأجراها بنفس الجودة التي أجري بها فيساليوس تشريحاته، وإن لم يكن ذلك بصورة نظامية أو منهجية .

إن التشريحات التي يجريها الطلاب اليوم في معامل التشريح بكليات الطب سهلة جداً ؛ فالماء الجاري والتبريد والمواد المخدرة، قد قللت هذا العمل بدرجة كبيرة . إن أي من وسائل الراحة هذه لم يكن متاحا لليوناردو وإنجاز مهمته المفروضة ذاتيا كان يتطلب قوة إرادة هائلة .

وعلاوة علي ذلك، فإنه في حين أن فيساليوس كان يساعده فنان محترف هو " جون ستيفن "، كان ليوناردو مضطراً في مراحل مختلفة لمهمته الفظيعة أن يقطعها، ويبدأ في الحال نوعاً آخر من العمل ذي رقة مفرطة، راسما ما يراه بدقة بقدر الإمكان . إن بعض رسوماته التشريحية لم تكن تضاهيها أبداً أية رسومات أخري .

إن حب استطلاع ليوناردو ذهب إلي ما وراء حب استطلاع غيره من الرسامين والنحاتين أو المثالين الذين كانوا مضطرين إلي امتلاك بعض المعرفة بالتشريح الفني، أي تصميم وتخطيط العضلات السطحية الظاهرة وقد درس في فلورنسا علي الذين كانوا مصممين أكثر من رسامين بالألوان هذا النوع من التشريح بحماسة . وتطرف أنطونيو بولايولو في هذا التقليد ثم أعيد إلي الإعتدال بواسطة فيريكيو وليوناردو . إن نموذج المثال أو الرسم التخطيطي للرسام يجب أن يكون دقيقا بدرجة كافية وشديدة للحساسية ليبين وجود العضلات، ويجب أن يكون المشاهد قادرا علي اكتشاف وجودها بالحدس والبديهة دون أن يكون شاعراً بها أو مدركا لها .

ومنذ بداية الفن سادت الاعتبارات الرياضية والصوفية والتشريح الفني، وقد أدي حب التناسق والإعداد بالفنانين من كل العصور إلي اكتشاف العلاقات الرياضية بين أحجام أجزاء الجسم المختلفة، ووضع قاعدة للجمال البشري، وقد وجدت هشة المشاغل في مصر القديمة والهند واليونان . ولم يكن ليوناردو مهتماً ليس فقط بجمال جسم الإنسان، ولكنه كان أيضاً يبحث عن الجمال في الممالك الثلاثة للطبيعة، وترك وراءه كثير من الرسوم التخطيطية لحيوانات ونباتات وقواقع وصخور، وتصف بعض بحوثه اليوم في مجالات الجغرافية الطبيعية، وعلم المعادن والجيولوجيا، ورسوماته تجعلنا نفكر في رسومات راسكن الذي كان شغفه بالفن، وكذلك العلم قوياً ومعقداً أيضاً. وكان أحد الأوائل الذين أعطوا تفسيرا للحفريات ؛ فالفواقع التي وجدت مطمورة في صخور الجبال كانت بقايا مخلوقات عاشت في البحار أو علي الشواطئ ورفعت لأعلي فيما بعد . وكان أحد أوائل الرجال في الغرب الذين استكشفوا جبال الألب المرتفعة ليس فقط كفنان، ولكن أيضاً كرجل علم، وكانت شعوب أوروبا بوجه عام تخشي الجبال التي كانوا يتخيلون أنها مسكونة بالجن، أو العفريت، والأقزام الخرافية، والشياطين .

ولم تكن المسيحية قد نجحت في إزالة وتقليل تلك الخرافات، في حين أن البوذية كانت قد شجعت علي خرافات مناقضة لها، فبوذية الصين واليابان قد ربطوا دائماً القمم العالية بقوة إلهية، وبنيت أشهر معابدها فوق منحدرات أو قمم الجبال .

ومن وجهة النظر هذه كان ليوناردو شرقياً، فأفكاره عن الفن والطبيعة تفتن القراء الهنود أو الصينيين أو اليابانيين، وسبب شرقيته، هو أنه إلي حداً كبير قد قلل خرافاته وموانعه الغربية، وانشقاقه كان انشقاق رجل عظيم حقا، إذ لم يكن مقصودا ولكنه كان تلقائياً وطبيعياً .

وكان تفكيره علمياً وعقلانياً من تفكير الغالبية العظمي من معاصريه، ولكن لم يكن متحرراً تماماً من التحيز، وتكاد لا تكون هذه الحرية ممكنة في عصرنا، وكانت مستحيلة تماماً في عصره . وإذا كان من المعروف أن العباقرة لديهم عقل أكثر حرية ورؤية أوضح من الناس الآخرين، إلا أن هناك حدا لوضوح رؤيتهم وحريتهم . ولقد كان عقل ليوناردو يقيده نوعان من التحيز يمكن أن نسميها : التحيز الأفلاطوني والتحيز الجالينوسي .

والأول كانت تمثله أساسا فكرة العالم الصغير (الإنسان) والعالم الكبير (الكون)، التي شرحها أفلاطون في محاوره " طيماوس " ثم نقلها علي نطاق واسع الأفلاطونيون المحدثون . إن العالم الصغير لجسدنا هو نسخة ناقصة جداً من العالم الكبير للكون، فعظامنا مثل الهيكل الصخري للأرض، وتوجد لدينا بحيرة دم تشبه البحار، وإيقاع تنفسنا ونبضنا يشبه إيقاع المد والجزر، والدورة الدموية تشبه دوره المياه، وفرو الحيوانات وشعرنا وريش الطيور يشبهون الأعشاب وأوراق الشجر، وقرقرة الأمعاء تشبه زلزالاً .. وهلم جرا . وهذه التشبيهات التي يمكن مدها بلا نهاية كانت عادية في عصره علي الأقل بين المثقفين .

وليس من الضروري أن نفترض أن ليوناردو أطلع علي محاوره طيماوس أو علي أي كتاب من الكتب الكثيرة المشتقة منها، لأن هذه الأفكار كانت سائدة ومنتشرة وذائعة في عصره ؛ فقد كان قد سمع الناس يشيرون إليها أو يناقشونها في أستوديو فيروكيو وفي أماكن أخري .

إن التشبيهات الغامضة والفخمة مثل تشبيهات العالم الصغير والعالم الكبير ستغري خيال الشعراء والفنانين بسهولة، وبالفعل شكلت التأثيرات الأفلاطوني كل فكرة خلال عصر النهضة في حين كان التأثير أو التحيز الذي فرضه جالينوس كان أقل شيوعا . فحركة الدم التي يكشفها النبض فسرها جالينوس ليس كدورة حقيقية (ممكنة فقط في مسار مغلق) ولكن كحركة إيقاعية للخلف والأمام . وحتي إن كان الأمر كذلك، فإنه لتبريد تفسيره، كان مضطرا إلي افتراض أن الدم يخترق البطين الأيمن يمر من خلاله الجدار (الجدار القلبي الفاصل)، وهكذا يصل إلي الجزء الأيسر من القلب، وكيف كان يمر من الجدار الفاصل الذي يبدو أنه لا يسمح بنفاذ الماء من خلال فتحات غير مرئية .

وكان ليوناردو مشوشاً برأي جالينوس المبتدع بدرجة ميئوس منها جداً، حتي أنه كان غير قادر فقط علي رؤية هذه الفتحات غير المرئية ولكن أيضاً رسمها . وسيكون من الصعب العثور علي مثال أفضل لحدود أي شئ حتي العبقرية . إن ليوناردو كان عقلاً حراً وعبقرية عظيمة، ومع ذلك خدعة سحر الأفلاطون وسلطة جالينوس لدرجة رؤية أشياء لم تكن موجودة وبيانها للناس الآخرين .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل - جامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم