قراءات نقدية

نهار بطيء.. مجموعةالقاص العراقي حيدر عبد المحسن

جمال العتابيصدق التجربة.. وحرارة المعايشة

أضحى الإحساس بإيهام الحياة حقيقة، وصار الحديث عن غموضها وإفتقادها للمنطق شعوراً واضحاً هو الآخر، وسط حياة يغلب عليها طغيان الآلة وتقهقر مظاهر العاطفة، إن القاص وجد نفسه أن يكون صادقاً مع نفسه أولاً، ومع المتلقي ثانياً، ليعبّر عن هذا الواقع الجديد بإكتشاف معطيات الحداثة في الكتابة، لا الشرح والوصف التقليدي الممل الذي لا تحتمله تفاصيل هذا الواقع المفتت، وإيقاعه السريع الخاطف.

القاص والشاعر حيدر عبد المحسن قدّم مجموعته القصصية(نهار بطيء) الصادرة عن دار التكوين في دمشق، عام 2019، بأدواته التعبيرية الخالية عن أيما شرح، أو توضيح لتفسير الرموز، انه يفترض بالطرف الثاني من العلاقة، فهماً واعياً بالعمل الإبداعي الجديد، والتأثر به، والتفاعل معه.

إن قراءة متأنية لنهار بطيء ترينا ان القاص وزع نفسه وتجربته الحياتية ( كمثقف وشاعر أولاً، وكجندي طبيب مشارك في الحروب) ، فإلتقت جوانب أساسية مختارة من التجربةبأحلام خاصة، وأقصت العمل أن يكون سيرة ذاتية، أو مسحاً لمرحلة تاريخية، مهمة القارىء تتلخص بتأمل ظاهرة فنية، أو معالجة أسلوبية، وتذوق ألوانها المتعددة. وحيدر عبد المحسن لا يحتاج أن ينتحل تجربة، أو أن يتخيلها، فالقصص محملة بنبض المعايشة الحارة، وصدق الألم الإنساني، والقدرة على إستثمار فتات الحياة اليومية بسردية تتآلف فيها الحقائق مع التأملات الصادقة ومرارة الجراح.

أحسب ان شخصية القاص حاضرة بقوة

كما قدمتها المجموعة، بهواجسها وأحلامها، تلك التي إلتقت فيها عناصر الواقع والحلم والطفولة، واللامعقول والإغراب، ورؤى تقترب من الكابوسية، في موت الأب، وموت الحصان، هروب الحارس، في قصص(جيوفاني، خزف، قناع حارسان).

تتوزع المجموعة بين ثلاثة مستويات، يتضمن الأول تسع قصص قصيرة، واثنا عشر قصة قصيرةجدا،  وملحقاً أخيرا بمقاطع قصيرة جداً، لا يتجاوز بعضها سطرين أو ثلاثة، بدأت برقم 1 وانتهت ب36، وفي المستويات الثلاثة، يختلف النسيج والاداء بين هذه المجموعة وتلك، لكنها تجتمع على خبرات الحرفة، والقدرة على بث المعنى وظلاله في السياق وتفاصيله، وإختيار الصور الدّالة المعبرة بإيجاز وحيوية، في القصة القصيرة جداً، لا يطفو السرد على السطح تقريراً أو شرحاً، حين يكون الرمز، في أرقى أحواله، ثمرة إستبطان عميق، وإستكشاف داخلي عميق، فأنه يؤدي دوره المدهش الذي يكشف عن مدركات جديدة، لنتأمل هذه النهايات(تهدلت بالحزن الذي ليس له مبرر، البتّة، الفيل يحدج المهندس بنظرة لامعة، أناقش في داخلي أكثر أفكار بني البشر براءة، دموعه التي تدخل فمه زادت من شعوره الفضيع بالجوع عين الاعمى المخيفة وهو يضربني كنت أراها أينما إتجهت).

في القصص القصيرة يجسد حيدر طاقة من التخيل والإدراك الحدسي الشعري المرهف، عبر دقة خفية بعيدة، رقيقة، إلى رؤية الأشياء والصور رؤية جديدة، تلتقط ماتنطوي عليه من ثراء المعاني المستورة، والإيحاء الكامن فيها بدراية فنية، ويد حساسة مدربة تحفظ للرموز حيويتها، وجدتها.

كيف للإنسان أن يبدع ويتحدث عن الحب وهو يرزح تحت وطأة الإختناق في قصة مرايا، رصانة القص، ونكهة الرومانسية، نمو الحب من طرف واحد، وشكوك معذبة،

حين يلوح ظل عاشق آخر، وحيدر مولع برصد الإنفعالات النفسية المختنقة، في قصة قناع تداعيات نفسية يشدها خيط متوتر من ترقب، في بناء فني أكثر حرية يعتمد الحوار والبوح وإيقاع ذكريات وأحلام وتأملات منسوجة بحذق ، كل شيء في البيت شهياً، حتى زوجة العم، قبل ان تبلغ ذروتها المأساوية في تحول المريض إلى قناع،

في قصة جرح غائر هدير السجن وصداه الموحش، والفأرة اللعينة منهمكة في القضم،

قصة جيوفاني، عمل متماس في تحميل أحداث قصة واقعية، ملامح تعبيرية، ودلالات موحية، تكشف عن دخيلة الشخصيات وتفجر معاناتها، حين يتساءل الإبن الذي كان محلقاً مع موسيقى جيوفاني : هل أستطيع أن أنقذ أبي بموسيقاي وهو يسبح الأن في بركة من الدماء؟ وثمة رغبات متناقضة في قصة أقفاص بين الزوجين وابنتهما الصبية وبائع الطيور، الذي لم يكن بمقدوره ادراك كنه المشاعر ووعي حقيقتها، قصة الخزف محاولة طيبة لخلق حالة من الانسجام والحيوان(الحصان)، والوصول الى حالة من التوحد والفيض، الجدجد والحارس والحصان عناصر البناء الدرامي الرئيسة للقصة، وردت مفردة الخزف مرة واحدة في القصة، في هذا المقطع(استسلم الحصان الى ثقل بدنه الضخم في طقس إنهيار كامل كما لوكان تمثالا من الخزف)، في ذلك اشارة الى دلالاته الشعرية دونما بوح بها كما اعتقد.

القصة تتنامى مع تنامي السرد الرشيق، وتتركز براعة القاص في تجنب التكرار والتشابه في الرؤى، مع إحتفاظه بإمتياز إبتكار الأشياء.

في المقاطع القصيرة المرقمة، تتناثر الأفكار والإشارات والأسماك والقرش والصخور ومياه البحر والطيور والأشرعة، صور تتكثف وتتجمع وتتناسق من خلال دفقات الضوء الذي يمنحه السارد للمشهد الذي يراه، والأحداث التي يستعيدها والذكريات الآفلة، مشهد البحر لا يفارقه كما يقول هو، هي ليست قصصا قصيرة، ولا قصائد نثر، رغم ان فيها شيئاً من الأثنين.

هذه المقطوعات تكاد تبدأ جميعها بحرف عطف، وفي ذلك إحالة إلى سردية متصلة، متلازمة بألوانها وموحياتها، تجتمع حول(النواة-البحر)، ثم تأتي التفاصيل المتآلفة معها لتنسج حولها غلالة من حياة قصصية بمفردات أليفة مأنوسة الإيقاع، على الرغم من أعاصير البحر وصرير الريح. هي سلسلة من صور مباشرة، بسيطة وجميلة، تكشف عن مفاتنها وحيويتها، وتومئ إلى أسرارها

في ثنايا  (نهار بطيء) نتوقف عند بعض المفردات النادر استخدامها في اللغة المتداولة، أو المكتوبة، والتي يصعب على قارىء محدود الإطلاع فهمها، لا أعتقد ان القاص يلجأ الى معاجم اللغة ليضمن قصصه هذ المفردة أو تلك، إنما الأرجح ان لغته تتشكل من مخزونه المعرفي واللغوي، وتنوع قراءته وتعدد إهتماماته الإبداعية، أذكر على سبيل المثال(الجُدجُد)، وهي حشرة لها لوامس طويلة، تصدر صريراً في الليل ، وظف القاص هذا الرمز دليلاً على اقتراب الموت في قصة (خزف)، وكلمة(الدوقل)، والصحيح الدقل بتشديد الدال، وهو الخشبة الطويلة، وسط السفينة، التي يثبت عليها الشراع، وهناك الميدعة، الثوب الذي يرتدى فوق الملابس وقاية لها من الضرر، وريش البواء، ويعني ريش النعام، وأجفان العظاية، والعظاية كائن خرافي، يُعتقد انه لا يحترق في النار، لقدراته السحرية. هذا اللون من التوظيف يحقق متعة ذاتية للقاص، وهو تمرد على عقيدة الوضوح وتقرير الحقائق بالوصف والتسمية، ربما تلك المعاني التي ينشدها على قدر من التعقيد، إعلان عن عجز اللغة العادية في الوفاء بقدراتها على التعبير.

ان معرفة الحياة وتأمل المصير الإنساني، والإحساس بالضرورات، وسواها، ما يمثل وسيلة التعبير لدى القاص حيدر عبد المحسن بغية تحقيق الإستثارة الذهنية والمتعة النفسية، المتأتيين من لذة الإكتشاف لما يرمز له الكاتب من قضايا وما يوحي به من معانٍ ودلالات خفية.

 

جمال العتابي

 

في المثقف اليوم