قراءات نقدية

تجليات التأثير والتأثر بين الادبين العربي والغربي

ان التأثير والتأثر بين اللغات قانون اجتماعي انساني، وان تلاقي الثقافات، واحتضان بعضها لبعض، مظهر طبيعي وصحي للثقافة الانسانية، ويمكن الاشارة الى حركتي التأثير والتأثر بين الثقافتين العربية والغربية، على مر المراحل التاريخية، وداخل هاتين الثقافتين ايضاً كانت هناك على الدوام تيارات ادبية تنتقل من بلد الى اخر، اما للتأثير في الآداب الاخرى، واما نشدانا لما به يُغني ويكمل ويساير الركب الادبي العالمي,

ولابد ان نذكر ان التواصل بين الشعوب القاطنة بين بلاد العرب والبلدان الاجنبية، لم ينقطع ابداً منذ بداية التاريخ، وانه قد اشتد وتوثق بعد رسالة النبي محمد (ص) ـ او ما يسميه المؤرخون المضارة الاسلامية رافداً رئيساً مؤثراً في الحضارة الغربية بما حملوه معهم من فنون واداب .

فمجرد التشابه او التقارب بين نص ادبي عربي او غربي لايعد دليلاً على التأثير والتأثر بينهما، ولكن الموازنة بين اوجه هذا التشابه على اساس تأريخي وتقتي لعناصر اي جنس ادبي هي التي تحدد امكانية الاخذ والعطاء بينهما، ومن الاشكال الادبية المتأثرة هي :

المحور الاول: تأثير الادب العربي بالأدب الغربي

الشكل الاول: 

(الفابلو): تعد الفابلو احد الاجناس الادبية الاولى للقصة، ظهرت في فرنسا منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلادي، وحتى اوائل القرن الرابع عشر وهي اقصوصة شعرية تحمل روح ومعنى الهجاء الاجتماعي، يقول (جاستون باري) احد اعمدة الادب المقارن الاوائل عن الفابلو، انها استمدت عناصرها وروحها من كتاب (كليلة ودمنة) الفارسي الاصل، والذي ترجمه ابن المقفع وكانت فكرته الاساسية هي الحِكَم والفلسفات التي تقال على السنة الحيوان، وتُعد الترجمة العربية ل (ابن المقفع)، اساساً مباشراً اخذت عنه الفابلو . ومن امثلة الفابلو الغربية اقصوصة تسمى (اللص الذي اعتنق ضوء القمر). تحكي عن لص يخدعه احد الاشخاص بأن للقمر سحراً خاصاً في نقل الاشخاص دون صوت من مكان الى اخر، ويصدق اللص الخدعة، ويقع في يد الشرطة، ونجد هذه الاقصوصة  نفسها بالكيفية والفكرة والتفاصيل الدقيقة نفسها في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع.

الشكل الثاني:

قصة حي بن يقضان

من اشهر القصص العربية التي تأثر بها الادب الغربي (قصة حي بن يقضان) التي كتبها الفيلسوف ابن طفيل في القرن الثالث عشر الميلادي في اسلوب قصصي رمزي في شكل صوفي يدعو فيها الى معرفة الله عن طريق العقل والتأمل الواعي، وقد ترجمت الى العبرية واللاتينية والانكليزية في القرنين الرابع عشر والسابع عشر، وراجت في اوربا رواجاً كبيراً، فألفوا على منوالها، وتأثروا بها الكلاسيكيون، والرومانسيون، وترجمت الى الفرنسية والروسية وقد تأثر بهذه القصة الكاتب الاسباني (بلباسار حراثيان) حتى انه كتب قصته (النقاد) على نفس خط – حي بن يقظان لابن طفيل الاندلسي – ولو تأملنا الفضاء المكاني للرواية للاحظنا تشابهاً كبيراً، فنحن امام فضاء واحد (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها انساناً وحيداً، يحاول ان يفهم ويستكشف ما يحيط به فهو يعيش العزلة والبدائية، ويصل الى الايمان عن طريق استخدام العقل اولاً ثم الحدس، وكأنه يطلب من الناس ان يمعنوا النظر في هذا الكون ليتواصلوا الى الايمان بعقولهم وقلوبهم، لا ان يكوم ايمانهم ايماناً تقليداياً.

المحور الثاني: تأثير الادب الغربي في الادب العربي

الشكل الاول

الاسطورة (بيجاملون) وتأثيرها في مسرحية توفيق الحكيم

يُعد الادب المصري (توفيق الحكيم) من الادباء القلائل الذين اعادوا صياغة الاساطير اليونانية، وتجسيدها على شكل مسرحيات ذهنية، ولعل اسطورة بيجاملون تحكي قصة فنان ينحت تمثالاً من الرخام ويتوسل الى الالهة في ان تبعث الحياة في هذا التمثال حتى اذا ما استجابت الالهة الى دعائه يتحول التمثال الى جالاتيا الانسانة ويتزوج بها بيجاملون.

اما عن تأثر توفيق الحكيم بهذه الاسطورة فيعود في اساسه الى حكاتيه فيقول : انه شاهد فلماً سينمائياً في القاهرة عن بيجاملون مأخوذة من مسرحية برنارد شو، وهذا يدعونا الى تأمل في قيمة التلاقح بين الاداب.

الا ان توفيق الحكيم قدم تجديداً واضافات على ابداعه حيث جعل الصراع يدور في روايته بين روعة الفن عندما يبلغ درجة الابداع، وبين واقع الحياة . 

الشكل الثاني:

الشعر العربي الحديث قصيدة (الارض الخراب) للشاعر ت. س. اليوت. واثرها في (انشودة المطر) : ان دراسة السياب للادب الغربي في نماذجه الحداثية لاسيما شعر اليوت هي العنصر الحاسم في تغيره باتجاه حداثة شعرية عربية رائدة .

تذهب الناقدة " سلمى الحفناء " الى ان السياب، قد استعمل اسطورة الخصب والحياة بعد الموت بمهارة الفنان في قصيدته المفتاحية (انشودة المطر) بدراسة لقصيدة اليوت الشهيرة (الارض الخراب)، وكما استعمل اليوت اسطورة الخصب والبعث، استعملها السياب ايضاً، فجعل من الماء محور القصيدة، ماء الخليج الذي يحمل الموت للمهاجر وماء المطر الذي يجئ بعد زمن القحط واليباب ليبعث الربيع النصر من قلب الشتاء، اسارة الى مكان انبعاث الحياة الطيبة بعد زمن الموت والفناء.

ان تلاقي الثقافات، واحتضان بعضها لبعض، مظهر طبيعي وصحي للثقافة الانسانية، والنماذج السابقة تبين ان عملية التأثر بالاخر عملية طبيعية لتطوير عملية الابداع وتنويعها.

 

م.م. فكتوريا مناتي محمود

قسم اللغة الفرنسية

 

 

في المثقف اليوم