قراءات نقدية

المقامة بين الهزل والجد

حماس العبدلينشأت المقامة في قرن كانت سمته الاضطراب السياسي والاجتماعي فجاءت نتيجة لتلك التقلبات التي عاشها مجتمع القرن الرابع للهجرة في جميع أصقاع إمبراطوريته إذ يرى البعض في المقامة وجهين وجه هزلي ووجه جاد لغاية إصلاح المجتمع الذي بدأ بالتفكك على المستوى القيمي والمجتمعي.

فما هي الأساليب الفنية التي اعتمدتها المقامة في الإضحاك؟ وكيف تمثلت محاولتها في الإصلاح؟

تعد المقامة من أبرز الفنون النثرية في العصر العباسي التي تقوم على أساس القص والسرد وتدور معظم أحداثها حول فعل التَّكْدِية التي ابتدعها بديع الزمان الهمذاني، لتحكى في المجالس والمقامات وتميزت بوجهين أحدهما هزلي والآخر جدي فماهي خصائص الوجه الهزلي في المقامة؟

تميزت المقامة بجملة من الخصائص الفنية التي ساعدت في إبراز الطابع الهزلي للمقامة، من بينها البنية القصصية من عنوان وسند ومتن ومقومات للقص وأنماط للخطاب. أما العنوان فكانت المقامة من بين أولى من وضعت العناوين ورسختها كسنة أدبية لم تظهر حتى في الشعر إلى غاية القرن العشرين وظهور الشعر الحديث. وتنقسم مرجعية العنوان إلى ثلاث، فهو تارة مستمد من المكان كالمقامة البغدادية والموصلية أو الدمشقية وتارة أخرى من أسماء لشخصيات كالجاحظية أو الإبليسيّة وفي مشاهد مغايرة من موضوع المقامة كالخمرية أو الوعظية وغيرها. إلى جانب بنيتها القصصية لما تحتويه من مقومات للقص، فيمكن اعتبارها أولى إرهاصات كتابة القصّة في الأدب العربي. إذ نجد الشخصيات موزعة بين رئيسية كأبي الفتح الإسكندري وراوٍ هو عيسى بن هشام وشخصيات ثانوية متمثلة في الضحايا الذين أوقع بهم أبو الفتح الإسكندري. وزمان مطلق وعام في الغالب، ومكان يختلف مع اختلاف وجود البطل وإقامته وأحداث يدور رحاها حول قطب الكُديةِ والتسوّل بالأدب والاحتيال على الناس. دون أن ننسى أنماط الخطاب المتنوعة بين السرد والوصف والحوار في كل المقامات. إذ يمكن اعتبار المقامة جمعا في مفرد بما تحتويه من تناص، فنجد إحالة على شكلين، هما الشعر والنثر، ودمجهما في المقامة الواحدة كالبغدادية مثلا أو المقامة البشرية التي مطلعها:

أفاطم لو شهدت ببطن خبت ** وقد لاقى الهزبر أخاك بشرا

وللتوضيح هنا، فإن هذه المقامة هي عبارة عن نص شعري إنعدم فيه النّثر. أما النّثر فيحيلنا إلى أجناس أدبية كالقصة مثلما أسلفنا القول. وجنس الوصية في المقامة الوصية وجنس النادرة والحديث وفي ذلك مسايرة من الهمذاني لذائقة تشبعت بالحديث فكان سنده وهميا. فكانت كل هذه البُنى والخصائص الفنيّة التي تزخر بها المقامة في خدمة الهزل والإمتاع. إذ يُعدّ هذا الأخير من وظائف المقامة التي رصد لها الهمذاني مجموعة من الأساليب البديعيّة كالسجع والجناس. فنجد الإضحاك عبر الحركة، ويكون موجودا خاصة في المقاطع الغنية بالوصف، حيث يعمل الرّاوي على إخراج الشخصيات في صورة كاريكاتورية هزلية، ومن ذلك قوله في المقامة الحلوانية: "يدلكني دلكا يكُدُّ العظام ويغمزني غمزا يهدُّ الأوصال" أو المواقف التي تخلق الإضحاك والدهشة كموقف السوادي و عيسى بن هشام أو حتى مع الشّواء في المقامة اليغدادية، وعبر المفارقات الخالقة للإضحاك كسُكر عيسى بن هشام ودخوله للمسجد للصلاة والإضحاك عبر الكلام الذي يقوم على استعمال مقال لا يتناسب مع المقام، وصولا إلى حد الهذيان فتحسبه ضربا من كلام خرافة أو ضربا من سجع الكُهّان كخطاب الحجّام في المقامة الحلوانيّة.

نخلص إذن، على أن الإضحاك وسيلة من وسائل الإمتاع في المقامة، تتنوع أشكاله وأساليبه، مظهرة التناقض و الاختلاف بين المقام والمقال، أو بين الظاهر والباطن. غير أن وظيفة الإضحاك في المقامة تتجاوز مجرد الإمتاع لتبلغ منشودا ألا وهو النقد والإصلاح، فماهي تجليات ذلك؟

لا يتمثل منشود المقامة في إخراج نموذج أدبي، بقدر ما هو محاولة لإصلاح ما يمكن إصلاحه في مجتمع تلاشت فيه قيمه وسادت فيه أخرى. وهنا يكمن الوجه الجاد للمقامة، إذ أراد الهمذاني من خلال فعل التّكدية ومن خلال صاحبه المُكدّي أبو الفتح الإسكندري أن ينتقد مجتمعه ويريه عوراته وزيف أخلاقه الذاهبة في أسفل السافلين. فشخصية الإسكندري التي اصطفاها الهمذاني، وهي شخصية من نسج خياله، متقلبة في سلوكها، متلونة في ملامحها، متغيرة في صورها. فتغيرها من تغير المكان وإظطرابها من صفة الزمان، وفي ذلك إشارة إلى انحطاط القيم والأخلاق من العراق إلى الشام وصولا إلى بلاد الهند والسند فكان أبو الفتح موصوفا تعددت صفاته بتعدد مقاماته مفرد في صيغة جمع حاله من حال الزمان وصفته من صفة المكان فهو المتسول الذي يستجدي الناس بأدبه وفي ذلك إحالة على ما آل عليه وضع الأديب والمثقف في ذلك القرن وما حل به من فقر وتهميش ومقارنة بين شاعر البلاط وشاعر الأسواق فتارة يصبح إماما يؤم الناس في المسجد يعظهم وينصحهم وفي الليل يصبح مقبلا على الدنيا مشرف على لذاتها خشية فواتها وذلك ما يبدو واضحا وجليا في المقامة الخمرية فبدؤها توبة وصلاة ومنتهاها أوبة للذة والحانات وتارة أخرى يتقمص صورة الأديب ويطرح رأيه في الفكر والشعر والنثر فالبليغ في نظره من لم يقصر نظمه عن نثره في المقامة الجاحظية فشخصية أبو الفتح الإسكندري شخصية اختلطت فيها ملامح عصره فأصبح انعكاسا لإنسان عصره ومثالا على ما يعتري الدولة الإسلامية من الشرق على الغرب فالمقامة تعبير على ما أصاب الإنسان من تحقير وتشييئ ويبدو ذلك جليا في المقامة الحلوانية فأصبح  رأس الإنسان بما يحتويه من فكر وعقل وحكمة ومعرفة نظيرا بل قل أدنى من رأس الغنم والحيوان.

صفوة القول أن تقلب أبي الفتح الإسكندري ليس إلا محاولة من الهمذاني في تصوير واقع عصره الذي اضمحلت فيه القيم العربية الأصيلة كالجود والكرم. وسادت فيه أخرى كالطمع والبخل والرياء. فكان البطل ينازع واقعا لا صورة له ولا قيم له كأنه الفراغ عن لم تحمله حملك.

قصارى القول بأن المقامة جمعت بين وجهين متناقضين وجه ظاهره هزل وقفا باطنه جد. فهي جماعة للتناقضات حمالة للأوجه من فنيات كشعر ونثر تحمل في طياتها منشودا يعبر عن غائيتها هو النقد من اجل الإصلاح.

لقد كانت المقامة تعبيرا حقيقيا على ما اعترى مجتمع القرن الرابع للهجرة فكانت تجسيدا لرغبة كاتبها في إصلاح المجتمع عبر فكره وإبداعه وأدبه ولكن على أي مدى يختلف الحريري في مقاماته عن الهمذاني؟  

 

حماس العبدلي

معهد الوفاء تونس

 

 

في المثقف اليوم