قراءات نقدية

عمّار المسعودي يزرع بهجته شعراً

جمال العتابيعمار المسعودي يمتلك أفقه ولغته الشعرية المميزة بإسلوب يعرفه، شديد الإخلاص له، المسعودي ابن (الصلامية) إحدى قرى الحسينية في كربلاء، كتب أول قصيدة له على كيس سمنت، كان أبناء القرية يقرأون للسياب والجواهري، ويقرأون الروايات ويتابعون الأحداث السياسية بعد إعلان الجمهورية الأولى في تموز 58، أولئك الذين تأثروا بالإنفتاح على حركة التجديد في الثقافة العالمية، تركوا بصماتهم على أجيال لاحقة، ومنهم عمار المسعودي، فأصدر مجموعته الشعرية الأولى في بداية التسعينات، وتلتها مجاميع أخرى، آخرها ديوانه الشعري، (عمار المسعودي يزرع بهجته) عام 2017.

هنا تتحول القرية إلى رمز لعالمه الخاص، عالم الروح والعقل، وحتى الخلود، فالشاعر في كل قصائده الوصفية لهذا العالم، يستعين بالمشهد الواقعي اليومي مادام يفيض بالحيوية من حوله، والقصيدة طافحة بالبراءة والبساطة والنقاء بنفس غنائي دافيء، والمتتبع لقصائد المسعودي يجد للطبيعة وجوداً سحرياً ، وأصبح هم الشاعر أن يجمع المكان والزمان والأشياء في لحظة الحضور الأزلي، فإزدحمت قصائده بالتفاصيل و عناصر الطبيعة الساحرة من حوله، ونثر أسماء القصائد موزعة على الأ شجار والفاكهة والمياه والحقول والريح والنخيل والأرض والأقمار والسماء، وأسراب الطيور، والندى والعطش وكأنها أقواس قزح مفعمة بالصور والألوان، والأنغام الصافية، إذ لا تكاد قصيدة واحدة في الديوان تخلو من هذه المفردات.

ان قوةً ما تتملك المسعودي تجد قرينتها في مرتع الطفولة التي ما تزال تشغل كل ركن من أركان وجوده، انه يدرك ما يكتب سوف يرتبط بلا شك بأجمل الأشياء، حين يجدها مصدراً لسعادته وكما يختار، وثمة لغة يحتفظ الشاعر بأسرارها لا تتوفر لشاعر آخر :

لو أني من أوراق وأغصان وأشجار فقط/لكان سهلاً علي أن /أبوح بأسراري عن هجرة الطيور

وفي قصيدة عناصر خالدة يقول:

لا أبحث عن الإرتواء/ما يشدني هو العطش، لأختبر شفتيَّ/لأراقب ما تهرّبين من المطر.

ثمة ساحر خفي يحول الاشياء الى نقيضها أو ينقلها من حال الى حال، هذه الطاقة والإنفعالات لا تلبث أن تجد لها متنفساً في الطبيعة للتعبير عن حرمان من لذة الحب، فإستطاب هذا الحرمان.

يميل المسعودي الى الإيجاز باللفظ، إلى حد الإكتفاء بالإشارة، مقتصد في التعبير، القصيدة لديه تكاد تتحول إلى نقش مختصر أو رسالة مكتوبة على جناح طائر،

لنتأمل (فاكهة لبهجاتي) :

لا أريد أكثر/من أن أغني/لهذه الأنهار/أن أخضرَّ/

بدلاً من عشبة نائية/أن أهدأ/صخبي صار /يؤلمني

وفي قصيدة أخرى يتصاعد الإيجاز والأقتصاد في اللغة:

أنا ريح/لا تحسن /إصطياد/النوافذ

عمار في أعماقه إنسان وحيد، متواضع، حبيس داخل ذاته، يحب الجمال، فهذه الصور المكثفة البسيطة تشيرالى واقع خفي وراء الواقع المرئي الملموس، مستسلم لإغراءات الطبيعة المضنية، لا يتردد أن يدخل ذاته في القصائد كلها:

(سألني، هنائي، راح عني، خرج مني، رماني في جب، لا تلمني، كلمني، يحيط بذاكرتي، انا عاشق نخيل، صرت طيراً منه، أودعني في بهائه، أتفقد أبي، أحلم ان اكون غنياً، أنا أنزل، اتقطر حزناً، أنا أقرب إليك، من الهامش أنا، أنا حفنة ماء.....).

وهناك عشرات الأمثلة، في قصائد المسعودي غارقة في ( الأنا)، لكنه سعى إلى خلق حالة من التوازن والإنسجام في محاولات ونداءات لأمل وحلم، تعبيراً عن إنتماء شاعر عاشق لوطن فالأنا في نهاية المطاف ليس موقفاً عدمياً خاسراً، لأنه عاش أبعاد المأساة بحرارة وصدق، تمثلها في قصائد(أملأ من عناقيده، عبث، أستبدلها بشجرة، لا أصلح للهجرة، أبني وحياتي تتهدم، وغيرها)، في هذه القصائد، تتحول اللغة إلى التزام بالعالم والإنسان، لاتفقد حدودها الجمالية في الصدق بمعناه الفني الرحب لأن صدمة الكارثة أقوى من هذا التيار الهاديء، والمشكلات أعنف من أن تقنع بالقيم الجمالية والأشكال الفنية المحكمة:

أبني وطناً /أسوِّره بالشموع /مرة وبالدموع

في فهرس الأمنيات يخفي إحتجاجه على فوضى العالم وراء الحزن والإكتئاب، وهو في النهاية حزن يوجهه العقل الناصع والوعي الدقيق، الشعر عنده هنا ملتزم، لا بالمعنى الذي تردده الألسنة دون إحساس، إنه شعر يشارك معاصريه آلامهم :

ليتني أنتمي لهذه الأسيجة

تلك التي نزفت على صلابتها/أعظم لحظاتي

صفوفاً في مدارس /حصوناً في سجون

ان كل شيء في شعر المسعودي يبدو واضحاً ملموساً مبتعداً عن الإنفعال، لكنه ملفوف في غلالة شفافة من الرموز والأسرار، وإستطاع الشاعر أن يملأ فراغ الوجود الموحش أو أرضه الحرام المهجورة، لتتحول حياته وتجربته محوراً يعبر عنها في شعره، فأصبح جزءاً من كيانه الشعري لا ينفصل عن العالم المحيط به، محاولاً التوفيق بين عناصر الخلق الشعري، وكأنه يقول :ليس من الخطأ أن تجد الطبيعة طريقها الى الشاعر والإنسان، بل الخطأ أن يفقد الشاعر إيمانه بالحياة.

يضيف عمار عنصر البهجة في أشد الحالات الإنسانية قسوة، وشعره أشبه بحقل كثيف تشابكت فيه الزهور والأشجار والنباتات، تحلق فيه الطيور، ويقطر الندى، وتحولت القصيدة إلى فهرس مفصل بأسماء هذه الكائنات، التي لا تحتاج الى متخصص للتعريف بها، لان المسعودي يقدمها طازجة نابضة بالحياة.

السؤال الأهم، هل يمكن لقصيدة عمار أن تجدد نفسها؟أم تظل تلوذ بإغراءات الطبيعة؟ بما يعني الإستسلام لها، أشد ما أخشاه أن تحتج الطبيعة على الشاعر نفسه، وتبعده عن القصيدة! بإعتقادي ان المسعودي بإمكانه أن يضيف لتجربته عناصر جديدة ومثيرة، تؤكد نضج وعيه الشعري وعمق تفكيره، ان ما تميزت به قصائده من جمال في الأداء والتعبير، وما تمتعت به من طعم شعري خاص، لا تحجب الدعوة الى البحث عن المعنى الإنساني العميق في تجارب المسعودي المقبلة، لتعلن عن نفسها انها فوق المقارنة مع ما سبقها من آثاره الشعرية.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم