قراءات نقدية

إيناس العبادي: شعرية العَنْوَنَة في ديوان "لم تُنكر خطيئتها"

إيناس العباديبعد أن تلقيتُ "لم تنكر خطيئتها" للدكتورة اسراء العكراوي ببالغ الفرح والسرور عكفت عليه أقرأ بإحساسٍ عالٍ وكأن كلَّ ما كُتِبَ فيه كُتِبَ لي؛ يبوح بما في صدري، ولا أعلم ما سرِّ هذا التوافق الفكري بيني وبين الشاعرة، وهو توافق قديم ألمسه كلَّما قرأتُ لها، وفي يوم ما سمعتُ زميلة عزيزة على قلبي تقول: كان الأجدى بالشاعرة أن تعنون ديوانها بـ"حواء لم تنكر خطيئتها"، فدار بيني وبين زميلتي حوارٌ أدبيٌ لذيذ حول عنوان الديوان؛ إذ بادرتُها بالقول: وأين الشعرية في العنوان الذي اقترحتِ عزيزتي؟! فضحكت من قولي وضحكت من قولها، وبعد سؤالٍ وجواب، وشدٍّ وجذب انتهى الحوار بيننا إلى ما تُحمَدُ عقباه لأنني أدركتُ أنها لن تقنعني برأيها وأنا بدوري لن أقنعها، فأنا أرى أن منشئ النص يعدُّ أباً شرعياً لنصّه ومن حقه أن يسميه بما يشاء من الأسماء، ولكن الحوار دوماً يأتي بأكُلِه ويثمرُ ثمراً جنيّاً، فقد أثار في ذهني قدحة هذه المقالة.

فالغموض من أبرز سمات الشعرية في النص إذا كان محسوباً، وهذا ما دفع أدونيس إلى شرعنته بقوله: (إني ضد الوضوح الذي يجعل من القصيدة سطحاً لا عمقاً)، وهذا الأمر أظهر وأهم في العنوان الذي يتوخى فيه صاحبُه الاقتضاب اللغوي والإغراء ؛ ليُشجع القارئ على قراءة الأثر الأدبي ويثير فضوله لافتراض التأويلات فيما بعد، فهو وسيلة المُرسِل لاقتناص لحظة من وقت القارئ والاستحواذ على مساحة من تفكيره، ولاريب أن يُعدُّ الغموض ظاهرة إيجابية في متن القصيدة، فضلاً عن عنوانها الذي يكون أول أعمال القارئ وآخر أعمال المؤلف، ونلاحظ هذا الغموض بأشكالٍ مختلفة في الديوان؛ فمرةً يكون العنوان نكرة، كما هو الحال في عنوان قصيدة (تَوق) فلا ندري إلى من أو إلى ماذا هذا التوق، وقد ألقى هذا العنوان بظلاله على عموم القصيدة ؛ فمعناه ينسجم مع دلالات القصيدة؛ توافقاً أو تضادّاً كـ(الصمت، الدمع، البوح بلا كلام، مضي السنين بهدوء، الصحراء = التِّيه ....)، فيبدو لي أن الشاعرة صمتت بعد أن ملّت الكلام وأدركت عدم جدواه وتمضي السنون دون أن يشعر بها أحد، وكأن هذا الصمت يأكل زهرة السنين، وهي تتوق إلى الخروج من تيه صحراء الصمت إلى شجاعة تكسّر القيود، تشبه شجاعة الأطفال الذين لا يخفون شيئاً لأنهم لا يخشَون شيئاً، تتوق إلى الغرام الذي يبوح فيه المُحب بكل شيء لمحبوبه، فهو سحرٌ خلّاب بدأ من العنوان وسرى إلى أوصال القصيدة.

أما التناص وهو سمة ثانية من سمات الشعرية، فقد أفادت من الشاعرة أيما إفادة ، فقد لاحَ للقارئ منذ أول وهلة في عنوان الديوان "لم تنكر خطيئتها"، فهي قصة قارة في الذهنية الإسلامية والعربية يتلقاها الكثيرون من وجهها السلبي، وهي أن حواء (ع) أغوت آدم (ع) وأنزلته من جنات الخلد إلى عذابات هذه الأرض، ولكن الشاعرة أرادت الوجه الإيجابي، لأن حواء التي أُلصقت بها هذه التهمة قد كانت على قدر المسؤولية عندما اقتسمت العذابات مناصفةً معه نتيجة خطئها العظيم كما يزعم الناس! فآزرت آدم بكل ما أوتيت من قوة، وهذا ينطبق تمام الانطباق على المرأة العراقية والعربية على حدٍّ سواء، فهي تفني زهرة شبابها من أجل تربية أبنائها لتقدمهم إلى محرقة الخلود! وتهجّرت من أرضها التي تهفو إليها القلوب؛ هذه الأرض التي تستقرُّ فيها اللعنة والرحمة، النقمة والنعمة، الترح والفرح في آنٍ واحد؛ إنها أرض العراق العجيبة!

وقد تعمد الشاعرة إلى المزاوجة بين تناصين في عنوان واحد، كما في قصيدة "آدم منا أهل العراق" التي وظّفت فيها قصة ابني آدم توظيفاً موفقاً، وكيف قتل أحدهما الآخر من دون سبب يُذكر، وقد كانت موفقة أيضا في وصف الأم العراقية إذ بقيت قوية صامدة في خضمِّ هذه الأحداث المتسارعة والمآسي المتلاحقة: تتقن العــــزف، وفنَّ الطهـــــو، والصــبرَ الجميل، وهي فوق كل هذا:

ترتقُ المعنى إذا ضاق ابتساماً

وصلاةً

وسمر

تبعثُ البهجةَ في قلب الحجر !

2381 غلاف كتاب اسراء

وهذه المزاوجة بين تناصّين قرآنيين في العنوان قابلتها مزاوجة بين قصتين قرآنيتين؛ قصة ابني آدم (ع) وقصة طوفان نوح (ع) في قولها: كيف فارت فكرة الموت بتنور دماك ؟!!، تومئُ إلى أن التناحر والتباغض والاقتتال بين الاخوة يُنذر بطوفانٍ عظيم يأتي على كلِّ شيء ولات حين مندم!.

أما الاستعارة فقد كان لها حضور لافت في عنوانات القصائد، زاوجت فيها الشاعرة بين المادي والمعنوي، بين الحسِّي المُشاهَد والمُدرَك  كـ (وشوشة الريح، أحلام النرجس الغافي، ما دارَ في خلَد المفازة، شوك الأسئلة، حروف التيه، عطشٌ لمطر القصيدة ...)، وقد ألقت هذه الاستعارات بظلالها على القصائد، كما في قصيدة (وشوشة الريح)، إذ نلاحظ أن القصيدة قد بُنِيَت على مجموعة من التناقضات التي تصف ما تحسُّه الشاعرة، فقد أفصحت عما تريد منذ أول وهلة بقولها: (رأسي ميدانٌ من عتمة) للدلالة على الحيرة النابعة من كثرة التساؤلات والتوق إلى الإجابات، ثم عززت هذا المعنى بقولها: (وسباقٌ لا وقع حوافر تقطعه)، فهذا الميدان المعتم يمتدُّ طويلاً بحيث لا تقطعه حوافر الخيول العدّاءة، ما يقطعُهُ الريح فقط وفقط، وفي ذلك دلالة على الفراغ، الصمت، الرتابة، الركود، تعاقب الليل والنهار على لاشيء!، فالعامل المسيطر هو الزمن الذي يمرًّ بنا ويًذيب أعمارنا بصمت مُطبِق وهدوءٍ مرير، وهذا ما تؤكده جميع أجزاء القصيدة عندما تعطيكَ الأمل ثم تسلبه منك فجأةً، كما في قولها:

تتحدث عن مجدٍ آتٍ

أو قد مات ...

أو هو محض سراب

لهثت هاجرُ أنفاسي أشواطاً نحوه

وكأنها من شدة شوقها وانتظارها جعلت أنفاسها تلهثُ أشواطاً نحو ما تريد، وفي ذلك استعارة مكنية أفادت المبالغة، ودلّت على عدم تحقق ما تريد لا الآن ولا غداً ربما سيتحقق بعد الغد!.

ثم تعود لتمنحَ القارئ الأمل بقولها: كانت أوراقي تحلم بالشمس، ثم تنسفُه بقولها: حتى أكلتها ! ، وتمضي الأبيات بين شدٍّ وجذب، وأخذٍ ورد، ضوء وظلام، وعيٍ ولا وعي، شكٍّ ويقين، بقاءٍ وفناء ... لتعود وتؤكّد في النهاية: على أن أوراقها قد أكلتها الشمس فما الجدوى من التفكير والضجيج الذي يُثقلُ الرأس دون طائل ؟! فعامل الزمن القاتل قد قال كلمته وانتهى الأمر.

ويلوح لنا التضاد في بعض عنوانات الديوان كـ(جمرٌ وسوسن، أصغر الجرح أكبره)، أو المناسبة البعيدة بين شيئين لا رابط يربطهما كما في (رغيف وكرة)، فما علاقة الرغيف بالكرة ؟ ، وخلاصة ما يتوصل إليه القارئ أن الساسة في كلِّ زمانٍ ومكان بلا رحمة، والفقراء في كل زمان ومكان هم المتضررون والمضطهدون، فهم كالكرة التي يركلها اللاعب لإحراز الهدف، يُراد لهم ومنهم أن يكونوا بلا أرواح بلا أحلام بلا أفواه!

 

بقلم د. إيناس محمد مهدي العبادي

معهد العلمين للدراسات العليا.

 

في المثقف اليوم