قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في المجموعة الشعرية (هديل نخلة الشط)

حيدر عبدالرضاللشاعر عبد الله حسين جلاب.. العلائق الشعرية بين جمالية التوظيف وأيقونة شعرية الأشياء

توطئة:

أن عملية الاستغراق الجمالي في معالجة مسموعات وبصريات حركة مشهد الأشياء، تولد في الذات الشعرية ثمة خلجات من العلاقة النوعية الخاصة المتصلة ما بين (اقتناص ـ رؤية ـ التعديل الموضوعي ـ المعادل المنفذ) في مدى قابلية وفاعلية زمن ومكان منطوق الأشياء المتصورة وصولا إلى دلالة حيزية محسوسة في لغتها وتجاوزاتها الأسلوبية في الشكل والبنية والإيقاع، إذ أن إيقاعات هذه الوظائف اللغوية بدت لنا في قراءتها وجودا مغايرا في لغة التبادل المؤسلب بين الوضع الأصل للمادة الموصوفة وشكلها النغمي المقارب في موضوعته إلى فلسفة الذوق والذائقة ومعاينة معادلة لغة أشياء عبر كاميرا مخصوصة من أتون الفاعل الشعري .

ـ معادل المعطى القصدي وإيحائية كينونة التوظيف .

أن أفعال الكتابة الشعرية في مجموعة إيقاعات قصائد (هديل نخلة الشط / قصيدة الإيقاع المدور ـ القصيدة الجملة) للشاعر الصديق عبد الله حسين جلاب، تحملنا نحو دائرة جمالية قل التعرف عليها في الانتاجات الشعرية المعاصرة، وذلك في اختيار الموضوعة وأسلوبية إداءها الخطابي ضمن مستحدثات عروضية خاصة في تعاملاتها النوعية متفردة، أي أن قصيدة الشاعر كونها هي المادة التكوينية الخاصة والمتكونة من نواة العلاقات الموظفة ما بين مسوغات شيئية الحالات الموضوعية ومخيلة استجابات الشاعر في بوح القصيدة . وعندما نقرأ قصيدة (شوارع تصفر) نعاين ذلك المحمول الدوالي المشخص من أسلوب أسلبة الأشياء في حدود مفترضة من كينونة الإداء الشعري:

هيكلٌ عظميٌّ

على شكلِ خرتيتٍ،

أعمى:

لمْ يستنشقْ بتكشيرتِهِ،

الكونَ . / ص23 قصيدة: شوارعُ تصفرُ

الشاعر في مسار دواله، يؤثر العلاقة الوصلية بين معادلة الخطاب وتواصلية المشخص في هوية الأشياء، لذا وجدنا متعلقات محاوره الشعرية تتقصد رسما مؤسلبا في تحول الصفات والأفعال والأسماء من عينية الشيء إلى روابط معادلة دلالية متكاملة في جهد حالاتها القولية: (هيكل ٌ عظميٌّ ـ على شكلِ خرتيتٍ ـ أعمى: لمْ يستنشقْ بتكشيرتِهِ ـ الكونَ) وهذه التراكيب المؤسلبة، هي تلميحات أحوالية في مبنى معادلة موضوعية مكونة لخصائص المعطى القصدي من المعنى المشار إليه شعرا، كذا الحال في قصيدة (وجهُ القنفذ)و مدى القراءة المتأنية للشاعر فيها، خلوصا منه إلى أسلوبية المؤسلب من محاور الدوال الشعرية:

سماءُ القلعةِ بدهاليزِها

وعفونةِ ممراتِها

و أغصانِ خرسائِها

و لعبِ الزهراتِ،

تُدوِّنُ على الفضاءاتِ،

أطيارَها:

النسرَ

الصقرَ

الشاهينَ . / ص26 قصيدة: (وجهُ القنفذ)

الأمر لدى الشاعر لا يتوقف غالبا في حدود توظيف المعادل الموضوعي من المعنى في حدود رسمية نمطية المحتوى، بل أنه يتجاوز حالات الوصف بما يقارب محور التشكيل المواز ما بين البناء الاستعاري ـ الانتقاء التوليدي ـ العلاقة الشكلية، وصولا بالنص إلى محمولات تتوسط بالمعنى إلى غاية جمالية في موضوعة المكون الدلالي: (تُدَوِّنُ على الفضاءاتِ، أطيارَها: النسرَ .. الصقرَ .. الشاهينَ) علينا من هنا أن نسارع إلى القول بأن الدوال التي قمنا بتصنيفها في محاور النص ما هي إلا علاقات ذات روابط تشكيلية متجانسة في عملية الإطار الاحتمالية من النص . فالشاعر جلاب وعبر كافة أعماله الشعرية السابقة والحاضرة تظهر لديه الأسباب والأحوال والمسميات ضمن رقعة أسلوبية من (أسلبة الأشياء) ومن خلال هذه النوعية الأسلوبية الشعرية، نعاين مدى تحقق ثيمات الدوال في علاقة (المشبه ـ المشبه به) غير أن ظواهر هذه الأسلبة لها من المحسوسية المتطورة في إتجاه الرمز ـ المرموز إليه، وأحيانا نجد المكون الشعري لديه عبارة عن حالة من حالات أسطرة الحدوث الدوالي نحو واقعة شيئية، من الممكن لها الاندراج في ديمومة الإمكان الإستقصائي لحسية الكتابة وهذا الأمر ما جعلنا نعاين مقتطفات قصيدة (موجةُ الضِّفْدِع):

قمرٌ يهبطُ منْ نخلةِ النهرِ،

على قنطرةٍ:

يرى حبَّةَ الأعذاقِ

وحبَّةَ العناقيدِ

على موجةِ الضِّفْدِعِ . / ص31 قصيدة: موجةُ الضِّفْدِع

لقد أفاد الشاعر في مستهل قصيدته، من مثيرات الحس المراوي في جملة الموصوف: (قمرٌ يهبدُ منْ نخلةِ النهرِ) نجد هنا مدى حالة الاستغراق التشكيلي في علاقة دال (قمر) ودال (نخلة) ودال (النهر) مما يشكل بدوره قابلية مراوية في تقبل الانطباع الواجد بأن ظلال القمر تتسلل عبر ثغرات فواصل النخلة نحو جسده المرسوم على وجه النهر، والأبعاد المحورية في هذه الجملة، هي ما راح يتشاكل وجملة (على قنطرة) وجملة (حبة الأعذاق) وجملة (وحبة العناقيد) وصولا إلى هوية الدال المركز (موجة الضفدع) ولا تقتصر إمكانية الأسلبة لدى الشاعر على حدود أداة الإيحاء بالقصد الدلالي، وإنما تتعدها إلى علامات ضمنية بوصفها دلالات مرمزة أو مضمرة في موضوعة القصيدة:

هيَ شجرةٌ تناطحُ بأغصانِها

مداراتِ الكواكبِ

والنُّجيماتِ ..

بينَ نملٍ مثقَّبٍ برمادٍ

لا يُحدُّ،

تطلُّ على نهرٍ . / ص42 قصيدة: سليلةُ العماليق

وبهذا يمكننا القول أن فاعلية أسلبة أحوال الأشياء لدى الشاعر، بوصفها وظيفة تشكيلية لا تتوقف أبدا عند حدود جملة توصيفية عابرة، بل أنها أخذت تؤسس لذاتها آفاق استلهامية وحلمية خاصة من مبنى التشكل والتمثيل في صيغة اللقطات الصورية من المشهد الشعري .

ـ الأبعاد الجمالية المتماهية في العلاقة مع الذات والآخر

أن فاعلية نصوص مجموعة (هديل نخلة الشط) ما هي إلا صورة لسيرة تبئيرات الأشياء المؤسلبة في لغة ومكونات عوالم الملفوظ القولي الملتحم في أتون علاقة متصلة ما بين (الذات ـ الآخر) فيما تبقى صياغة مسار هذه العلاقة في حدود محاور (المعادل النصي ـ اللغة الثانية ـ تأشيرات الأثر المؤسلب) وفي هذه العناصر تترأى لنا معطيات محدثة من تقديرات أصوات المحاور ووظائفها،كإمكانية متماثلة في الإفصاح عن مخابىء لغات وصفات وأفعال الأشياء:

ربيعُ العُشبةِ

أنتِ:

تترجرجُ بين زعانفَ

في المدّ!

ربيعُ الزهرةِ

أنتِ:

تحمرُّ وريقاتُ تُويجِها

في النار ! . / ص45 قصيدة: ربيعُ كائناتٍ أنتِ

قد تبدو لنا هذه المقاطع من القصيدة، ذات محمولات علاقة متكونة من (سياق: الذات ـ الآخر) وقد جاءت أبعادها المنظورة متسربلة في مكاشفات تخاطبية مضمنة في ملامح علاقة متحولة بين المستوى التعددي ومعادلة المقترح الشعري المنصوص عليه، إذ تعود سمات المخاطب على النحو الذي راح يجعل من (ربيع العشبة: أنتِ ـ ربيع الزهرةِ ـ أنتِ) فيما تبقى إحالة الموصوف إلى آلية مستعارة من سياق جملة (تترجرجُ بين زعانفَ في المد !) أو في جملة المعادل المستعار اللاحقة (تحمر وريقات تويجها في النار !) إذ تتجه حساسية الذات هنا بصورة الآخر فيما يخفى على العلاقة الدلالية للوهلة الأولى، إقترابا لها من علاقة مؤسلبة ومختزلة في منطقة التلاحق والتمركز الدلالي المتحاور مع ثنائيات (الذات ـ الموضوع / الغائب ـ الحاضر / الذات المراوية ـ الآخر المؤسلب) ولا شك أن تمظهرات فضاء العتبة العنوانية (هديل نخلة الشط) تدخل ضمن وحدة استعارية مكثفة، تقودها من جهة ما علامات مؤثرة من حيز انتاج العلائق الشعرية الواقعة بين أسلبة الأشياء وشعرية الأحوال الشيئية .

ـ تعليق القراءة:

أن ما عيناه في مجموعة (هديل نخلة الشط) ليس بالجديد والمستجد على عوالم شعر (عبد الله حسين جلاب) فهو شاعر لغة الحلم والأفعال الشيئية المعادلة في تصوير حالات مؤسلبة في لغة ووجدان القصيدة، مرورا بتلك الذاكرة الأحوالية الخصيبة من مرابع طفولة الشاعر مع الكائنات الطبيعية، ما راح يجعل قصيدته محفوفة بوظائف خاصة ومستجيبة لأهم وأسمى شعرية التكوين والتشكل للأشياء ذاتها في منظومة أصوات وأفعال إيقاع قصيدة أسلبة المحاور في شعرية الجملة القصدية المركبة في أبعادها التوصيفية المؤثرة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم