قراءات نقدية

عاطف الدرابسة: الرُّؤيةُ الجدليَّةُ بين الشِّعرِ والرَّسمِ.. قراءةٌ تاريخيَّةٌ

عاطف الدرابسةلن أُحاولَ أن أُؤكدَ على الصِّلةِ بين الرَّسامِ والشَّاعرِ، كما لن أسعى إلى إثباتِ الصِّلةِ الحيويَّةِ بينهما، ربَّما ما زالت فكرةُ هوراس أنَّ الشِّعرَ هو التَّصوير تُشكِّلُ مُرتكَزاً حقيقيَّاً لكشفِ جوهرِ العلاقةِ بين الشِّعرِ والرَّسم، ولعلَّني هنا لا أبتعدُ كثيراً عن مقولاتِ النَّظريَّةِ النَّقديَّةِ: قديمُها وحديثُها؛ فالنُّقادُ ارتكزوا على كتابِ هوراس في محاولةِ تحديدِ ماهيَّةِ الشِّعرِ، ويبدو لي أنَّهم حين يُعرِّفون الشِّعرَ يلجأونَ إلى الرِّسمِ؛  فالجاحظُ مثلاً المُتوفَّى عام 255 هجرية، يُحدِّدُ ماهيَّةَ الشِّعرِ مُستعيناً بالرَّسمِ كما يظهرُ من مقولتِه: "فإنَّما الشِّعرُ صناعةٌ؛ وجنسٌ من التُّصوير"، ولعلَّ عبارةَ: (جنسٌ من التَّصويرِ)، هي أنضجُ عبارةٍ في النَّقدِ العربيِّ القديمِ، أقامت علاقةً بين الشِّعرِ والرَّسمِ .

بيدَ أنَّ السُّؤالَ المشروعَ هنا: ما هي طبيعةُ العلاقةِ بين مقولةِ: أنا أنظرُ، ومقولةِ: أنا أكتبُ؛ أو ما العلاقةُ بين عبارةِ: أنا أشعرُ، وعبارةِ: أنا أتصوَّرُ، وربَّما قد نُفجَأُ بسؤالٍ آخر حول العلاقةِ بين مفاهيمَ نقديَّةٍ من مثلِ: المجازِ، التَّخييلِ، والتَّصويرِ .

إنَّ مخرجاتِ الاستعارةِ اللَّفظيَّةِ، أو مخرجاتِ المجازِ في الأدبِ، وطرائقِ تشكُّلِ بنيةِ المجاز، هي التي تُسهمُ على نحوٍ ما في تشكيلٍ صورةٍ في ذهنِ المُتلقِّي، أي أنَّنا هنا نُشيرُ إلى الوجودِ الذِّهني للصُّورة، وعبارةُ: (أنا أنظرُ)، تقودُنا إلى مفهومِ الإنطباعاتِ البصريَّةِ، بمعنى أنَّ الرَّسمَ أو النَّحتَ أو الرَّسمَ بالخزفِ هو شيءٌ ماديٌّ، يُرى بالعينِ باعتباره وحدةً واحدةً، لا تخضعُ لشروطِ الزَّمانِ والمكانِ، وهو أمرٌ لا يتوافرُ في الشِّعرِ خصوصاً، وفي الأدبِ عموماً، فالشِّعرُ يستجيبُ لشروطِ المكانِ؛ وشروطِ الزَّمانِ، ولن نكونَ دقيقينَ إذا اعتبرنا أنَّ الشِّعرَ والاستعارةَ هما شيءٌ واحدٌ، أو أنَّ كلمةَ الشِّعرِ وما تنطوي عليه من التَّصويرِ قد تشملُ الأعمالَ الفنيَّةَ كاملةً .

يمكن أن أقبلَ أنَّ الاستعارةَ التي تخلقُ صورةً في الذِّهنِ، قد تتحوَّلُ إلى لوحةٍ فنيَّةٍ تُرى بالعينِ، أو منحوتةٍ، وبالتالي يُمكنُ أن تُحقِّقَ مبدأَ الانطباعِ البصريِّ، ويبدو لي أنَّ العلاقةَ بين الرَّسمِ والشِّعرِ ستأخذُنا إلى مفهومٍ أعمقَ لفكرةِ الشَّكلِ والمضمونِ .

ولعلَّ الفجوةَ بين ما هو شِعريٌّ لغويٌّ، وما هو بصريٌّ، يُمكنُ ردمُها إذا أعدنا فهمَ الاستعاراتِ اللَّفظيَّةِ بوصفِها بِنية موازية للاستعاراتِ البصريَّةِ في الفنونِ التَّصويريَّةِ والتَّشكيليَّةِ .

وكذلك يُمكننا ردمَ تلك الفجوةِ إذا أعدنا النَّظرَ في مفهومِ الشَّكلِ، أو من خلالِ تفعيلِ الطَّريقةِ الطبولوجيةِ لفهمِ هذه العلاقةِ، ولذلك فثمَّة تشابهٍ بين قوانينِ الشِّعرِ، وقوانينِ الرَّسمِ .

ومن جانبٍ آخر، فإنَّ الرَّسامَ عادةً ما يمتلئُ بالرُّوحِ التي تُحرِّكُ الحياةَ في الشِّعرِ، فالرَّسمُ يفعلُ بالعينِ ما يفعلهُ الشِّعرُ بالأُذن، وهناك إشارةٌ لبيكاسو تُفيدُ بأنَّ: الرَّسمَ هو الشِّعر، وهو دائماً يُكتبُ على شكلِ قصيدةٍ، ذات قافيةٍ تشكيليَّةٍ .

وقد أدركَ الشَّاعرُ الغنائيُّ الأوَّلُ (سيمونيدس) (٤٦٨- ٥٥٦ ق.م) الصِّلةَ الوثيقةَ بين الشِّعرِ والرَّسمَ بقوله: "إنَّ الرَّسمَ شعرٌ صامتٌ"، ولعلَّ الأمرَ اللافتَ للنَّظرِ أنَّ صدى تلك المقولةِ قد تردَّدَ في تعبيرٍ ليوناردو دافينشي في القرنِ الخامسِ عشر بقوله: "الرَّسمُ شعرٌ يُرى، ولا يُسمعُ، وأنَّ الشِّعر رسمٌ يُسمعُ ولا يُرى"، وفي القرن العشرين   تتردَّدُ الفكرةُ نفسها بقول إدوارد كامينجز حينما وصفَ نفسَه في مقدمة ديوانِه ومجموعته الفنيَّة (CIOPW)، بأنَّه: كاتبُ صورٍ، ورسَّامُ كلماتٍ، كما وصفَ عمليَّةَ الإبداعِ بأنَّها سماعُ لوحاتٍ، ومشاهدةُ قصائد .

وحميميَّةُ الصِّلةِ بين الشِّعر والرَّسمِ تظهرُ على نحوٍ مباشرٍ جداً في المفرداتِ المشتركةِ بين الفنَّين، فكلاهما يستخدمانِ الأساطيرَ والتاريخَ والحلمَ والخيالَ، ويستندانِ إلى قانونِ البِنيةِ بوصفِها نظامٌ من التحوُّلاتِ، فالنِّظامُ نفسه كما يُفعَّلُ في الشِّعرِ، يُفعَّلُ في اللَّوحةِ، فالتَّكوُّنُ التشكيلي في اللَّوحةِ يتكرَّرُ نتيجةً للتنظيمِ الذَّاتي، وهو نفسُه ما يحدثُ في الشَّكلِ الشِّعري، والتَّنظيمُ الذاتي لا ينفصلُ عن مبدأِ الشُّموليَّةِ، ومبدأِ التَّحوَّلِ .

 

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

في المثقف اليوم