قراءات نقدية

حميد الحريزي: رواية: لقلق النبي يونس ومخطوطة التاريخ الآخر

حميد الحريزيللروائي:  محمود جاسم عثمان النعيمي

العقل، مراجعة التاريخ، وذاكرة المدينة

الروائي أوضح لنا مضمون روايته من خلال العنوان، حتى قبل أن نقرأ متن الرواية،  فهي (رواية عن الكوفة، وعكد اللّوي).

وقد افتتح الرواية ب (صارت هوايته التي شغف بها ...)، بمعنى: أنها تشير الى فعل ناقص يدل على  الصيرورة والتحول من حال الى حال والحركة والتغيير، هذا بالضبط ما يرمي اليه (بطل) الرواية الذي تبنى فكرة (الفكر المغاير)، الذي يقاوم (الفكر البديل)، وهو الفكر الذي تسعى القوى التقليدية المحافظة الى زرعه وتخليقه في اذهان الناس؛ للإبقاء على حالة التخلف والركود في مختلف المجالات الحياتية. هذا أولاً.

ثانيا: اهتم الروائي بعرض باناروما شاملة لساحات وشوارع ومحلات ومعالم مدينة الكوفة العمرانية.

ثالثا: عرض الروائي الكثير من العادات والتقاليد الاجتماعية والفلكلور الكوفي في الماضي القريب والحاضر، وتحولات هذه العادات وهذا الفلكلور.

فالرواية في مجمل القول، هي: رواية الحركة والتغيير الجاري في الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمدينة الكوفة وسكانها، سواء في حالة التقدم، أو النكوص والتراجع .

أنها رواية الطموح لتغيير الواقع الفكري والثقافي المعاش، والعمل على مقاومة (الفكر البديل) من خلال العمل على ترسيخ (الفكر المغاير)، وهي المهمة الاولى الملقاة على عاتق المثقف، وعلى وجه الخصوص: المثقف العضوي، والذي يمثل بطل الرواية أو شخصيتها الرئيسية مثاله.

في (الفكر المغاير)، يرى البطل الفيلسوف المتطلع الى مجتمع متحضر مسالم بناء، يتطلع الى نبذ التعصب الفكري والعقائدي والقومي بمختلف مظاهره، وتحكيم العقل وليس النقل الساذج الجامد في الحكم على الظواهر والمتغيرات، ويؤكد على أن الزمن يسير ويتغير وعلى الانسان أن يحمل فكرا مرنا يتماشى مع الثورات الحاصلة في العالم والعراق، وفي المكان والزمان الجديد، ويتطلع الى نبذ كل ما من شأنه اعاقة الانسان، وقمع وكبح حريته في الفكر والعمل، والتخلي عن الرداء الفكري والثقافي الذي أصبح مهلهلا رثا لا يلائم حركة العصر وتطوراته، ويدعو الى نبذ الخرافة والتقديس الاعمى  للنص والشخص بعيدا عن استشارة العقل الذي هو معنى وجوهر كينونته، وما يميزه عن الحيوانات والجمادات، انه الانسان العاقل، حيث يبدو لنا  البطل وكأنه أحد رموز الاعتزال وحكمتهم الرائعة في بدايات العصر العباسي، حيث اعتمدوا العقل في الحكم، والاختيار، والسلوك، والاختبار.

العقل والعقلانية، هي ما دعا اليها القرآن الكريم وسنة رسول الله (ص)، فما  اكثر ما نجد في القرآن الكريم عبارات، مثل: الا يعقلون، الا يتفكرون، الا يتدبرون، وأن  نبي الاسلام  كانت معجزته عقلية، وليست حسية كما في الرسالات السماوية التي سبقته، فموسى كليم الله وعصاه السحرية في اليهودية، وعيسى الذي كلم الناس في المهد، وأبرأ الاجذم والأبرص، وهو روح الله في المسيحية.

البطل المتعقل المتفكر (كان منشغلا بالعقل، فأبدع فيه، ومعه التحم عنده الزمان بالمكان... متمردا على مجتمعه، لكنه لم يكن عدوا له، كان يريد للناس أن يتغيروا من خلال تحكيم العقل) ص/188. فهو من (اطلق صافرة البداية كي افتح مغاليق عوالم الناس الذين كان يراد لهم أن يعيشوا خلف أبواب الخرافة، وقصص الخيال، وتأليه الاسطورة، والنسخ والنقل) ص/189.

البطل المتعقل المتفكر يرى ضرورة اعادة النظر بالموروث الديني الثقافي، الذي هيمن عليه الفقهاء ووعاظ السلاطين، وحرفوا الدين عن معناه الصحيح بما يخدم مصالحهم ومصالح ساداتهم الحكام، وعملوا على احلال فكرهم (البديل)، الذي يدعو الى الخمول والكسل الفكري، والتسليم بما هو واقع وعدم التساؤل والنقد، واغراق الجمهور في الطقوس والشعائر التي تخدر النفوس وتبلد العقل وتقفل الباب امام المنطق، وحرفوا النصوص والاحاديث، بما يكرس الطغيان والفساد والجهل والتضليل ويؤبد حالة الفقر والجهل والتخلف في المجتمع .

لقد اعطى المطيرجية، في كوفة، العقل المبدع أشارة طلاق الماضي الخرافي، وأبرام عقد العقل، حينما دبروا حيلة لاصطياد (لقلق يونس) المقدس، الذي تنذر له الناس النذور. بعد اصطياده والتخلص منه، كانوا يرددون (هذا اللقلق راح نحنطه، قشمرناه بلعبة وحنطه) ص /135.

بمعنى: أن القديم البالي التقليدي أصبح جثة بلا روح، فتم تحنيطه والتخلي عنه، ليكون في متحف التاريخ الطبيعي، بنزع قدسيته وعدم الخوف منه، أو الاستماع اليه.

(اذن ذهب زمان، مات مع اسطورته، وجاء فكر آخر ينبئ بوعي جديد) ص /135.

فهو يحمل المثقف مهمة كبيرة للتوعية والتثقيف والتجديد ومسائلة اللامفكر فيه والمسكوت عنه. انه يرى أن أحد أسباب التخلف، هو: ضعف المثقف، وعدم الاستماع اليه، حين يقول: أن  المثقف بلا حول ولا قوة، يشعر بالغربة والاغتراب في مجتمع تسود فيه الخرافة، حيث يدعو بطلنا حين (اطلق صفارة البداية كي افتح مغاليق عوالم الناس الذي كان يراد لهم أن يعيشوا خلف ابواب الخرافة، وقصص الخيال، وتأليه الاسطورة، والنسخ والنقل) ص/189.

ويورد أمثلة على هذه  المعتقدات الخرافية التي تجاوزها العقل والعلم (يا حوت البلاعه هدي كمرنه بساعة، يا حوته يا منحوسة هدي كمرنه الغالي) ص/61، فتكبر الجوامع والمساجد ويعم الخوف الناس، وتشعل النيران، وتؤدى صلاة الخوف، ويجري الضرب على الصحون والقدور والصنوج؛  لاتقاء شر الحوتة التي  تحاول ابتلاع القمر، كل رد الفعل هذا على ظاهرة  خسوف القمر، وهي ظاهرة طبيعية، وهذا القمر الذي داست اقدام الانسان على ترابه منذ عشرات السنين.

كما أنه لا يرى في المدارس وسيلة لبناء فكر واع خلاق، فهي مبنية على التلقين والتدجين، وكبح التفكر والتساؤل، ولا تدعم التفكر والتساؤل، الذي   تؤديه الفلسفة،وهي: المشاكسة المتسائلة المشككة دوما، والتي ترى أن لا ثابت الا المتغير، لذلك ناصبوا الفلسفة العداء السافر، حتى وصل الحد ببعضهم الى القول (من تفلسف فقد تزندق).

ويرى ان تدهور الثقافة بسبب (قلة القراءة، واستخدام التواصل الاجتماعي، والجملة القصيرة)، كذلك يطالب المثقف بربط القول بالفعل ليكون منتجا ونافعا (امزجوا الوعي بالفعل، فالوعي بذرة، والفعل مطر، كلاهما يحتاج الآخر) ص/200.  هكذا كان يخاطب ويوجه مريديه من الشباب الساعي للتغيير، بمعنى أنه يدعو المثقف أن يكون بين الناس لإزالة الغشاوة عن عيونهم، حيث يقول (أنا عندما أدعو الى عقل مغاير، فإنما أدعو للاحتفاء ب (العقل الفاعل) الذي يسعى الى تفتيت الأساطير والرموز التي صنعت لنا تهويلا لا مبرر ولا معنى له ...) ص/120.

ويرى أن انتفاضة تشرين هم حملة الفكر المغاير الذي سيقلب الطاولة على كل عوامل ووسائل التخلف والجهل والتضليل، انهم الامل في الخلاص من الوضع والواقع المزري والمؤلم الذي يعيشه الشعب العراقي في ظل حكومة المحاصصة والفساد والافساد (أن هؤلاء الشباب، استطاعوا أن يتجاوزوا كل الخيبات في تاريخنا، وهم  الآن يخطون تاريخا آخر حق لنا أن نفخر به... هم ألان يصنعون (المتغير) الذي لم يكن بالحساب يمدون اياديهم نحو مستقبل يرونه بوضوح لانهم سيصنعونه) ص/140.

فقد سافر الى ساحة التحرير، واطلع على حماس الشباب - من الجنسين -وحسن تنظيمهم ووعيهم المتقدم  وإصرارهم على النصر، حيث شاركت المرأة بفاعلية في تظاهرات تشرين، وبشكل غير مسبوق، حتى في المحافظات المحافظة كالنجف وكربلاء، مما جعله ينحاز الى التشرينيين ويرى انهم امل الخلاص.

لكن القوى المضادة، المسيطرة على المال والسلطة، أخذت تحيك الدسائس، وتوجه التهم القذرة للمتظاهرين، بعد أن استشعرت خطورة انتفاضتهم واتساعها، حيث شملت اغلب محافظات العراق، بعد ان  صورتها فقاعة سرعان ما تنفجر وتندثر، شنت حملة كبيرة من التشكيك والتهم الباطلة ضد المتظاهرين، والذين هم جمهور واسع ليس بمستوى واحد من الوعي ومن الدوافع للتظاهر، وليس  بنفس الدرجة من الانضباط والتنظيم، مما سهل عملية اندساس قوى التخريب السلطوي بين صفوفهم، فنصبوا خيمهم متقنعين بقناع الثوار وتحت مسميات مختلفة، وجر المنتفضين الى معارك جانبية، والقيام  بأفعال لا تخدم قضيتهم، مما يوفر للسلطات ذريعة قمعهم، ويقلل من تعاطف الجماهير معهم.

فراحت السلطة تمارس القسوة والبطش، كالقنابل الدخانية والرصاص الحي لقمع المتظاهرين وحرق خيمهم، واختطاف ناشطيهم، بالإضافة الى استعمال وسائل الترغيب أن عجزت وسائل الترهيب عن اسكاتهم، وعلى الرغم من ذلك اصر الثوار على الاستمرار، رغم اعطائهم تضحيات كبيرة واعداد من الضحايا بالمئات وآلاف الجرحى والمعوقين، وقد أجبروا حكومة عادل عبد المهدي على الاستقالة، وهذه الاستقالة (هي ثالث استقالة في تاريخ العراق السياسي بسبب الضغط الشعبي: صالح جبر عام 1948، وياسين الهاشمي 1936 بعد انقلاب بكر صدقي)

ولأن المنتفضين  لم يختاروا بديلهم لرئاسة الوزارة، وفرضه على السلطات، فأن البديل السيد الكاظمي تخلى عن كل وعوده للثوار، وسلك نفس سلوك من سبقه، بل اشد وطأة، في قمع التظاهرات وتصفية الساحات بالتخادم مع المليشيات والكتل السياسية التي نصبته على كرسي الرئاسة، فأحرقت خيم التحرير وغير التحرير، وخلت الساحات من المتظاهرين الا في ناصرية الصمود والتحدي التي مازالت تتحدى، وقد كبل رئيس الوزراء الشعب بقيود القمع المباشر وغير المباشر، عبر اجراءاته الاقتصادية التعسفية تنفيذا لتعليمات البنك الدولي، وبدعوى انقاذ الاقتصاد العراقي من الانهيار، ففرض على الشعب المزيد من الضرائب، ورفع سعر صرف الدولار، في الوقت الذي  ارخى قبضته عن عصابات السلب والنهب، ماعدا قيامه ببعض الجولات والحركات الاستعراضية الزائفة  لذر الرماد في العيون، موهما الشعب بانه المنقذ والمخلص للشعب من ويلاته وحرمانه، وقد صدق المثل الشعبي القائل، حول زيادة مآسي الشعب العراقي، (راد له كرون  كصو أذانه) و(المارضه بجزه رضه بجزه وخروف).  والخسائر مستمرة ومتوالية بزعامة وزير المالية (علي عبد الامير علاوي) وبدعم من رئيس الوزراء.

استعراض الوضع السياسي في العراق عموما، وفي الكوفة على وجه الخصوص:

تتحدث الرواية حول دخول الافكار السياسية المختلفة الى العراق، والى الكوفة أيضا، بعد الحرب العالمية الثانية (الشيوعيون، والبعثيون، والقوميون) حيث كانت هذه الاحزاب سرية زمن الحكم الملكي، وتعمل تحت الارض، لأنها محظورة من السلطات الحاكمة؛ لمعارضتها الحكم ومطالبتها بسقوطه، لأنه وليد الاستعمار البريطاني للعراق، وقد توج  كفاح هذه القوى في ثورة 14 تموز 1958 للخلاص من ربقة الاستعمار وشركاته الاحتكارية، والخلاص من سطوة الاقطاع على الفلاحين في الريف العراقي، والعمل على اقامة دولة مدنية حديثة، ولكن للأسف ساد النزاع السياسي الحامي والدموي بين هذه الاحزاب، وتفتت تحالف جبهتها الوطنية، الذي كان له الاثر الكبير في تفجير ونجاح  ثورة تموز..

وقد اتضح هذا التفتت - كما رصدته الرواية - من خلال توزعهم وانصار كل منهم على مقاهي مختلفة في الكوفة، حيث كانت مقهى سيد علي للبعثيين، ومقهى محسن وعبيد وعبد الشهيد يؤمّها الشيوعيون، وبقية الحركات مقهى الحاج جعفر الكوفي ...

معلوم للجميع ما حل بالعراق وشعبه من حروب وخراب ودمار بسبب هذا الصراع الدامي لهذه القوى، والتنافس العنفي التآمري للسيطرة على كرسي الحكم بأي ثمن، وعلى الاخص ما حصل بعد  انقلاب 8 شباط 1963 في فترة الحكم البعثي الاول، وما حصل بعد حكم البعث الثاني في 1968 وحتى نيسان  2003 وسقوطه على يد الاحتلال الامريكي، حيث مهد الحكم البعثي الارضية لاحتلال العراق من قبل امريكا وحلفائها، ردا على الحروب العبثية المجنونة لنظام صدام واحتلاله للكويت، وقد سلطت أمريكا على حكم العراق طبقة سياسية عرقية طائفية موالية لها، فأجهزت على كل مؤسسات الدولة، وانشغلت بنهب ثروات العراق، وتقسيم المغانم فيما بينها، وعملت على تخليق حروب عرقية وطائفية، وشرذمة الشعب العراقي الى طوائف وملل واقليات قومية ودينية، مما ادى الى عزل  وتهميش العقل وتغليب النقل، فأقصيت الفئة المثقفة عن ادارة الدولة ومؤسساتها، ان وجدت هذه المؤسسات فعلا، (تخلت النخبة المستنيرة، التي تؤمن بالعقل، عن دورها  التاريخي، وتركت زمام الامور بيد شيوخ النقل كي يقودوا حركة الوعي الاجتماعي) ص/164.

مما ادى الى نشر الخرافة والأسطورة، ومزيد من التقديس للنصوص والشخوص، وأذابة الذات الواعية التي تستلم الفتوى من العقل الواعي، وليس من أصنام مقدسة، أو تدعي القدسية الزائفة التي صنعها الجهل والخرافة وتردي الوعي..

فسلطة مبنية على المحاصصة العرقية والطائفية لا يمكن أن يحكمها العقل والعلم، ولا يمكن أن تعيش وتستمر الا وسط التجهيل والتضليل والشد الطائفي...

فانتشر الجهل  والبطالة والعوز، وتقردنت الشخصية العراقية بدافع البقاء على حياة  تماثل حياة الحيوان، وهذا هو الحال الذي نعيشه اليوم، على الرغم من امتلاك العراق لثروات هائلة، فأن ما يزيد على 40% من الشعب العراقي يعيش تحت خط الفقر، مع تردي مريع في الخدمات الصحية والتعليمية والبلدية والسكنية، وفقدان الامن والامان، وتحكم المليشيات في الشارع العراقي ومقدرات الانسان العراقي دون رادع، وقد أحسن الروائي في عدم الدخول في توصيفه وتعريفه لأنه ظاهر للعيان  وليس بحاجة للتظهير او التوضيح..

عادات أهل المدينة وتقاليدهم:

يأخذ الروائي - عبر جولات - بطل الرواية داعية العقل والتنوير في مدينته الكوفة، ايام الطفولة والصبا والشباب والنضوج، في شوارع ومحلات وأسواق وبيوت المدينة وبساتينها، حيث شارع السكة، ومسجد النبي يونس، والجسر ومراحل تطوره وتاريخ  انشائه، معمار الدار الكوفية، تربية الطيور، وانواع لعب ولهو الاطفال الشعبية المختلفة .

ذكرياته التي لا تنسى حول والده وجده وجدته ووالدته (كان أبوه عنده دنيا تطوف في البيت، دنيا رجولة وفرح، ونبرة صوت، وتاريخ مشترك ..) ص/110، وجدته المديرة القديرة لكل شؤون البيت (مديرة ادارة البيت) ومن بعدها أمه، مما يؤشر الى الدور الهام للمرأة في حياة الكوفيين..

كان جده يطبخ الهريس في عاشوراء في كل عام، كعادة اغلب النجفيين والكوفيين في هذا الشهر، واستمر والده بعده في  طبخ الهريس. يستذكر كذلك التشابيه في عاشوراء، حيث يمثل ناس لم يحترفوا التمثيل سابقا، دور ابطال معركة الطف: الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره من جهة، وجيش يزيد بن معاوية بقيادة عبيدالله بن زياد من جهة أخرى، في واقعة الطف، حيث تصطرع قيم البطولة والصدق والوفاء والتضحية والفروسية في  الجبهة الاولى ضد قيم العبودية والانحطاط الاخلاقي والغدر والخيانة في المعسكر الثاني... تعرض هذه المشاهد لتكون عبرة لمن يعتبر، وهي شاهد على انتصار الحق على السيف مهما طال الزمان.

يستذكر الاحتفال السنوي بعيد نوروز، او سنده بدر، في 21 اذار من كل عام، حيث يذهب الناس الى الحدائق والبساتين، ومعهم عدة الشاي والاكل والسكنجبيل والخس، ناهيك مما تعمله النساء في البيوت، كجمع وتحضير السينات السبع... وقد كان الريفيون يعملون الدبكات (الجوبي) حول الاضرحة وفي القبور وهم  فرحين، يرقصون على صوت (المطبق)  ... ثم يعودون لمنازلهم مرددين (سنده بدر يا بو الخس خلي العجم تتونس) حيث يحتفل الفرس والكرد بصورة اوسع واكبر بهذا العيد.

يستذكر ايام رمضان، واصوات المرتلين والمؤذنين وشعائر رمضان، وتبادل (صواني) الاكلات المتنوعة بين  البيوت، واقامة لعبة المحيبس  وابطالها المميزين بالفراسة وامكانية اخراج المحبس من يد الفريق الخصم، كذلك المجالس العامة في البيوت والجوامع..

الاستعدادات المبكرة لاستقبال عيد الفطر، من خلال عمل الكليجة ومختلف انواع الحلويات والمعجنات، وتحضير الملابس الجديدة للأطفال، وفرحهم من خلال ركوب المراجيح ودولاب الهوى، وركوب العربات التي تجرها الحمير والدوران في المدينة، وقد انتفخت جيوبهم  بالحلوى والكليجة  والبيض الملون وبعض العيديات النقدية، وتبادل الزيارات بين العوائل  الصغير يقصد الكبير، وبين الجيران والاصدقاء والوجهاء... الخ، حيث تستمر هذه المراسيم لثلاثة أيام متوالية..

ويستذكر مراسيم الزواج والافراح في المدينة، ونقيضها مراسيم الدفن والوفاة والفواتح ودفن الجنائز.

يستذكر الجسر والنهر، الذي يهتم به كثيرا كتوأم للكوفة، حيث يقول (ان من يريد أن يكتب عن الكوفة الآن، يجب عليه أن يجعل نهر الفرات توأما لها، يكتب عن الاثنين معا) ص/44.

يستذكر صباه وفتوته، والسباحة في النهر، والمرح مع  اقرانه من الشباب الكوفي، ومراقبة زوارق الصيد وهي تجوب النهر، والسفن التي تفرغ حمولتها في خانات مدينة الكوفة المنتشرة على امتداد ضفة النهر في المدينة....

يستذكر محل والده واصدقائه، شارع السكة ومحلاته والمقاهي وفاتنات الكوفة المحجبات، الذي جعل احداهن صنو مدينة الكوفة، وحبيبته المفترضة التي هام بحبها، وظل يحلم بلقائها طوال حياته، ولكن  أني  يضفر الفيلسوف المثقف بحبيبته، بمدينته الجميلة، وهو يعيش  كل هذا الخراب الاقتصادي والسياسي والفكري ؟!! وسط موجة الشر والقتل التي تستهدف العقل، والتي اقدمت على شل حامل الراس المفكر حينما كان يقصد مدينة بغداد، فوجه له اعداء العقل رشقة من رصاصهم الغادر ليبقى  مشلولا يتحرك على كرسي متنقل، في محاولة للحد من  نشاطه وفكره التنويري، ولكن هيهات، فالكوفة والعراق ولادا للمفكرين والتنويرين.   فها هو وضاح وشقيقه نجاح، ورثة الفكر النير ونواة الثورة ضد كل ما هو قديم، وقد ابدوا ذلك من خلال مشاركتهم الفاعلة في الانتفاضة التشرينية التي لم تخمد شرارتها مهما فعلت قوى الظلام والتخلف.

في  التفاتة جريئة، يوجه بطل الرواية النقد اللاذع الى العبث في مسجد الكوفة وبيت الامام علي عليه السلام، حيث اظهروه بمظهر باذخ وفخم يضاهي قصور الملوك والامراء، من خلال مظاهر البذخ المعماري والتكييف الحديث، مما افقده قداسته وطبيعته الزاهدة لحياة الامام علي بن ابي طالب عليه السلام، وهو شيخ الزهاد، وسيد البلغاء، ونصير الفقراء،  فما حاجته للأبهة والذهب والفضة التي لو قام حيا لما ابقى منها شيئا، ووزعها على الفقراء الذين يتضورون جوعا وهم يتجولون بالقرب من داره ومسجده وضريحه، ليلتقطوا لقمة عيشهم من القمامة، ويبيتون في العراء، او في المقابر، لا يرون الا النجوم في السماء وبريق قباب الذهب  ومنائر النفاق لمساجد لا يؤمها سوى المنافقين وآكلي السحت الحرام، ويدعون انها بيوت الله، والله غني ومتعال عما يدعون... في حين عياله الفقراء يعيشون الفاقة والعوز، ويفتقدون لسقف يحميهم من حر الصيف وبرد الشتاء.

الروائي المحنك، محمود جاسم عثمان، أحكم سيطرته على حبكة الرواية ، وامسك بخيوط السرد الممتع، متنقلا بالقارئ بين صور ومشاهد  واحداث وجلسات نقاشية، ليجلسه حول موائد فكرية غنية بالفكر الحر، زاده العقلانية والتفكر والتدبر، وفضلاته التعصب والتطرف والخرافة  والتخلف، فما اغناها من مائدة  تثري العقول وتنير البصيرة...

رواية تستحق القراءة والاهتمام، وهي نقلة مهمة في تطور رواية الوعي الانساني والمدني، الداعية للتحضر والمحبة والتقدم والسلام، ناهيك عن توثيق تاريخ مدينة الكوفة ومعالمها وتقاليدها وابرز شخصياتها، كما هو ديدنه عبر رواية حي السعد، ورواية حجر الصوان، لتوثيق معالم وتاريخ  مدينة النجف، وتخليد ابطالها ومعالمها.

 

بقلم: الأديب حميد الحريزي

 

في المثقف اليوم