قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في مجموعة (ببطء مثل برق) للشاعرحسن عاتي الطائي

حيدر عبدالرضاعزاء رؤية الذات ويقظة حلم الذات الناظرة

توطئة: من الأهمية أن ندرك أن بناء الرؤية الشعرية في تمظهرات دوال القصيدة، محمولا مزدوجا في تراكيب قضوية من مقابلات قول الذات إلى جانب حيثيات منظور الموضوعة الدلالية في النص . عندما نقرأ تجربة قصائد مجموعة (ببطء مثل برق) للشاعر حسن عاتي الطائي، توافينا تلك المساحة التفارقية في ثريا العنونة المركزية . إذ إننا نعاين وجه الاختلاف في مكونات الصفة الدالة للبرق، وما يترتب على هذا الدال من حالة خاطفة من سرعة الخطف في صدر الغيوم الملبدة، ولكننا عندما نطالع دوال النص المعنون بهذا الوسم، نلاحظ بأن للشاعر حسن عاتي الطائي ثمة محمولات خاصة في الرؤية الإيحائية تدعمها إرهاصات تهكمية من موقفية الموضوعة الشعرية في قصائد المجموعة .

ـ خصوصية الذات وخاصية التفاوض مع الذات .

من الجميل أن نعرف أن تجربة قصائد المجموعة تواظب معطيات تحولاتها في نطاق كفاءة خاصة من فاعلية (الذات المتساءلة) بقصدا ما من تشكيلات التعارض والتوافق بين الخارج والداخل، لذا نجد كيفيات انشطار الذات عن محيطها، كإضافة تكميلية إلى تفاصيل وقائعها الاحوالية الممكنة:

أنا أجيد التحدي

علاقتي به وطيدة

التحدي يلازمني

وأملك تأريخا حافلا بشأن ذلك

فحين جردتني الغيوم

من امطاري

كنت إلى جانب النهر

أشجعه

على

الأبتسام . / ص15 قصيدة : انتصار

وتستغرق استبصارات المعنى الشعري في منازعة ظواهر الأشياء، كحالة توفيقة بين شكل الموضوعة وطبيعة الذات المكتملة وما تتعارض عليه وفيه وقائع الخارج النصي، فجملة (أنا أجيد التحدي) توفر إلى المتن الدوالي في النص، مستلزمات بقاء الذات في منظورها التصوري ضمن جملة استبيانية أحوالية خاصة، من شأنها النظر إلى عوائق العموم الخارجي، كوسيلة تختبر ذاتها في نضوج محصلات دليل (الانتصار) فيما توفر جملة (التحدي يلا زمني) الكشف عن واقع الذات الشعرية وأغراضها التأثيرية في مسار فاعلية تجربة التحدي، كواصلة دائبة بالمرموز الأبعادي المسخر في صفات الذات المركزة في اعتباراتها العلائقية : (فحين جردتني الغيوم .. من أمطاري .. كنت إلى جانب النهر .. أشجعه .. على .. الابتسام) وهكذا الأمر يواليك، بحجة المشاطرة في ممارسة طابع التحدي، فعندما أصبح مجال المطر محجوبا من قبل الذات، بفعل اختلافي معادل من دال (الغيوم)ما جعل للذات سوى مراهنة الغيوم على علاقتها المتمرسة بجدول النهر، وهذه المقاطع من النص، تطوي بدورها مجالات خطيرة من واقع حقيقة صراع الذات مع دلالة الخارج (السياسي / الحكومي / الرقيب) مما جعل الأسطر اللاحقة من النص تباشرنا بهذه المقاطع:

وحين كان الظلام

يحوم فوق رأسي

أبرمت اتفاقا للأصطفاف

مع الأزهار

و يوم قررت الطيور

أن تتخذ لها وطنا جديدا

كانت جذوري تتمسك بكبريائها . / ص16

القيمة الشعرية هنا تكمن في صياغة العلاقة المبدئية مع نوازع الذات، لذا فهي بحد ذاتها تشكل مرحلة عصية في عنفوانها الموقفي والتعقبي، مما جعل صورتها القصوى من الأشياء الجديدة (وطنا جديدا) كحالة غير مستجيبة، لأن أبعاد سيكولوجيتها تتعارض مع لسانية هذه الأوطان الدخيلة . كذلك نتعرف في قصيدة (النهر صديقي القديم) على صورية ـ حسية لا تخلو من تمسك الذات بوعدها القاهري وشرطها الحضوري مع أصعب المسميات، حتى وأن تطلب الأمر أن تتحول إلى رقعة استعارية عصية على السير نحو مجهولية مدينة النجاة:

الطيور تعرف ماذا تفعل

و كذلك الأنهار

أما الضباب فلا خيار أمامه

سوى أن يكون غامضا . / ص17

أن مقاطع شعرية الطائي هنا، تبرهن في ملفوظها على صحة فكرته المتمسكة باعتباراتها الدالة، إذ أننا نستنتج من وراء رسومية جمل (الضباب فلا خيار أمامه .. سوى أن يكون غامضا) بأن الذات الشعرية تكرر رؤيتها ضمن حالات واحدة من الصوغ المتفرق، وكأنها تسعى إلى اعتماد لغة انتقادية ـ أمثولية موجه إلى قناعات خلقتها مرحلة ممجوجة، فيما أصبح البحث في حالات النص، أشد تعقيدا رغم مرونة اللغة وسلاسة دائرتها الدلالية، إذ أن الشاعر الطائي أخذ يحمل قصيدته مرموزات ذات دلالات مترابطة عن حافزيات موضوعية متحولة في خلاصاتها الظاهرة والباطنة :

و الآن

الأضداد

تتجاذب

ولا شيء يمنعها من التماهي

فإن الريح لن تغير سلوكها

و تأوي إلى

بيتها

مبكرا . / ص17

و يحقق الحس الانتفاضي في مخزون الذات الصامدة ـ المنتصرة، من خلال محاور: (الضباب ـ التخلي ـ الاختيار ـ الريح ـ ببطء مثل برق ـ تغير سلوكها ـ ما يمكن إخفاؤه بالضجيج) وهذه الدوال لو دققنا في ملامحها المضمرة، لوجدنا ثمة كيانية حاشدة من الأسئلة والنفور والاحتجاج والبركان المرهون برمزية الإضمار الشعري الدال في اختياراته وتواصلاته وإضاءاته القيمية . وانطلاقا من قصيدة (أسئلة) وقصيدة (حراس شخصيون)و قصيدة (نحلق ذقن أحزاننا) وقصيدة (نسيان) وقصيدة (وحدي مثل غيمة) وقصيدة (الهزيع الأخير) تتشكل أمامنا موضوعة شعرية ذات هوية مضمرة، ولكنها هوية تحيا داخل الحب والحرب والذات المستشعرة في حكايا شعرية، تحفزها ظلمانية التوقع وتدفعها خصوصية الذات المرهونة بتفتيت صوت يسعى إلى دحرها عن مجال محمولات رؤيتها الذاتية المشبعة بأرهاصات إحالة موضوع بلاغاتها الى محض تتابعية هامشية:

في الهزيم الأخير

من حياتي

قررت أن أكف

عن التلويح بأحلامي

و إيقاف حركة أحتجاجي

و ترك نفسي تقرر

مصيرها بنفسها

و السماح لها بأن تسترخي

و تغمض

عينيها

قليلا . / ص19 قصيدة : الهزيم الأخير

تنفتح الدائرة (الاسترخائية) من دلالة قول الذات الشاعرة، التفافا حول مشهدية ساكنة من قرار النفس على هيئة مراجعة الأسباب المتاحة في أحياز مأزومية الأسئلة الواردة من قبل مواجهة لذاتها وإلى مؤشرات الواقع الخارجي المتمركز في بؤرة (عبث الرقيب) لذا وجدنا حالات النفس في نموذجها المثال، تتوسع في مديات مراجعاتها القاهرة في إحصاء شوائب ومثالب واقعها الخارجي المصفد بعثرات الأقنعة والمسميات المسطحة، قد يكون لها حنين الاسترخاء الشعري قليلا، أو أنها تختزل أسئلتها في خصائص متفردة وحدية لمقارعة ذلك الآخر، لذا فإن جملة (في الهزيم الأخير) ما هي إلا علامة استفهامية إلى قيامة أكثر استظهارا برقيتها الخاطفة، بيد أن جملة العتبة العنوانية (ببطء مثل برق) قد تكون الصورة المختزلة لفرحة الاحتفاظ الذاتي للثورة الشعرية بنهضتها المأتية حسما . وعلى هذا النحو نعاين بأن مرآة الذات قررت عن الاكتفاء بالحلم وحده (عن التلويح بأحلامي) وصولا إلى (السماح لها بأن تسترخي) اقترانا لها ب (حركة احتجاجي = ببطء مثل البرق) وعلى هذا النحو تتكشف لنا أذونات المكون الشعري في مجموعة قصائد الشاعر ـ استفهاما وتنقيطا وبياضا ـ الى جانب حضور فاعلية أفعال الذات الشعرية بمنظور التشاكل والتفاوض مع موقفها من (ببطء مثل برق) ومصالحات أحلامها المتبقية في دلالات وحدات:

فليس أمامي سوى

التفاهم مع اللحظة

الأخيرة

من

الشك . / ص93

ـ تعليق القراءة:

أن الدائرة الاستفهامية في محرضات الذات الشعرية أخذت تستدرج احتمالاتها الظنية بروح الاستظهار بوضوحية متلبس بلبوس الشكوكية والريبة والظنية من واصلية ذلك الآخر المتمثل بمحاور (الغيوم / الريح / أحتجازي / شروخ / الأنقاض / الظلام / الغبار / لاوطن) فجملة هذه الدوال الزاحفة في متن وعلامات التمثل والتشكل الشعري في النصوص، كان مبعثها التصوير الحسي المخالف بروح المعادل الرموز والمغزى المقطوع والمحتمل المفجوع، فالشاعر يلخص لنا استجاباته المؤولة ضمن ماثلات افتراضية في الشكل والمقاربة والمقترح والفاعل في منطقة التوزع الحلمي، لذا وجدنا مجموع قصائد المجموعة، وكأنها مؤلفة على نحو موجهات دالة وغير دالة، متعددة وأحادية، منوعة ومنفردة، وقد تبدو لنا حينا كثورة حاسمة وحينا كمحض سطور في قصيدة واعدة . إذ تتنازع في اشتغالات النصوص اللغة الشعرية التي لا يتحصل من خلالها الموقف السياقي الدلالي الثابت، ولا حتى خضوبة المستوى الشعري المؤثر، ولكنها من ناحية هامة تبقى كنوازع لمحمولات ذاتية تسعى في ذاتها إلى بث لواعجها المبطنة على هيئة إرهاصات ذاتية منفعلة ضمن إحالات متعينة من الملفوظ الجاد في رسومية ظنية من سببية الأغراض القولية المراد حقا قولها في مضمر حقيقة هوية النص الشعري . في الحقيقة أن وظائف مجموعة قصائد (ببطء مثل برق) للصديق العزيز حسن عاتي الطائي، ما هي في النتيجة القصوى، سوى صور شعرية مأزومة بسرد مواقع الذات من الأخر الكلي أو الجزئي، إذ يرتد الراوي الشعري في التواصل الحقيقي مع روح ودلالة الموصوف في قصائده، مما جعلها تبدو كتساؤلات بياضية أو أنها صرخة ذاتية محبوسة في موقع حيادها المنعزل عن استنطاق حقيقة جوهر الأشياء بلغة تستقطب التدليل في الأشياء من غير الحاجة إلى إثارة غبار إنقاض الحروف من جهة ما وتعطيل جسد الحلم الشعري المؤثر والأثير . أن مشكلة الشاعر العزيز مع قصيدة مجموعته، عدم تفعيلها بصورة استنطاقية حية، فقط أنه قام بأرسال برقيات محفوفة بلغة عزاء الذات ويقظة حلم الذات الناظرة .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم