قراءات نقدية

محمود محمد علي: من رباعيات عمر الخيام إلي رباعيات صلاح جاهين (2)

محمود محمد علي"قراءة في جدل السؤال والاندهاش"

نعود ونكمل حديثنا عن دراساتنا للأدب المقارب والمتمثل من خلال قراءتنا حول جدل السؤال والاندهاش من خلال غوصنا في كلاً من رباعيات "عمر الخيام"، ورباعيات "صلاح جاهين" ؛ وهنا يمكنني القول بأن: هناك قوتان علي ما اعتقد تنازعان صلاح جاهين، قوة الثورة والتمرد، وقوة الخوف والرعب.. الخوف قد يكون فيزيقياً، وقد يكون ميتافيزيقا، لكنه يستحوذ عليه، ويشعر أنه قدر أقوي من الإنسان والثورة والتمرد قد يكون أيضاً لما يحيط به من البيئة والمجتمع، التمرد علي كل ما يهدر كرامة الإنسان ويبعثرها. التمرد علي الفيزيقي وأيضا قد يكون تمرداً علي الميتافيزيقا، وهنا يكمن الجمال عند صلاح جاهين من قدرته علي الانتقال مما هو ملموس إلي ما هو غير ملموس، أو من الفيزيقي المتطور إلي الميتافيزيقي غير المتطور (12).

ولد صلاح جاهين في الخامس والعشرين من ديسمبر عام 1930م، بحي شبرا في شارع جميل باشا، وهو الأكبر بين أخوته، كما أنه الطفل الوحيد علي بنات ثلاث.. والده المستشار بهجت حلمي الذي تدرج في السلك القضائي بدءً من وكالة النيابة حتي أصبح رئيساً لمحكمة استئناف المنصورة، وقد عرف عن جاهين في صغره الهدوء، والبراءة، والهوايات الرقيقة.. تخرج من كلية الحقوق، وإذ كان يتمني أن يلتحق بكلية الفنون الجميلة، ولكن رفض والده جعله يغير مسار تعليمه.. بدأ جاهين حياته العملية بجريدة ” بنت النيل”، ثم لجريدة ” التحرير”، وفي تلك الفترة بدأت مسيرته مع رسم الكاريكاتير. . ومع حلول الخمسينات من القرن الماضي بدأ صلاح جاهين يكتب شعر العامية المصرية، وهو مصطلح أطلقه هو للتمييز بينه وبين الزجل، وكان يقصد به الشعر الوجداني العميق الذي يتناول كل المواضيع والأحاسيس والأفكار التي يتناولها شعر الفصحي.. بلغ قمة شهرته عام 1965م حين أصدر ديوانه قصاقيص، فاختفي من الأسواق فور صدوره من شدة الإقبال الجماهيري عليه، وصدرت الطبعة الثانية ونفذت (13)، وظل اسمه براقاً مبدعاً إلي أن توفاه الله في السادس والعشرين من أبريل عام 1986م.

ورغم تفوق ” صلاح جاهين” في كافة أنواع الفنون السالفة، إلا أن اسمه كشاعر كاف لأن يجعله واحداً من أبدع شعراء القرن العشرين في مصر، وواحداً من أهم شعراء الإنسانية في العالم، نظراً لما قدمه من إبداع شعري إنساني صادق وجديد ومعبر عن روح إنسان العصر وقضاياه من خلال خيال شعري إنساني صادق وجديد ومعبر عن روح إنسان العصر وقضاياه من خلال خيال شعري جري عليه الشعر العربي (14).

ويؤكد ذلك ما جاء للأستاذ “رجاء النقاش” في دراسته بعنوان:” صلاح جاهين الشاعر والإنسان “: ” والفن العربي، يشكو من النقص في جرأة الخيال وطموحه فليس في أدبنا كله أكثر من موقفين أو ثلاثة تدل علي تحليق الخيال العربي، وهذه المواقف هي فكر ” أبي العلاء المعري” في رسالة “الغفران”، فقد تجرأ خياله الأدبي، وتصور عالم الجحيم والجنة، وبني صورة لهذا العالم، وهناك قصة ” حي بن يقظان” لابن طفيل التي تصور فيها إنساناً يعيش في جزيرة منعزلة يبحث عن معني المجهول وسر الحياة، وهناك أخيرا بعض قصص ” ألف ليلة وليلة”، ولكن الطابع العام للخيال الأدبي عند العرب والخيال الشعري علي وجه خاص هو القصور، والعجز عن التحليق، ولذلك لم يظهر في أدبنا شاعر مثل ” ملتن” أو “بيرون”، من الذين تصورا عصيان الشيطان في صورة التمرد، والبحث عن المعرفة، وربطا بين فكرة التمرد وبين الطموح، وليس عندنا شاعر؛ مثل ” شكسبير” ، أو “دانتي”، فالشائع في شعرنا العربي أن الشاعر يطير بجناحين صغيرين لا يقدران علي التحليق فالخيال كسول قاصر الطموح محدود بالواقع المادي مشغول برسمه وتنظيمه عن طريق الحكمة والفلسفة (15).

وهذه الطاقة الشعرية للشاعر “صلاح جاهين” التي جسدت لنا الدراما الخاصة في رباعياته والتي تعد من أجمل القوالب التي لامست الوجدان وبرزت خلالها عبقريته الشعرية، من خلال كنوز الكلمات التي تركها، وباتت مصدراً للإبداع في كل المجالات الفنية، وقد كان حريصاً علي أن يجعل مصادره الدرامية في الرباعيات تستمد أصولها من الأساطير العربية والفرعونية مخلوطة بحياته الشخصية، وكان أكثر حرصاً علي أن يجعل التخيل أهم مصادره علي الإطلاق، بل إنه جنح إلي اعتماد مصدر العقل الباطن خلطة بالتخيل الذي كان يملك ناحيته الشاعرية (16).

لقد كانت رباعيات “صلاح جاهين” من أشهر أعمال الأدب باللهجة العامية في ذلك العصر، وقد حفظَ تلك الرباعيات معظم معاصريه لما فيها من بساطة وعذوبة وقُرب من مشاعر وأحاسيس الناس ؛ وقد تجاوزت الرباعيات، مبيعات إحدى الطبعات في عدَّة أيام 125 ألف نسخة في ذلك الوقت، وقد بدأ “صلاح جاهين “بكتابتها عام 1959م باللهجة المصرية العامية، وقد كانت رباعيات صلاح جاهين عن الحب تحملُ القارئ على أجنحة الهيام لتنفضَ في قلبه فلسفة الحيرة في الحب، ورغم بساطة الأسلوب والكلمات المستخدمة إلا أنَّها عذبة ساحرة تشدُّ القراء ببساطتها، وقد غنَّى رباعيات صلاح جاهين عن الحب الفنان علي الحجار ولحَّنها السيد مكاوي.

وفي رباعياته الشهيرة نجد صدى الحكمة التي وعاها جاهين من تجربته في الحياة وتمثلها من قراءاته لسارتر، ونيتشه، وألبير كامي، ورغم عاميتها الواضحة وانتمائها الصريح للغة بسيطة يتكلم بها الناس في البيوت والمقاهي فإنها حوت عمقًا ونفاذًا لا حدود له ليصبح جاهين مثل أبي العلاء المعري واحدًا من أولئك النفر الذين جمعوا بين الحكمة والإبداع ومزجوهما في كأس واحدة فكأنما شعرٌ ولا فلسفة وكأنما فلسفةٌ ولا شعر.

ويمكن تقسيم رباعيات “صلاح جاهين” إلى ثلاثة مراحل: المرحلة الأولي، وهي مرحلة بزوغ الحلم الذي انتابه فيوقت اعتقد فيه أن كل ما يحلم به يمكن أن يتحقق، والمرحلة الثانية، هي مرحلة تحقيق الحلم، والمرحلة الثالثة، وهي مرحلة انكسار الحلم، ومن ثم حملت كل مرحلة سماتها وعكست حالته النفسية بجلاء مما كان له أكبر الأثر في خروج رباعياته وكأنها لوحة مرسومة لمنظر هو وحده من يراه (17).

وأغلب الظن أن رباعيات الخيام هذه كما يحدثنا أستاذنا الدكتور “جابر عصور”؛ كانت تتردد أصداؤها في بيت “صلاح جاهين” الطفل والفتى الذي سرعان ما شب ليصبح واحدًا من أعظم مبدعي قصيدة العامية المصرية. ولا غرابة والأمر كذلك في أن يميل صلاح جاهين إلى قالب الرباعية، ويحاول استخدامه على نمط قصيدة العامية المصرية ليؤكد الحضور المتميز لهذا القالب الشعري؛ سواءً في لغته التي تتوسط بين العامية والفصحي، أو في صوره الشعرية التي تمضي مع الخيال في كثافة آسرة أو في تأملاته التي تصل ما بين السماء والأرض وتتجول بينهما متبصّرة حضور الكائنات المتحركة، في مدى التأمل أو البصر الذي سرعان ما ينقلب إلى بصيرة (18).

ولذلك يمكن أن نتوقف قليلاً في رباعيات “صلاح جاهين” التي تحمل من معاني التأمل الكثير، حيث تقف مندهشاً ومتسائلاً.. أو يقف هو مندهشاً ومتسائلاً، إنها اللحظة الفلسفية، أو هي شراة الفكر الفلسفي.. فما الفلسفة إلا الاندهاش والسؤال.. في رباعيات جاهين يكمن العمق الفلسفي.. والسؤال الفلسفي ينصب على (هذا) الشيء أو (ذاك) مما يقع أمام بصرنا لا يتجه إلى شيء يقع خارج العالم، أو في عالم آخر وراء التجربة اليومية.. لكنه يسأل عنه بطريقة تمس جذوره وتفتح فيه أعماق الدهشة المتجددة.. وفي رباعيات جاهين نجد هذا الجدل الدائم بين الاندهاش والسؤال.. يقول:

مع أن كل الخلق من أصل طين..

وكلهم بينزلوا مغمضين..

بعد الدقائق والشهور والسنين..

تلاقي ناس أشرار وناس طيبين..

عجبي!! (19).

هنا نجد أن النتيجة مختلفة أو متناقضة مع المقدمة التي بدأ بها الرباعية، وهنا يبدأ السؤال ويقف العقل أمام معضلة، أو إشكالية لا نجد لها إجابة شافية، ويتعرض جاهين لفكرة (الجبر والاختيار) ليضعها في كلمات بسيطة. ويقف العقل أمامها متسائلاً ومندهشا.. يقول جاهين:

عجبي عليك يا زمن..

عجبي عليك يا زمن..

يا أبو البدع يا مبكي عيني دماً..

إزاي أنا اختار لروحي طريق..

وأنا اللي داخل في الحياة مرغما..

عجبي!! (19).

وتزداد لحظة التعجب والاندهاش عند جاهين عندما يتوقف عن الحياة متسائلاً إياها محاولاً فهمها واستخلاص المعني والمغزى من الرحلة.. يقول جاهين:

مرغم عليك يا صبح مغصوب يا ليل..

لادخلتها برجليا ولا كانلى ميل..

شايلنى شيل دخلت أنا في الحياة..

وبكره ح اخرج منها شايلنى شيل..

عجبي!! (20).

ويتضح لنا من الرباعيات أن قضية السؤال والاندهاش قضية محورية في شعره.. إن الفلسفة نامت خلال أبيات الشعر، أو سكنت بيوت الشعر، وأبيات الشعر تدثرت بالفلسفة.. يقول جاهين:

سنوات وفايته عليّا فوج بعد فوج

واحدة خَدِتني إبن والتانية زوج

والتالتة أَب خدتني والرابعة إيه

إيه يعمل إللي بيحْدفُه موج لموج؟

عجبي (21)

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة ألا وهي أن “صلاح جاهين” يكاد، في كثير من الأحيان في رباعياته، يتجاوز ذاته وهو يتقمص تاريخ البشرية، فيعلن – من خلال ذلك – روعة جدل التطور عبر خبرات الأجيال السابقة، حين تتكثف في ذات متفردة لا تدّعى “الواحدية” المختزلة فيما هو “أنا أكون”، وإنما تصبح نموذجا لتاريخ البشرية في اللحظة الراهنة، وهي ممتلئة بكل حركية الوجود متعدد المستويات والوسائل واللغات: يقول جاهين:

أنا شاب لكن عمري ولا ألف عام

وحيد، ولكن بين ضلوعى زحام

خايف ولكن خوفى منى أنا

أخرس، ولكن قلبى مليان كلام

عجبي!! (22)

ليس هذا فقط، بل قد يوهمك “صلاح جاهين” في هذه الرباعيات أنه يروي لك لقاءً عارضًا حدث له ذات ليلة، دلالة متصورة على شخصه، وربما أوحى صلاح لك بأن هذه الدلالة تشمل كل الناس، نطاقها هم البشر وليس غير، وأن لا خوف حيث لا إنسان. ولكن لا، إن الخوف عند صلاح يرتفع إلى مقام التفسير الشامل الكلي للكون كله، بنجومه وأفلاكه وسديمه وأجزم أن الرباعية التالية فريدة في الشعر العربي كله، لا أعرف لها مثيلا في روعتها وشد وقعها في القلب، ولا في رسم صور للكون من خلال رؤية وليدة الزلازل والبراكين التي صَحبَت مخاض النشأة الأولى: يقول جاهين:

“كان فيه زمان سحلية طول فرسخين

كفين عيونها: وخشمها بربخين

ماتت، لكن الرعب لم عمره مات

مع أنه فات بدل التاريخ تاريخين

عجبي!! (23)

وفي النهاية يصل “صلاح جاهين” لكل حكمة الوجود والحياة، ويعرف أن كل شئ باطل، وكله في الفاشوس يقول جاهين:

وكل شئ مالهوش طعم ولا لون ولا حتى ريحة، حتى لو كان الدنيا ربيع

نسمة ربيع لكن بتكوي الوشوش

طيور جميلة بس من غيرعشوش

قلوب بتخنق.. إنما وحدها

هي الحياة كده؟ كلها في الفاشوش

عجبي!! (24)

وأخيرًا يكتب جاهين كل مخاوفه الأرضية والكونية في رباعية واحدة: يقول جاهين:

“لو كان فيه سلام في الأرض وطمان وأمن

لو كان مفيش ولا فقر ولا خوف ولا جبن

لو يملك الإنسان مصير كل شيء

أنا كنت أجيب للدنيا ميت ألف ابن

عجبي!! (25)

خلاصة القول نقول بأن رباعيات “الخيام” و”جاهين” كلاهما ينطلقان من مشكاة واحدة شعارها أن هناك فرق بين السؤال والتساؤل، ليس في ميدان الشعر فحسب، بل في كل الميادين تقريبا، لأن السؤال بصيغه المختلفة: ” من؟، ما؟، ماذا؟، لماذا؟، كيف؟، أين؟، متى؟، وجميع الصيغ القريبة منها، أو المشتقة منها يتعلق باستفهام محدد عن معلومة، أو إجابة، أو تقرير والوقوف عند ذلك، بينما التساؤل يتعلق بموضوع مفتوح، أو بقضية غير منتهية، أو بتناول مشكلة جزئية، أو كلية، بحاجة لمزيد من البحث، والدراسة، والحوار. ولهذا فإن التساؤل يفيد ويثري الميدان الشعري أكثر من السؤال. ويمكن للتساؤل أن ينطلق من نفس صيغة السؤال التقليدية، والصيغ المتعددة للأسئلة يمكنها بدورها أن تمهد لتساؤلات بعدها، ومن ثم تمنحنا تلك التساؤلات تفكيراً فلسفياً بأمل الوصول إلى فكر فلسفي، ومن ثم معرفة ممكنة عن مشكلات فلسفية غير محددة.

 

أ.د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..................

12- حسن يوسف: صلاح جاهين وبئر الكلمات، أدب ونقد، حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي، مج 23 ,ع 251، 2006م، ص 85.

13- المرجع نفسه، ص 84.

14- نبيل بهجت: المرجع نفسه، ص 90.

15- رجاء النقاش: صلاح جاهين الشاعر والإنسان، القاهرة، 1989، ص 13.

16-محمود لطفي بكر: الصور الشعرية في رباعيات صلاح جاهين كمدخل درامي لبناء اللوحة التصويرية، المؤتمر العلمي السنوي – العربي الرابع – الدولي الأول: الاعتماد الأكاديمي لمؤسسات وبرامج التعليم العالي النوعي في مصر والعالم العربي – الواقع والمأمول، جامعة المنصورة كلية التربية النوعية، المجلد الثالث، 2009، ص 182.

17- المرجع نفسه، ص 182.

18- د. جابر عصفور: المرجع نفسه.

19-أنظر رباعيات عمر الخيام، ترجمة أحمد رامي، مرجع سابق، ص 22.

20-المصدر نفسه، ص 45؛ وأنظر أيضاً حسن يوسف: المرجع السابق، ص 91.

21- المصدر نفسه، ص 57؛ وأنظر أيضاً حسن يوسف: المرجع السابق، ص 92.

22- المصدر نفسه، ص 67؛ وأنظر أيضاً حسن يوسف: المرجع السابق، ص 93.

23- المصدر نفسه، ص 69؛ وأنظر أيضاً حسن يوسف: المرجع السابق، ص 94.

24- المصدر نفسه، ص 71؛ أنظر أيضا: مقدمة الكاتب الكبير يحيى حقي لرباعيات الشاعر العظيم صلاح جاهين، المرجع السابق ص 18.

25- المصدر نفسه، ص 79؛ أنظر أيضا: مقدمة الكاتب الكبير يحيى حقي لرباعيات الشاعر العظيم صلاح جاهين، المرجع السابق ص 19.

 

في المثقف اليوم