قراءات نقدية

المصطفى سلام: من فصل بوزفور إلى وصل بورخيس

المصطفى سلاممن خلال عنوان المجموعة القصصية "جبة بورخيس"[1]، يتبين للقارئ الحصيف موقع بورخيس ومكانته في الابداع القصصي العالمي. إنه يمثل نموذجـا في الكتابة القصصية القصيرة، وذلــك لريادتـه وأسلوبه فــي الكتابة والخلق الفني. فمـاذا يمثل الكاتب العالمي لويس بورخيس عند الكاتب المغربي حسن البقالي؟

يمكن الإجابة عــن هذا السؤال مـن خلال رصد مـا يوحي بـه العنوان مـن خلال بعض أهــم مكوناته " الجبة " في مرحلة أولى ثم من خلال نصين: الأول هو "بحال بوزفور"[2] والثاني هو" جبة بورخيس "[3]

تنتسب الجبة لغويا إلـى المادة اللغوية " ج ب ب "[4] أو جب بتضعيف الباء. وهــي توحي بمعاني القطــع مثل: جـب الإسلام مـا قبله. والمحو والاستئصال مثـل: جب الخصية استأصلها ثـم التلقيح مـثل جــب النحلة لقحها....و مثل هذه الدلالات تحضر في مجال الإبداع حيث هناك القطيعة والمحو والتلاقح أو التفاعل أو ما يصطلح عليه بالتناص.

و من معاني هذه المادة أيضا العمق: الجــب أي البئر العميقة. وهذا يبين أن الإبــداع يتسم بالعمق والغور، بمعنى أن سطح النص الأدبي غير عمقه، وحياة النص الفني في عمقه لا في سطحيته أي في إيحائيته لا في تقريريته. وعمق النصوص الأدبية والفنية من عمق التخييل فيها.

كما تأخذ الجبة معنى آخر، يتعلق الأمر بنسق اللباس أو الزي باعتباره نظاما ثقافيا أو سيميولوجيا حافلا بالمعاني والدلالات. إن الجبة عــــلامة وتعبير ثقافي يفيد الانتمـــاء والانتساب والتبعية. ففي نظـام التصوف تمثل الجبـة علامـة لأهل الله والدروشـة. إنها علامة ارتباط وتعالــق بين الشيخ والمريد...

هكـذا تتضح التبعية والتعالق بين كتـاب القصة القصيرة، بين الشيوخ والأتبــاع، فبورخيس من هذا المنظور شيخ له طريقته ومنهجيته في الكتابة القصصية سواء من حيث آليات التخييل القصصي أم الموضوعات التي ينتظم حولها الإبداع القصصي مثل الحلم والمرأة والمتاهة والشبيه والنظير[5]...

و يدرك القارئ لهذه المجموعة القصصية أن المنحى الذي تمثله الكتابة القصصية عند حسن البقالي هو الطريقة البورخيسية، أي أن هناك تماثلا وتمثلا لتجربة بورخيس الإبداعية، ولهذا الاختيار طبعا أسبابه الذاتية والموضوعية.

بعد رصد ما يوحي به العنوان من دلالات تكشف عن نوعية العلاقة الكامنة بين رواد القصة القصيرة وبين الآخذين عنهم والتابعين لهم: أسلوبا وطريقة وبناء. ننتقل إلى النظر في نصين قصصيين تضمنتهما المجموعة القصصية " جبة بورخيس " يستحضر فيهما الكاتب حسن البقالي نموذجين في الكتابة القصصية، فكيف كان تمثيله لهما؟

أولا: نص " بحال بوزفور "

يمثل هذا النص، ومن خلال عنوانه، نصا يوحي بموقف الكاتب من النموذج البوزفوري، أو ما يمكن أن، نصطلح عليه بأفق بوزفور في الكتابة القصصية. إن تجربة الكاتب المغربي أحمد بوزفور في مجال القصة القصيرة تجربة غنية وثرية: ممارسة وإبداعا، نقدا وتنظيرا، متابعة وتأطيرا، إنها إطار نموذجي يصعب تجاوزه أو تكسيره بسهولة. هو نموذج ينزع الاعتراف من القاصي قبل الداني، غير أنه ليس الوحيد عالميا وعربيا. بل هناك نماذج في الكتابة القصصية، غير أنها لم تنل شهرة وسمعة الكاتب أحمد بوزفور، إذ تشهد اللقاءات الإبداعية في ميدان القصة القصيرة حضورا قويا وملفتا لهذه الأيقونة الإبداعية المغربية.

من بين أهم العلامات اللغوية الدالة على مركزية هذا الأفق البوزفوري ومكانته في الإبداع القصصي:

أ- " بحال " من حيث مدلوله في الدارجة المغربية هو أداة تشبيه تعني مثل أو شبه. وهو اسم يربط بين طرفي التشبيه. وبلاغيا أن الأصل والعمدة على المشبه به أي الكاتب المغربي أحمد بوزفور، فإليه يرجع المشبه " السارد في القصة " أو النص القصة من حيث بنيتها وأحداثها وموضوعتها...

بالمشبه به " بوزفور " تتضح معالم المشبه وتكتمل صورته. وبدونه يظل السارد في القصة أو نصه مسخا لا معالم له.

هكذا يصبح بوزفور أصل وعمدة يستند إليه كاتب القصة. بوزفور أب وسلف والسارد تبع وخلف. لا تكتمل هوية التابع وتتبلور تجربته بدون اتباع الأصل. بمعنى مطابقة الأصل ومحاكاته لا مفارقته والخروج عنه.

ب- تنبني قصة " بحال بوزفور " سرديا على تركيب سردي مزدوج، يجمع بين قصتين، قصة كتبها السارد وقصة كتبها أحمد بوزفور. حيث يتذكر السارد حدثين عاشهما رفقة القاص المغربي أحمد بوزفور: لقاءان حول القصة القصيرة شاركا فيهما معا وقرءا قصتيهما. ويحكي السارد ظروف كتابته لقصته قبل اللقاء والإلقاء إذ عثر السارد على قلم رصاص بين عدة الكتابة وشرع في الكتابة غير أنه عند متابعة الكتابة عثر على تغيير وتحوير في قصته / نصه. جاء في النص على لسان السارد:

" كل هذا التحول الذي اعترى أوصال النص ؟ هل كنت مسرنما حين جنحت إلى تدبيج الصيغة الثانية ثم عدت إلى النوم كأن شيئا لم يكن أو أن الامر لا يعدو هلوسة بصرية انتهت إلى إنتاج نص مواز لخلق البلبلة ؟ " [6]

لقد رافق ذلك دهشة وحيرة. وعندما اكتشف أن قلم الرصاص هو من يجري التغيير في بناء القصة ويجعلها شبيهة قصة أحمد بوزفور سلم بالأمر واعتبره "بحال بوزفور ". جاء على لسان السارد:

و حين أتى دوري، كنت ما أزال تحت طائلة دهشة عظيمة لما سمعت.. دهشة ما لبثت أن انتقلت إلى الحاضرين حين بدأت قراءة آخر قصة كتبت......ابتسمت في وجه تساؤلاتهم وقلت: بحال بوزفور. " [7]

بهذه الصورة شخص الكاتب سلطة أحمد بوزفور في الهيمنة على مشاريع كتابة القصة القصيرة عند الكتاب الآخرين من خلال تأسيس نموذج وإطار يصعب تجاوزه أو تكسيره أو لنقل: لقد أسس بوزفور تقليدا في الكتابة القصصية يجب المحافظة عليه واتباع ألفبائياته. فما الذي يؤكد هذه السلطة في النص ؟

يمكن أن نقف عند بعض العلامات النصية الدالة على سيطرة وهيمنة النموذج البوزفوري:

القلم: يحمل القلم دلالات مختلفة تؤثث حقله الدلالي مثل القطع والتشذيب والإضعاف: نقول فلان مقلم الأظافر: أي ضعيف وذليل. ثم القضاء والإبرام، فجف القلم أي قضي الأمر...فما هي المعاني التي يوحي بها توظيف القلم في القصة ؟

- دلالة السلطة: إن القلم أداة الكتابة ورمز العلم والمعرفة ثم كذلك السلطة. وحضور القلم في النص يمثل عاملا مؤثرا في مسار القصة حيث كان عاملا معاكسا للسارد ويعيق بناء قصته بالصورة التي يريد. وتتجلى سلطته في كون السارد وقف عاجزا امام التغيير الذي احدثه في معمارية القصة. وكأن منطوق القصة يفيد: لا قلم يعلو فوق قلم أحمد بوزفور.

- دلالة الإضعاف: لم يكن السارد واعيا بالإضعاف الذي سيحدثه القلم عندما اعتمده وسيلة للكتابة. ولم يكن واعيا بأن رتبته ستكون التالية أو الثانية بينما الأولى فلصاحب القلم أو الأمر. فهذا القلم لا يعترف إلا بما كتبه أحمد بوزفور أو بما كان على شاكلته وتابعا له. إن الإضعاف يأتي من جهة التشذيب والتغيير والمحو والتحوير.على أساس أن النص البوزفوري هو الأصل والسنة والشريعة ولا اجتهاد مع وجود النص كما يقول الفقهاء.

- دلالة الرقابة: إن القلم رقيب على ما يبدع خارج النص البوزفوري، فما وافقه كان مقبولا وما خالفه كان مرفوضا. كما أن هذه الرقابة تأتي من المكانة الاعتبارية لصاحب القلم في المشهد الثقافي المغربي والعربي وفي الأسبقية والأولوية التي حازها عند المؤسسة النقدية والثقافية والأكاديمية المغربية. فلا تأخذ النصوص القصصية الجديدة ولا الحساسيات المغايرة في الإبداع القصصي اعترافا وإقرارا إلا إذا أجازها القلم البوزفوري ومنحها صك البراءة والاختراع.

ثانيا: نص " جبة بورخيس "

تنبني هذه القصة من حيث الحدث على مبدأ التماثل وإعادة حكي سيرة الكاتب الأرجنتيني لويس بورخيس من خلال استحضار مجموعة من الأفكار والوقائع التي وسمت حياة هذا الكاتب مثل اعتماده آلية الحلم وحلم اليقظة والمتاهة والمرآة والنظير أو الشبيه....و هذه الموضوعات حاضرة في الخريطة السردية لنصوص المجموعة ككل.و إذا كان السارد في العرف النقدي هو صوت الكاتب يحمل موقفه ويمرر رؤياه فيما يحكي أو كيف يحكي...فالسارد في هذه القصة يحكي تماثله وقربه من بورخيس أو لنقل توحده معه من خلال مجموعة من المؤشرات التي تكشف عن ذلك مثل:

- الاشتراك في الاسم: بورخيس – بورخيس (السيد بورخيس...السيد بورخيس) ص34.

- الاشتراك في الصفة: أعمى – أعمى (غير المهتمين بشؤون الادب يلقبونني بأعمى الطابق الثالث بعمارة الحبوس)ص 35.

- الاشتراك في امتلاك قطة: كداما – قداما

- الاشتراك في الكتابة: السارد كاتب يقيم بالبيضاء وبورخيس كاتب أيضا...

يكشف هذا التماهي بين السارد في القصة والكاتب العالمي بورخيس عن طبيعة العلاقة بينهما وخصوصية الرؤية الإبداعية وحجم المسافة بين النموذج أو المثال والنسخة. بين السالف والخلف. والذي يؤكد هذا التماهي بين السارد في القصة والكاتب العالمي بورخيس هو الجبة باعتبارها علامة أو رمزا ثقافيا يخص بورخيس من حيث الزي وأو اللباس، فقد انتقلت إلى السارد وغذت لباسا له دون أن تكون أكبر منه أو أصغر، أوسع او أضيق. بل هي أنسب وأوفق. إنها تحمل سر بورخيس الروحي في الكتابة القصصية وقد أدعه عند السارد أو تلقاه عنه اقتباسا واستلهاما. أي أنه استلهم رؤية بورخيس وطريقته في الكتابة وأسلوبه في التعبير.

من الفصل البوزفوري إلى الوصل البورخيسي:

قد يفيد الاشتراك بين بوزفور وبورخيس في الجزء الأول من التسمية: بوز/ بور تقاطعا وتشابها، أو لنقل تقاربا، لكن الاختلاف في الجزء الثاني من التسمية فور / خيس يظهر جليا وواضحا. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل كونهما نموذجين في الكتابة القصصية مختلفين أو لنقل متباعدين من حيث الكتابة والتعبير والرؤية... وهذا يؤكد أيضا حجم المسافة بين بوزفور وبورخيس. وهذا ما نستوضحه في هذه الفقرة على سبيل المقارنة:

1 – بحال بوزفور:

- وجود مسافة بين السارد والكاتب أحمد بوزفور من خلال المسافة التي تؤكدها أداة التشبيه " بحال " بلاغيا ودلاليا.

- القلم: أداة للكتابة والتصحيح والتقويم والإبداع، ومن يملك القلم يملك سلطة التقرير والإجازة ,

- صاحب القلم له شرعية الإقرار والاعتراف بمن حاول الكتابة أو الإبداع وتسميته مبدعا أو تصنيفه قاصا تابعا.

- إرث بوزفور لم يحن الوقت بعد للانتفاع به، حيث لم يتنازل عنه بعد ولم يهبه قط، بل لازال صاحب الامر فيه، فلا يسمح لغيره بأن يستغله أو يستحوذ عليه.

2 – جبة بورخيس:

- غياب مسافة بين السارد والكاتب العالمي لويس بورخيس من خلال آلية المنح أو الاشتراك في مجموعة من الصفات والخصائص.

- الجبة: علامة انتماء وانتساب تكشف عن آلية من آليات التربية والتنشئة الوجدانية والإبداعية: بورخيس شيخ والسارد تلميذ وتابع.

- صاحب الجبة لا سلطة له على طريقته، ومنهجيته في الكتابة والتعبير الفني، بل هي مشاع بين التابعين ومن استهوتهم الطريقة البورخيسية في الكتابة القصصية. منح سره لهم كما يمنح رجل الطريقة الصوفية سره لمريديه.

- إرث بورخيس ليس حكرا على أحد دون أحد، أو تفضيلا لذات دون أخرى. بل هو مشاع بين من استهوتهم طريقته في الكتابة والتعبير دون سلطة او رقابة.

في مجال الإبداع، يمكن أن نتحدث عن أشكال من التبعية لنماذج وطرائق في الكتابة والإبداع، تخييلا وبناء، تصويرا وأسلبة، أو نتحدث عن تجليات التجاوز والتكسير وإبداع طرائق جديدة وخلق حساسيات فنية مغايرة، في مختلف مجالات الإبداع الفني: الشعر، القصة أ المسرح، الرواية...ففي الكتابة القصصية هناك رواد أسسوا تقاليد في الكتابة القصصية أصبحت نموذجا وإطار يحتذى. وهناك كتابات جديدة وأقلام واعدة نهلت من الرواد كما بصمت تجربتها بخصوصيات وسمات فنية ودلالية ورؤيوية. وتجربة الأستاذ حسن البقالي في مجال القصة القصيرة تجربة متحت من التجربة البورخيسية أكثر ما نهلت من غيرها.

 

الدكتور المصطفى سلام

......................

[1] - حسن البقالي: جبة بورخيس. قصص قصيرة. ط1. 2015.

[2] - نفسه: ص 11.

[3] - نفسه: ص 33.

[4] - لسان العرب: مادة ج ب ب.

[5] - محمد العمراني: جسور الحلم في القصة القصيرة بين الكاتب الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس والقاص المغربي حسن البقالي. بيان اليوم 03-12- 2020.

[6] - جبة بورخيس: مرجع مذكور، ص 15.

[7] - نفسه: ص 17.

 

 

في المثقف اليوم