تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

قراءات نقدية

محمد الكرافس: أصوات شعرية من المغرب.. الشاعرة عواطف رامي نموذجا

محمد الكرافسأجدني محتارا وحائرا بين ثنايا الحروف الوارفة، وأنا أقرأ هذا الديوان الشعري الأنيق باكورة الصديقة الشاعرة عواطف رامي، التي أبت إلا أن تخط أحاسيسها شعرا لم تختره ولكنه اختارها رفيقة له بنفحاته التي تنثر خيوطها الفواحة عبر أريج الكلمات، بترانيمها العذبة التي تغري المبهورين بشهد القصيدة و أطيافها، كأن خبايا الشعر  تأبى إلا أن تنكسر على ضفافها الراقدة بين أنامل حالمة.

و هذه من ميزات هذه المجموعة المصقولة بعناية رائقة، إذ ترتحل بنا الشاعرة منذ الوهلة الأولى في سفر مضمخ بقصائد  تجمع بين رغبة أنطلوجية في الاحتفاء بهذا الكائن الإنساني الذي يتلذذ بعذب الكلام ولا يهدأ له بال إلا وهو منغمس بين براثن الشعر، وبين الرسم بالكلمات وتخليد الأنا والسعي لفك عزلة حارقة عن الذات في عوالمها الساحرة، حيث المسافات السحيقة تطوى بين أسطر خطتها الشاعرة على تفاصيل تلملم شذراتها  بين لذة القول و حكمة المعنى.

و من خلال السفر عبر نصوص هذه المجموعة الشعرية، تتنطع كلمات الشاعرة إلى العلن برغبتها الصوفية الدافقة في تعرية بواطن الإنسان لترسم عواطف رامي الشاعرة والإنسانة قصائدها بريشة الحروف المخضبة بانزياحات وتوازيات وتعابير تنفذ إلى بواطن الروح، كأنك وأنت تقرأها تجد نفسك مضطرا لإعادة  رسم الصور الشعرية قراءة وكتابة بمقاربة ستورط القارئ لا محالة في هذه الحضرة الطقوسية الفتية، من أجل فك شفرة نسج لذيذ من غنج الكلمات وحظوة الملفوظات، ككتابة ثانية لنصوصها بعد الإغراء الجلي الذي تبديه  وتجعلك منجذبا ومتورطا في الافتتان بقراءتها.

ولا تقتصر هذه الشاعرة على حصر البؤر الدلالية الثاوية في بطون نصوصها في تنميط معين، بقدر ما تنوع اشتهاءاتها للغة من خلال توظيف معجم مراوغ يتلاعب بك رغم سلاسته، وهذا من نقط قوة الكتابة ''البويطيقية'' عند عواطف رامي. كما نلفي أنها وقد فاضت سريرتها من حلو الكلام و بلاغة المعنى لا تستعجل إنهاء قصائدها بأفق يرزح تحت عصارة ''ميكانيكا''  اللغة التقليدية.

 وفي مقابل ذلك تستنير بأقبية دلالية فسيحة/منفتحة تطوّع  لغة الضاد وتركب صهوتها في تناغم بين التصوير الفني واللغة الشعرية المارقة، مما يجعل هذه  الانزياحات والمراوغات (كما لمسناها تترد في مجموعة من نصوص الديوان) تفتح للقارئ عوالم دهشة وتأويلات منسابة عبر إيقاع منسكب على مشبك الحروف و توازياتها وتجاوراتها.

كل ذلك يجعل الشعر ها هنا يصير بلسما شافيا وعالما متنطعا يخاطب في القارئ عقله بمنطق فلسفي خاص، ويخاطب فيه جوانبه الوجدانية والعاطفية في بعدها الاستطيقي من خلال الصور الشعرية والجمالية السامقة في عنان التخييل، والتي تبدأ من العنوان (قطاف العمر) وكأني بالشاعرة امرأة زاهدة قد خبرت و شبعت ''حياة''، فخلدتها شعرا  بنفحة صوفية ناضجة.

ليس الأمر إذن مجرد قراءة عابرة لديوان شعري بقدر ما هو تورط حقيقي في شرنقة الإبداع الذي تغلفه المبدعة المتميزة عواطف رامي فينبعث من نصوصها عبير نهلها من الانفتاح الباذخ على  التراث الشعري الإسباني والنفحة الشعرية اللاتينية، حيث الصور تندلق عبقة متراصة ومصقولة، تراوح أمداء القصائد ''اللوركية'' و ''النيرودية'' عبر أريج يتدفق بين أناملها عذبا وسلسا بلغة الضاد، فتحضر هذه الروح الخاصة في البنية العميقة لقصائدها، وهي الشاعرة الحالمة بكوكب الشعر لترسو فيه سفينتها بسلام، وكأني بها ترسم لوحة ناضجة لرحلة ساحرة لا تريدها أن تنتهي، فتكتبها شعرا تقارب عبره فلسفة الحياة من زاوية مغايرة هي زاوية المرآة الراصدة لتفاصيل  الحياة برؤية رقيقة وحالمة.

إن هذا الديوان الشعري عبارة عن عصارة صوفية تخلدها المبدعة المتميزة عواطف رامي في نصوصها كتذكار جميل تنثني بين إحداثياته الشاسعة أميال من الجراح المندملة والأحاسيس الفاترة، حيث القصائد تندلق سلسة عذبة فتخلق في نفسك تفاعلا مغريا وتدعوك للإقبال باشتهاء خاص على قراءتها وإعادة ذلك.

هو ذا إذن ديوان  "قطاف العمر" يأتي بهذه الحلة الراقية، كطبق شعري خالص  لإثراء المدونة الشعرية المغربية من قلم نسائي يعد بالتميو ويعتنق مذهب الشعر ويلوذ بأنوائه الحالمة، وهو كذلك حضور رمزي منها ضمن الرأسمال الثقافي القومي، ستوشح به الشاعرة عواطف رامي صدور قرائها وقلوبهم بنياشين الكلمة الحارقة وعبقها، بعدما أطلت عليهم من كوة ناصعة البياض، هي كوة الشعر، ترتسم في شهد الأفق، وتخلق بذلك ألقا جميلا في سماء الشعر  المغربي. إنها تضمخ قصائدها بإكليل الحب الأبدي للكائن الإنساني، في سفر ارتأته  أن يكون عابقا بمحبة الآخر وببوح يلثم بلسم الروح ويطهر الذات من دنس العذابات النفسية الباطنية.

إنها دعوة صريحة لا لبس فيها لسبر أغوار هذه التجربة الشعرية الجميلة للشاعرة  الرقيقة عواطف رامي، باعتبارها شاعرة أتقنت البوح بأسرارها بلغة عذراء ودلالة صوفية وإيحاء رمزي يغلف تجاويف الكلمات بجمالية آسرة. لذلك فقراءة هذا الديوان الأنيق ليست مجرد إطلالة عابرة على عوالم الشاعرة الإبداعية، بل تتعداه إلى النهل من الدهشة المتفردة التي تخلقها بين ثنايا النصوص في رتق جميل وفوران عذب يومض فيه وهج الشعر بشكل ساحر.

 

د. محمد الكرافس

 

في المثقف اليوم