قراءات نقدية

حيدر عبد الرضا: قراءة في أقاصيص (بئر برهوت) لجابر محمد جابر

حيدر عبدالرضابنية أغوار الذات الواصفة وثيمة المفارقة الفنية الدالة

توطئة: يشكل فن القصة القصيرة جدا من الأنواع السردية المحيطة بعناصر ومكونات فن السرديات المختزلة،إذ يحدد هذا الفن السردي من أساس بنية ذروية مكثفة ذات زمن بؤروي مضغوط ومكانا أتفاقيا مشخصا في الحضور أو اللاحضور، في المعنى المضموني الأخير، فيما تلعب الدوال السردية في مبنى ومتن هذا النوع السردي، ذلك المجال المؤسس من جملة أواصر علاماتية للحكي، وهي العلامات الموصولة استنادا للعلائق التوصيلية الخاصة من الشد النصي ـ الذروي ـ نحو قصدية الدال المضمونية في خلاصته المنصوصة في الضربة الختامية من دلالة النص. فمن خلال أقاصيص مجموعة (بئر برهوت) للقاص والشاعر جابر محمد جابر تواجهنا ذات العناصر الخلفية من رؤية القص، إذ تدعمها جملة أسانيد علائقية خاصة من فضاء الحكي المحبوك من أواصر العملية النصية الحاذية والمصاحبة لرؤى وأصوات الفروقات الأداتية في مستوى خصوصية النص القصير جدا. فمن خلال أقاصيص المجموعة الواردة (نجمة / معطف الحقيقة / السهم الطائش / قصص فاضحة / عصافير الزمن) توافينا جملة تراكيب تتسع لذاتها ما بين صوت (شعرية الحكي) ومسافة الثيمة المتعلقة بموضوعة أستجابة رؤية القاص في موضوعة نصه: (تركت معطفها، يتوسد أياما، خشيت من تمرد الذاكرة.. ومشاكسات المطر، إلا أنها، كانت تصر مثل كل مرة، على مقارعة الوجع اللامرئي، هي غالبا ما تترك معطف الحقيقة في غرفتي وتغادر بلا ذنوب. / نص: معطف الحقيقة) أن من غايات العلاقة الدلالية هاهنا في النص، جاءتنا مجالا لكشف المعادلة اللامرئية في مشخصات دال (المعطف) وعلاقته بتفاصيل حياة متلونة في الظرف المكاني والنفساني المنصوص، فالسارد العليم وتغليبا منه على مجال المرئي من عوالم السيدة وحقيقة أهواءها اللامرئية، وجدنا دال (الذاكرة) ودال (المطر) هما بمثابة العنصران التطهريان اللذان من شأنهما كشف المستور والأخذ بالمنسي، لذا جاءت هذه الوحدات النصفية من ذروة الثيمة: (يوم أمس تركتها تداعب أحلامي، تستدرجها إلا أنها أخفقت في كشف كل أوراق اللعبة. / النص: معطف الحقيقة) تتحول فرصة الاستجابة من طرف صاحبة المعطف إلى وضعية ممارسة الغواية بملكات ضمير الأنا الذاتي، وصولا إلى (أكتفت بتلميحات إيروسية أنتزعتها من أحلام سقطت قبل سقوط المطر.) تدور مواصفات هذا المجال من النص داخل لغة سردية ذا تفاصيل موحية وملمحة، تأخذنا في مداها الأقصى نحو محيط نصي يكف على أن يمنح علاماته بالتوازن المقروء، فيما راح يصادر ملامح الزمن النصي عبر مرسلة فواصل القول الشعري ومنتهاهها المتخيل في تمثلاته الدائرة في ثيمة الرؤية. ففي قصة(نجمة) ثمة علاقة تفارقية ما بين الأنا الساردة وحقيقة أخفاقات العامل النصي في تدرجات مرحلة العشق، لذا نجده يتعامل مع الثيمة القصصية بروح المفارقة والدهشة: (و دون إرادة من وجعي أمسكت النجمة متلبسة بالجمال، شكرت القدر، ليس لأنه أنصفني لأول مرة فحسب.. بل لأنه كان عونا لي في تخطي محنة العشق. / نص: نجمة) يتوسل هذا المستوى من النص، بأسلوبية نادرة ومشوقة في تأطير وحدات النص، بما يعلق عليه في واقع الحال من صدفوية واتفاقية وخيبة في الآن نفسه، كذا الحال وجدناه في قصة(السهم الطائش) وقصة (قصص فاضحة) وقصة (عصافير الزمن).

ـ السارد العليم وأقنعة شعرية الصوغ السردي

أستأثرت أقاصيص مجموعة (بئر برهوت) بحالات محتملة من (السرد / الشعر) وعلى هذا الأساس جاءتنا جملة عناصر النصوص مخصوصة في العلاقة المستعارة والدلالات الكنائية المزاحة عن مقاصدها الحضورية توظيفا، وبهذا الأمر وجدنا قصة (لص) وقصة (صبي أسمه نوري) وقصة (خضير أبو الثلج) وقصة (السيفونة) ففي هذه النصوص لاحظنا تلاقح علاقة المفارقة الفنية المشبعة بالإيحاء والقناع المستور خلف مواضع الكشف البسيط عن مواطن الثيمات المتسمة بروح التشكيل الدال والمدلول، ويمكننا أن نستدل على نصوص مجموعة (بئر برهوت) على أنها ملفوظات مخصوصة في اختراق العلاقات اليومية والذاكراتية والحلمية من احياز مستودع الذاكرة الواقعية الخصبة. يمكننا من جهة غاية في الأهمية أيضا رصد أدوار وعوامل الذات الحلمية الساردة في قصة (أنا) وقصة (أنا وشبحي) وقصة (محاولة لسرقة امرأة) وقصص أخرى قصيرة جدا من مختارات المجموعة، ويتعزز تشعير الخطاب السردي في أقاصيص جابر محمد جابر من خلال كثافة الرؤية ومضاعفة التشبيه والاستعارة: (مسكينة تلك الحمامة، من أصاب جناحها وعطلها عن الطيران، من كسر قلبها لتصبح هكذا.. رجاء.. ؟!. / قصة: حمامة) بهذا التشكيل المضارع رأينا أغلب أقاصيص المجموعة، وكأنها معادلات نفسانية معادلة في حدود وظيفة الدال المركز المتمثل بمصير دلالات الأنسان في ظرفه وواقعه وحجم بطش الحكومات فيه،كذلك الحال نعاينه في قصة (الحقيقة) وقصة (نورسة زنجية) وقصة (الشك.. !) إذ من خلال موجهات هذه النصوص نعاين بوحي الحكي في أبعاد ثيماتية، من شأنها تشخيص النسق المضمن بوظائف معادلة، وبوعي جديد راحت تحاور الذاكرة وخراب الأمكنة وفساد الضمير، فيما يلعب متخيل النصوص الجمعي ضمن محفزات ملامسة لوظائف دلالية ثرية وشاهدة على فقدان كينونة الأشياء في حضرة المشروط الواقعي اليومي: (في مطعم الجحيم جاء النادل بلائحة الموت، رماها على طاولتي، وبعد أن تجاوزني مبتسما.. أحتج على بعد خطوات مني، ثم عاد يهمس لي أن أتبعه إلى أين..؟.. لا أدري !. / قصة:مطعم الجحيم) أن بواعث العلاقة الدلالية في هذا النص ـ أنموذجا أعلاه ـ يشكل مساحة مراوغة ضمنية بين أفق انتظار القارىء وصدمة المدلول المسرود الذي أخذ يباغت فعل التلقي نحو أقصى درجات توليد الصورة المضمونية. المفارقة، وهذا الأمر وجدناه غالبا في جميع أقاصيص المجموعة وكأنها أبعاد إيحائية بلغت معها الذات الساردة أجلى تمظهرات الظواهر المضاعفة في بنية أغوار الذات المتلفظة والمخصوصة بعاملية الإثارة والمفاجأة والدهشة الموصولة نحو مسافة الدلالة المفارقة في حصيلة الأدوات الفنية الدالة والمركزة.

 تعليق القراءة:

لعل فاعلية المنجز القصصي القصير جدا في نموذج مجموعة (بئر برهوت) ما يشف عن امتزاج صوتي ما بين السارد العليم والذات الموظفة في هواجس النصوص، لذا فأننا وجدنا وعي المحور الذواتي في زمن النص يتلازم وحدود بؤرة إيحاءات السارد النفسية والحسية والكلامية والحدثية الطافحة ألما، وهذا الأمر بدوره ما جعل جميع نصوص المجموعة ذات ترجيعات متشظية من مسار الأفق الصوري للقاص والسارد معا: (أنتهت الحفلة، تفرق الجمع ذهب كل إلى دمعته، حتى أبي ولج غرفته بأنكسار شديد، ترافقه سيكارته، نصب شراكا عديدة، وفخخ الهواء، عله يقتنص سعادة.. جدران غرفته تضيق تكاد تلتصق ببعض، رأيته بركن قصي داخل سقف ذاكرته ويبتسم ابتسامته الأخيرة. / قصة: آخر حلم) ولعل مثل هذا النوع من التداعيات الواصفة بالمفارقة الفنية المركزة، ما أخذت تنسحب على جميع مؤشرات أقاصيص (جابر محمد جابر) وكأنها عوالم في اللاشعور المفتوح نحو تفاصيل وتراكيب الصور المتشظية من الأبعاد الممكنة والمتواترة من بلاغة استقطاب وقائع الاحوال المحتملة ضمن تنويعات من ملامح وحقيقة الحلم الوصفي المعادل في استحالات الواقع واللاواقع والظاهر والخفي من رؤية هوية الأشياء.

 

حيدر عبد الرضا

 

في المثقف اليوم