قراءات نقدية

سلمى جبران: قراءة تفاعليّة في رواية "رحلة إلى ذات امرأة" للكاتبة صباح بشير

بطلة الرواية حنان تسردُ أحداثَها بضمير الأنا، لغتُها جميلة وجمالها عفويّ ينبع من خلق جوّ يشكّل عامودًا فقريًّا للأحداث بتصوير مقنع يفوق بمشاهِدِه فيلمًا رائقًا يَدمِج بين الواقعيّ والمتخيَّل، فوصفَت الناس الذاهبين إلى أعمالهم ومصالحهم " شعرتُ بنبضِهم ووقعِ خُطاهم على الطريق" ص12.

لغة الرواية لم تختبئ وراء الاستعارات ولم "تحرّر نفسها بالاستعارات"، بل كانت استعاراتُها وكناياتُها تلقائيّة طبيعيّة منسابة. أمّا فصل "نثار الذكريات" فإنّه يلفّ الرواية بشعاع يُغري القارئ بشعور وكأنه يقوم بكتابة الرواية بنفسه.

أرض الرواية ومكانها مدينة القدس وضواحيها، وهذا ليس مؤشِّرًا على الإطلاق بأنّ الرواية سيرة ذاتيّة، بل هو مشهَدٌ صادِقٌ مُبهِر وجريء كتَبَتْهُ من وُلِدَتْ في القدْس وأرادَتْ دفْعَ هذه الأجواء المقدسيّة إلى نصٍّ روائيّ ونشرَها وتَعْليةَ شأنِها. بحثتُ عن سيرة الكاتبة بشير وعَلِمْتُ أنّها عمِلَتْ في الصحافة العالميّة في بريطانيا ودول الخليج وعاشَتْ وتعيش حُرّة طليقة تمارس حُرّيَّتَها بوعْيٍ ونُضْج يليقان بامرأة مثقّفة تعبِّرُ عن فكرِها الحُرّ بجُرأةٍ لافتة.

تركّز الكاتبة على التقاليد الاجتماعيّة بذكاء فائق حين ذكرت المثل الشعبي: "البنت الحرّة مثل الذهب في الصرّة" ص19، وبعدها ذكرَتْ القيود الاجتماعيّة والفروض القاسية المُلقاة على كاهل البنت منذ ولادتِها والتي تمنعُها منَ التفكير، وجعلَت القارئ يستنتج بنفسه ويتساءَل: أين الحريّة؟

أبرزت الرواية أيقونةَ الأمّ في شرقِنا والتي تُستخدمُ أداةً لاضطهاد وإسكات البنت، ص22-23 " كانت أمّي تحتضِنُني في حبس أمومي يسعدني"، "وارتسمَتْ على وجه أمّي علامات القائد الذي لا بدَّ أن يُطاع".

شخصيّة غادة، الأخت المتسلّطة الحسودة، تقرّب السردَ الروائيَّ من الواقع وتُحيلُ مسألة الأخوّة وقرابة الدم إلى أيقونة صدئة. وشخصيّة غادة، أيضًا تمثّل النتائج النفسيّة الكارثيّة على البنت بسبب القيود والفروض المجتمعيّة التي تجعلها جارية يُحسب لها مظهرُها فقط ويعتبرُ الأهل والمجتمَع عامّةً جمال البنت بمظهرِها ويُقيِّمونَها طبقًا لذلك، مع تغييبٍ تام لجمال الروح والنفْس وهذا يمنعُ البنات والشباب من التفكير الحرّ وتَسودُ ثقافةُ القطيع! لم تكن حنان ضحيّة غادة فَحَسْبْ، بل كانت غادة، هي أيضًا، ضحيَّة وهذا أضفى على قضيّة اضطهاد المرأة بُعْدًا مضاعَفًا مثيرًا للتفكير!3344 صباح بشير

تسمية المضطَهٍدين بالغُرَباء كانت تلميحًا ودلالةً أنَّ النصَّ أدبيٌّ وليس سياسيًّا. مشاهد الحقد والعنف والظلم الذي يمارسُهُ "الغرباء"، من ناحية، رسّخَتْ حبَّ الأرض في نفوس الناس ومن الناحية الأخرى لم تتركْ مجالًا ولا حيّزًا لحُرّيّة التفكير الجماعي والفردي على السّواء. إن التداخُلَ بين المشاهد الاجتماعيّة والسياسيّة تِباعًا وأحيانًا في نفس الفصل، زاد الطين بلّة وجعل التقاليد والفروض أقسى وحجّرها في مكانها، فاتّخذت العقليّة الأبويّة وجودَ "الغُرَباء" كذريعة لإبقاء الوضع الظالم للمرأة كما هو. من سُلِبتْ منه الأرض والسيادة عليها تشبَّثَ بالتقاليد والمسَلَّماتِ البالية، بديلًا! 

ص42-43 برزت صورة الأمّ المسيطرة على أولادِها وعلى زوجِها البسيط الهادئ وقليل الحركة، فأعادت إلى ذهني قضيّة "العقليّة المضطهَدة" التي بحثها عالِم التربية باولو فريري وملخَّصُها أنَّ المضطَهَد يمارسُ مع الآخَر، باللاوعي، نفسَ الاضطهاد الذي وَقَعَ عليْهِ ...

بعد انصراف أهل عمر عندما زاروهم لخطبتها، قالت حنان ص44 "نعم انصرفوا، ولكنَّ وجوههم بقيت تلوح أمامي، بثرثرتهم وأفواههم التي أراها تتحرّك، ولكن دونما صوت يُسمع، رأيتُهُم في سقف الغرفة وأنا مستلقية على السرير أحاول يائسةً أن أغمض عينيّ وأخلد للنوم، فأدورُ يمينًا ويسارًا لأجدهم على جدران غرفتي، وجوهًا ثرثارة تلتفّ حولي". هذا المشهد الفائق دراميٌّ "أليچوري" ينبع من عُمْقِ ذات حنان وينفع نصبًا تذكاريًّا للحرّيّة الميّتة.

حنان تكتشف التناقضات الداخليّة عندها، ولكن بعد فوات الأوان وهذا شأن من ينقصه/ا الوعي الذاتي وحرّيّة واستقلاليّة القرار والقدرة على التفكير في كلّ نواحي حياته/ا. والجريمة السياسيّة الأقسى هي إضافة طبقة اسمنتيّة على سطح التقاليد، وتمَّ قبولُها لأنّ الجرائم السياسيّة نفّذها الغُرَباء.

ص51 تحاول الجارة أم إبراهيم التغلّب على عُسْف وعُنْف الجمود العقائدي الاجتماعي ولكنَّها لم تَفْلَح!

لغةُ الرواية حيّة، جمادها ينطق بأبعد من معانيها: "الأماكن أيضًا كالبشر لها أحضانُها التي تهبُنا الكثيرَ من الحميميّة والدفء والحنين، إنّها لغةٌ خاصّة لا يفهمُها إلا القليل". ص58، وبالتضمين، نفهَمُ أنَّ عمر وأمثالَه من الرجال لا يفهمونَ الحميميّة التي تهبُها الأماكن! اقتباس آخَر ص63، "صديقتي ماري تحمل فكرًا واعيًا وعقلًا مستنيرًا" والإيحاء، في الحالتَيْن، واضح! بعيدًا عنِ الحَشْو واحترامًا لذكاءِ القارئ!

إنّ الفروضَ الاجتماعيّة العقائديّة التي تربّتْ عليها حنان ولم تستطِع أن ترفضَها أو تقاومَها تغذّت من اضطهاد الغرباء كحجّة، ولم تستطِع أن ترفضَها! وتقوى أمام طُوفانِها. وهذا الوضعُ جعلَ زوْجَها الجاهل، بدعمِ كلّ مَرافِق بيئتِهِ العائليّة والعقائديّة، يهزمُها وينالُها وينالُ منها، دون ذرّةِ حبٍّ أو عطف تجاهَها. لم يقفْ سلاحُ المعرفة والثقافة أمامَ بُنيان التقاليد والفروض التي بَنَتْها قرون من عدم التفكير! وهذا البُنيان مبني على جبلٍ يدحرجُ حجارتَه ويطلقُ ينابيعَه في كلِّ اتجاه لكي يضربَ المرأة ويجرفَها ولا يبالي بوجودِها، في حين أنّها بحاجة ماسّة لعائلتِها ومجتمعِها! فكيف لنا أن نلومَ الضحيّة التي غَرِقَتْ بهذه الينابيع وفقدَتِ القدرةَ على التنفُّس أمام التقاليد والعادات والفروض والعقائد التي تتربّعُ على عرشِ مجتمعِها!!

تسير الرواية في أربعة مسالك متوازية: حياة المرأة الفرد - حياة العائلة – حياة المجتمع وفروضُهُ – والوضع السياسي الظالِم في البلد. وحياة حنان أيضًا، تحيطها أربع دوائر متفاعلة في هذه المسالك. هذه المسالك الأربعة تشكّل دربًا تسير فيه الرواية ويسير مَعَها القارئ متعرِّفًا على كلِّ محيط هذا الدّرْب!

الموجات الديناميكيّة في الرواية تجعل منها مأساة وملهاة في حركة دائمة دائريّة وخطّيّة متزامنة. هذه اللولبيّة في دوائر انتماء حنان تتدفّق إلى الأمام في المسالك الأربعة المتوازية. والكاتبة صباح بشير نجحت ببثّ ضوء كاشف على داخليّة ذات المرأة الفلسطينيّة رغم الظروف المركّبة التي تعيشها، الذاتيّة والعائليّة والتقاليد والبلد والظلم والاضطهاد الواقع عليه. كلّ هذه المسارات تفاعلَتْ بطبيعيّة انسيابيّة مذهلة. وكانت هذه التفاعلات تتقاطع وتتوازى برقصة غجريّة على الحبْل وتنثرُ سحرَها على اللغة والمشاعر والحميميّة التي تتجلّى في أعماق النفس، والكاتبة جعلَتْ تجلّيَها ظاهرًا ساطعًا كالشمس، دون رتوشٍ ودونَ تقبيحٍ أو تجميل، فكانت نهاية تراجيديّة دراميّة صاخبة التجلّيات، نهاية لا تشبهُ النهاياتِ السعيدةَ ولا تشبهُ النهاياتِ التعيسة وتدعو القارئ/ة إلى غَزْلِ نهايةٍ أخرى ودراما أخرى تغلقُ الدائرة، وحياة أخرى يكمن جمالُها في معاناتِها ويسطعُ "شروقُها" من موتِها!

مباركة لنا ولك يا صباح بشير هذه الرواية وهذه التجلّيات التي تليق بالنفس البشريّة الحرّة.

***

سلمى جبران – كاتبة وناقدة فلسطينية

في المثقف اليوم