قراءات نقدية

جبَّار ماجد البَهادليُّ: تَجلِّياتُ الأُسلُوبيَّةِ القِصَصِيَّةِ وفَنيَّةُ التَّشعِيرِ السَّردِي

جبار ماجد البهادليدِراسةٌ نقديَّةٌ في مَجموعةِ (بِئْرُ بَرَهُوْت) لجَابِر مُحمَّد جَابِر

مَدخلٌ إلى النَّصِّ القَصصِي

إنَّ من يُريد أنْ يُلقي بنفسه في غَياهبِ النَّصِّ القَصصي، مُحاولاً بجديَّةٍ رغبةَ النظرِ الدقيقِ، والمُعاينةَ النقديةَ الكاشفةَ لفكِّ شفراتِ غَيابةِ الجُبِّ العميقةِ السَّوداءِ في (بِئرِ بَرَهُوت)، لمَا غابَ عن نظرة (العَينِ الثَّالثةِ) وَعياً وفَكراً، وخَفِيَ بَصَرَاً ورؤيةً عن أَعيُنِ المُتلقِّي الواعي الحصيفِ فَهماً وإدراكاً من أنساقٍ ومَصادرَ خَفيَّةٍ مُضمِرةٍ، وتَمظهرَاتٍ ثَقافيَّةٍ مُتجلِّيةٍ بَارزةٍ تُهيمنُ على آفاقٍ ومِسَاحاتٍ واسعةٍ من أقانيم الفضاء القَصصي، سيلفتْ نظره ذلكَ العرضُ التركيبيُ الصغيرُ ببنيته اللُّغوية، والمُحتشد نوعاً بسعته الدلالية، والمُتجَلِّي بِأَيقونة عتبتهِ الجزئية (بِئْرِ بَرَهُوت) في قوَّة انتمائه الفرعي، وشدَّةِ تماسكه اللُّغوي المُوضوعي التوحُّدي، ومطابقته (الثِيمِيةِ) لوحدة الكُلِّ الموضوعية. أيْ من بابِ تقديم الجزء الرمزي اللَّافت إضاءةً بِوقَعِهِ الحَدَثِي على ظلال الكلِّ العضوي الشُّمولي. وسَيكتشفُ أيضاً عبر أثير مجسَّاتهِ النصيَّة، ومن خلال نسيجه السَّردي الرُّوحي أنَّ خيوط هذا الكُلِّ الجَمعي، ما هيَ إلَّا موحياتٌ خطابيةٌ نثريةٌ مترابطةُ البُنى لتمظهراتٍ ثقافيةٍ قِصصيةٍ عديدةِ الرؤى، تُمسكُها بِتَحَكُّمٍ واتقانٍ مَكِينٍ تعبيريةٌ فنيَّةٌ لِساردٍ عَلِيمٍ بَأدواته الفنيَّة أحكمَ تَقنيةَ السَّطيرةِ الفكريَّةِ والإبداعية على تلابيب أَذيالِ خُيُوطِ ثَوبِها الواحد،؛ لتكونَ رَافداً فنيَّاً مُغذِّياً لوجهٍ متعدِّدٍ واحدٍ في الشَّكل والمَضمون، وأُسلوبيَّةِ إِيقاعِ الأداء الحَركي (الصوتي والمرئي) .

مَا يُضِيءُ مِن عَتبَاتِ النَّصِّ:

النَّصُّ أيَّاً كان جنسهُ الأدبي شعِريَّاً أم نثريَّاً يُعدُّ خطاباً إبداعياً موجَّهاً، ورسالةً موضوعيةً لوعي القارئ، فهذا النَّصُّ له عتباتهُ الفنيَّةُ واشتراطاتهُ الجماليةُ القارَّةُ التي من خلالها نقرأ عتبات النَّصَّ، ونفهم القصدية الجمالية من وراء تلك العتبات.

جَمالِيَةُ لَوحَةِ الغِلَافِ الأوَّلِ

تِلكَ هيَ إضاءاتُ صُوتِ الحقيقةِ المغيَّبة ِالمنشودة في أُسلوبيَّة الكاتب والقاصِّ جَابِر مُحمَّد جَابِر، وتِلكَ هيَ تباشيرُ صور رؤيته الفكرية والفلسفية المُتوهِّجة فنياً، لرحلته السردية في مجموعته القصيرة جِدَّاً (بِئْرُ بَرَهُوت)، الصادرة بطبعتها الأولى عن دار بعل بدمشق_سوريا عام 2021م، بـ (95) صفحةً من القطع المُتوسِّط. والمُصمَّمة إخراجياً وفنيَّاً بلوحةِ غلافٍ أولي رئيس انتصف إلى نصفين متساويين، فضمَّ النصف السفلي منه عتبةَ النَّصِّ العُنوانيةَ الرئيسةَ مُوسومةً بخطٍّ واضحٍ باسم مؤلِّفها الكاتب، وملونةً بلونٍ أزرق غامق للدلالة على ديمومة الحياة. أمَّا النصف الثَّاني، فقد جاء على شكل لوحةٍ رمزية باللَّون التُّرابي والحِبري الممزوج بالسَّواد لِيدٍ مَمدودةٍ مَفتوحةِ الأصابعِ من باطنِ الكَفِّ، وفي داخلها رَسْمٌ مُصغَّرٌ لِسفينةٍ مُبحرة بشراعٍ تَجري صَوبَ فَنَارٍ ضوئيٍ وُضِعَ على أطراف باطن الكفِّ، وفوق هذا الفَنار تُحلِّقُ في السماء مجموعةٌ من النَّوارسِ الصغيرة. وكأنَّ النَّسقَ الرَّمزي (البَرَهُوتي) المُضمر لِلِسان حال جَابر مُحمَّد جَابر يَنطق بالإغاثة الحاليةِ، فِيستدعِي النَّجدةَ، ويطلب يدَّ الانقاذ الفوري لسفينته التي كادت أنْ تغرقَ جراءَ ذلكَ الواقع البِئري المُظلمِ المُعاش، ودون تحقيقٍ لِحُلمهِ في الوصول إلى ضفاف مرافئ الأمل والسلام. أمَّا لوحةُ الغلافِ الثانيةِ التي جاءت بلونين فقد ضمَّنها الكاتب توصيفاً نقدياً لأراء أربعةٍ من النُقَّاد العراقيين المَحليينَ بهذه المجوعة، فضلاً عن تثبيت عنوان عتبة المجموعة القصصية، واسم مؤلِّفها القاص جَابر مُحمَّد جَابر مَشفوعةً بصورته الشخصية التأمليَّة، فضلاً عن شعار دار بعل للنشر.

جَمالياتُ عَتَباتِ النَّصِّ الفَرعيَّةِ

ومنْ يُجيلُ التأمُّلَ والاستقصاءَ الفكري في جمالية (بِئْرِ بَرَهُوت)، ويجوسُ خلاله ديار تلك العتبة الرئيسة الموازية لمَتنِ النَّصِّ، والكاشفة لأضوائه الداخلية، وأسراره الخفيَّة بشكلٍ مُباشرٍ أو غيرِ مُباشرٍ، سَيقرأُ حَتمَاً ذلكَ الكمُ العَددٍي الهائل من العنواناتِ القِصصية الفرعية المتعدِّدة بموضوعاتها الثَّريَّةِ التي احتوتها المجموعة، والبالغة كمَّاً (سِتَّاً وسِتينَ) قِصةً قَصيرةً جِدَّاً، كلُّ قصةٍ لها وقعُ تَفَرُدِّها الموضوعي الحكائي، وجوِّ سياقها النَّسقي الجمالي والنفسي الدالة على واقعةِ الحَدَث المكانية والزمانبة. فَمِنْ بينَ هذه العنوانات الفرعية المُكتَنَزَة بصياغاتها التعبيرية يبرزُ إلى سطح الأفق القصصي السَّردي واحد وعشرون عنواناً فنيَّاً مائزاً بانزياحاته المخيالية الصورية والجمالية التي تكسرُ توقُّعَ المألوف من المعتاد الاعتباري للواقع السردي، وتُدهشُ واعيةَ المُتلقِّي برمزيتها الانحرافية النسقية الماتعة. في حين في الجانب الآخر الأكثر تُعطيكَ صورُ الخمسِ والأربعينَ من العنوانات الفرعية الأخرى المتبقية انطباعاً قصدياً واضحاً عن دلالاتها التقريرية المباشرةِ المُعبِّرةِ عن الواقع السائد الراهن الذي لا يَحتمل فيه العُنوان وفقَاً لِرؤيةَ القاصِّ ترميزاً فنيَّاً مخياليَّاً بعيداً عن واقعة الحدث الموضوعية. وقد يكون ذلك فِعْلَاً قَصدِيَّاً مُمنهجاً من قبل الكاتب، أو العكس من ذلك الفعل كأنْ تكون فرضته واقعة الأمر، فلم يتمكَّن القاصُّ من أنْ يتجاوزه، فيَبقى العُنوان على هيأة شكله االمباشر كقصَّةِ، (نَجمةٌ، السَّهمُ الطَّائشُ، قِصصٌ فَاضحةٌ..) وغيرها.

وَحِينَ نَستَغورُ بِعُمقٍ بطونَ هذه العنواناتِ، ونستكشفُ تَمثُّلاتِ مُتونِها الرساليةِ، يظهر من خلال هذه النصوص القصيرة أنَّ وعيَ القَاصِ جَابِر مُحمَّد جَابِر ورؤيته الفكريَّة لم تَقِفَا عند حَدٍّ موضوعيٍ مُعيَّنٍ من حدود التعامل مع شخصيات هذه النُّصوصِ وأبطالها الحقيقيين في نقل معاناتهم النفسية وصور همومهم الذاتية التي هيَ معاناته الحقيقية، بل تتنوَّع صور تلك المعاناة والأحداث صُعوداً وهُبوطاً مع مؤشِّرات واقعةِ الحَدثِ، حتَّى تَصلَ ذِروتُها القُصوى في الجانب (الإنساني) الكبير، فتبلغ (25) قِصةً، وبنسبةٍ مئويّةٍ تصل إلى (37%)، ويتداخل الجانب الجمعي مع الجانب الموضوعي (الذاتي)،فيصل فيه القصُّ إلى (17) قِصةً، وبنسبةٍ مئويَّةً بلغت (25%) .ثُمَّ يتبعها الجانب (الاجتماعي) للواقع الحياتي المؤثِّر حتَّى يصل فيه التوظيف القصصي إلى (11) قِصةً، وبنسبةٍ مِئويةٍ تَصل إلى (16%)، ثُمَّ يَظهر بعدَ ذلكَ الجانب (الوطني الآيديولوجي) للواقع السِّياسي، فَيجِسُّه القاصُّ بـ (8) قِصصٍ قَصيرةٍ مُتنوعَةٍ، وبنِسبةٍ مِئويَّةٍ بلغت (12%)، ويختتمُ هذه الجوانب الخمسة بالجانب النسقي (الفكري الجَمالي والرُّوحي) الذي يُضفِي على عناصر هذه المجموعة روحاً فلسفيةً خاصةً به بـ (5) قِصصٍ قَصيرةٍ، وبِنسبةٍ مِئويَّةٍ بَسيطةٍ بلغت (7%) من أصل نسب قصص هذه المجموعة التي تصل (100%) . 

ولَعلَّ هذا الكشف الإحصائي لبنيته السَّردية القصصية يَشي بُوضوحٍ تامٍ بأنَّ الكاتب والقاصَّ الرائي جَابر مُحمَّد جَابر يسعى بمثابرةٍ إبداعيةٍ جَادَّةٍ، وَمَهارةٍ قِصصيةٍ واعيةٍ إلى أنْ يكون خطابه القصصي السَّردي في فنيته التعبيريَّة خِطاباً متوهجَاً جامعاً في وحداته الموضوعية خَمساً من الرؤى العضوية، والأنساق الثقافية المتجدِّدة، فترى المهيمناتِ: (الإنسانيةُ، والذاتيةُ، والاجتماعيةُ، والوطنيةُ، والفكريَّةُ) مُوحَّدةً في مَصفوفةٍ سَرديَّةٍ مَاتعةٍ فيها كما في آليات العمل الرُّوائي السَّردي من المفارقات الحدثية المُدهشة، والتّقاطُعات النفسيَّة المُذهلة الَّتي تُلقي بسحر ظِلالِها الوارف، وتأثيرها النفسي والفكري على عقلية القارئ،فتجذبُهُ إليها من خلال إثراء النَّصِّ القصصي وتدفقه بجماليات تنوِّع الأسلوب اللُّغوي،وتحريكِ صُورهِ السَّاكنةِ، وأَنسنةِ موضوعاتهَ الحياتيةَ الثابتةِ، "كانَ سَهماً طائِشاً، مَعَ هذا أصابَ ظَنِّي، وَجَرَحَ خَاطري، وَأَوجَعَ نَسيانِي، لمْ يَعٌدْ مَرفأُ الصَّبرِ مَلاذِي، أو حَتَّى قَريباً مِنِّي، وَمِياهُ دجلة لا تستطيعُ أنْ تُطفئَ حَرائقَ وِجدَانَي" (السهمُ الطائشُ، ص 9)، فتحريكُ الثابت، وتغيير المتحوِّل سردياً إلى ثابتٍ مُتجدِّدٍ يُعدُّ عناصرَ أسُلوبيَّةً فَنيَّةً حدَاثويةً مهمَّةً في كسر الأنساق الرتيبة التالفة؛ كونها بدائل ثقافيةً تُجدِّدُ في فلسفة الفكر السَّردي القِصصي للكاتب، وتمنحُها رُوحاً جَديدةً تُناسبُ سَيرَ المتغيِّراتِ التحوِّليَّةِ.

إِضَاءاتُ العَتَبَةِ العُنوَانِيَّةِ

مِن عَلاماتَ النَّصَّ الضوئية المهمَّة أيقونته العنوانية الرئيسة التي تُعدُّ (ثُريَّا النَّصِّ) المُوزاي المشعَّةَ بِفنَارها الضوئي اللَّامعَ على النصِّ الإبداعي الرسالي، والتي تكشفُ للمتلقِّي القارئ مغاليقَ مَا اِستحكمَ مِنِ المُبهَمِ النَّصيِّ، وتفتحُ جوانب خفيَّةً من أسرار ذلك العالم النَّصيِّ الفسيحِ، وتَفضَحُ المُغيَّبَ النَّسقي مِنِ المَسكوت عنه قصدياً، سواء أكان شعرياً أم نثرياً؟ وليس شَرطاً أنْ تكون عتبة العنوان الرئيسة لها عَلاقةٌ مباشرةٌ بالنَّصِّ الإبداعي المُرسل؛ وَلكنَّ المُهمَّ في إنتاج هذه العتبة هوَ احتوائها على خُيُوطٍ سِيميولوجيةٍ فنيَّة، وَإشاراتٍ رَمزيةٍ وإيحائيةٍ بَعيدةٍ تَربطُها كُليَّاً بتمظهرات النَّصِّ ومُوحياتهِ السَّرديَّة.

إنَّ الذي يدعونا إلى حقيقة التساؤل في حضرة هذا التشكيل القصصي للعنونة، لِمَ جَابر مُحمَّد جَابر سمَّى مجموعته القصصية بالعنوان المفخَّخ الغريب بسواد جهنميته التاريخية (بِئْرُ بَرَهُوْت)، (البئرُ المعطَّلة) التي ورد ذكرها في (سورة الحجِ)، الآية (45) في القرآن الكريم: ((بئرٌ مُعطلَةٌ وقصرٌ مشيدٌ))، ولمْ يُسمِّها مثلاً على سبيل الجانب الروحي الديني تبركاً باسم (بِئرُ زَمزمَ) الشهير؟ وذلك تماشياً وتفاعلاً وتفاؤلاً مع المأثور القولي التراثي الشهير لعلي بن أبي طالب الذي صدح به مُخْبِراً عنه القول،"خَيرُ بئرٍ في الأرضِ زَمزمُ، وَشَرُّ بِئرٍ في الأرض بَرَهُوت". إذن المقاربة التوصيفية الوظيفية الإخبارية للبِئرينِ تؤكِّد بجلاءٍ لا يَقبلُ الشَّكَّ أنَّ بئر بَرَهُوت مصدر الشرِّ، وبؤرة الخَراب والفساد الدائم بدلاً من دالته الرمزية الخيرية التي هي الماء نعمة الرواء وسرُّ الحياة للإنسان. ويبدو لي كما يَرى روَّاة التاريخ العربي الإسلامي أنَّ (بَرَهُوتَ) اسم لوادٍ بِحَضرموتَ في شرق اليمن له علاقة رمزية بأرواح الكفَّار كما يقال عنه، أي (البِئرُ العَميقةٌ)، أنَّه علامة سوء فارقةٍ.

فمن حيثُ هذا المنتهى السلبي لرمزية البئر البَرَهُوتي أنَّ القاصَّ جَابر مُحمَّد جَابر كان مُصيباً في اختياره لهذه العتبة المُتشظية بدلالاتها المعنوية البعيدة، والتي تشي بأنَّ رمزيةَ (بِئْرِ بَرَهُوت) هي صورة إيحائية مُصغَّرة عن رمزية (العراق) الكبير. فالمعنى الدلالي القريب في هذه الإشكالية التقريبية يؤكِّد بصدقٍ أنَّ العراقَ بلدُ الخيرات، ورمز الحضارات الإنسانية الأصيلة، وموئل أبجدية الحرف العلمية، في حين أنَّ المعنى الخفي البعيدَ له يُشيرُ إلى أنَّه أضحى خطَّاً أحمرَ لمنطقةٍ سوداء، وصار وكراً تسكنها الأفاعي البشرية المعادية من اللُّصوص والمرتزقة الخائنينَ الذي لا يَمُتُّونَ إليه بِصلةِ القرابةِ والنَّسبِ والوطنيةِ والانتماءِ. فحالُ (عِراق اليومِ) حالٌ مظلمٌ أسود كَحالَ (بِئْرِ بَرَهُوت)، ذلك المعادل الموضوعي الذي لا يَسرُّ القريب الداني، ولا البعيد القاصي بدلالة توصيف الرائي جابر لهذه البئر، والذي ينفي علميته به بالقول: "لم أكنْ أعلم أنِّه [أنَّها] بئرُ جَهنمَ، ويُسمِّى [وَتُسمَّى] أحياناً البئرَ السوداءَ، تَسكنُهُ[تَسكنُها] الأفاعي والطيور الغريبة، وعمقهُ[وعُمقَها] (375) قَدَمَاً،معَ هذا ذهبتُ إلى محافظة الحِيرَةِ في اليمن ولا (ما) زلتُ هُناكَ..." (بِئرُ بَرَهُوت، ص76) . فالفراغ النُقَطي الذي تركه القاصُّ بقصته، وبقاؤه بأرض اليمن روحاً يَدُلانِ على أنَّه لم يقف على وجه حقية تلك البئر التي صارت رَمزاً لفوبيا الشرِّ.

وعلى وفق هذا التشكيل الرمزي للعتبة النصية جاء توظيفُ الموضوعاتِ القصصيةِ الأخرى لهذه المجموعة متوازناً في تلك الدفقات السَّردية المتواثبة التي تَتخفَّى وَراءَها شخصية الكاتب (الراوي العليم) الذاتية بتنوِّع ثِيمِ موضوعاتها الإنسانية والاجتماعية، وتجدُّد مواقفها وتقاطعاتها الثقافية وأنساقها الفكرية التي هيَ بالنتيجةِ تُشيرُ إلى أنَّها جَابر مُحمَّد جَابر، وفي حركته الأُسلوبيةِ التَّعبيريَّةِ في الحياة كاتباً أديباً وشاعراً وقاصاً واعداً. وكنت أتمنى على القاصِّ جابر لو اختار قصة (اليدُ الثالثةُ) عنواناً لهذه المجموعة القصصية بدلاً من ظلامية غواية (بِئْرِ بَرَهوت)، لكانَ المعنى اللُّغوي والدلالي والرمزي لجماليات هذه المجموعة أكثر أفقاً واتساعاً وشموليةً في معناها الإبداعي التسريدي القريب والبعيد وفي تجلياته الزمانية والمكانية؛ وذلك لكون (اليَدُ الثالثةُ)، هي الرمز الحقيقي لرؤية الكاتب القاصِّ أو السِّارد، وهي المُعبِّرُ عن الذات الإبداعية في التجربة السردية كـ (العَينِ الثالثةِ) المتأمِّلة المفكِّرةِ البَاصرةِ لبنيةِ النَّصِّ الشِّعريَّة أو السَّرديَّة المُرسَلة إلى أنظار القارئ .

جَماليةُ مقدِّمةِ التصديرِ

من بين الجماليات التي تتزيَّنُ بها عَتَبَاتُ النَّصِّ (الجِينِيتِيَة) المُتعدَّدة جمالياتُ دلالاتِ مُقدِّمِة النصِّ التصديرية التي حجزت لها مكاناً بارزاً في صدارة هذا الكتاب قبل الشروع بقراءة نصوصه السردية المتوالية؛ وذلك لكونها الموجز الحِكَمِي المُصغَّرُ، والمستخلصُ التكثيفيُ التَّركيبيُ النَّحويُّ المُحتشد بطاقاتٍ إيحائيةٍ كبيرةٍ معبِّرةٍ عن رؤية الكاتب وفلسفته الإنسانية والجمالية عن صورة العمل الذي يُقدِّمه إلى نافذة المتلقِّي. حتَّى وإنْ كان حجم التصدير الذي يُقدِّمه كلمةً واحدةً؛ لكنَّها تُعدُّ منجماً سِحريَّاً مُؤثِّراً؛ لِما تحملهُ في طياتها الداخلية من الثراء اللُّغوي والفكري والدلالي شكلاً ومضموناً وعلامةً فَارقةً. فالتصديرُ حِلْيَةٌ جَماليةٌ فكريةٌ عميقةٌ جاذبةٌ لفكر القارئ، والتمكُن من السيطرة على وعيه في فهم وإدراك المغزى الحقيقي للعمل الأدبي والتمثُّل به تعضيداً وإسناداً؛ لترسيخ الحقيقة وإقرارها وفق منظور فنِّي وإنساني يَحظَى بِرضا وتَوافقِ الجَميعِ.

وجَابر مُحمَّد جَابر من أولئك الكُتَّابِ الَّذين يؤمنونَ بفلسفة العمل الفنَّي الأدبي وحكمتهِ التَّصديريَّةِ التي أصبحت أيقونةً فكريَّةً ونافذةً روحيةً مهمَّةً يطلُّ منها الكاتب الواعي على فضاء عالمه النَّصيِّ الرحيبِ، مُستفيداً من أثر جماليات الواقع الحدثي السابق، وتداعيات حكمته الموضوعية، وإسقاطه على إسهامات نصوصه القصصية كمتفاعلٍ نَصيِّ حَقيقيٍ لهُ أثرهُ الإيجابي على المُتلقِّي في التواصل مع بقية أدوات النَّصِّ الأخرى. وهذا ما جَسَّده جَابر في تصدير كتابهِ بمقدِّمةٍ نصيِّةٍ لمجموعته القصصية، جاءَ فيها "حين سأل موظَّف الجمارك (أوسكار وايلد) في واحدةٍ من رحلاته، إنْ كانَ يحمل أمتعةً ثمينةً، لم يتردَّد الكاتب أنْ يُجيبَ... ((عبقريتي)) "، (مُقدِّمة المجموعة، ص5) . فَرَدُّ الكَاتبِ في التعبير عن عبقريته الفكرية جواباً، كان أخطر مما يمتلكه من أمتعةٍ مادية زائلة. فجابر يُؤمنُ أنَّ الفكر الذي يحمله المثَّقف أكثر تأثيراً من أي أمتعةٍ.

ولا ينحصر عمل التصدير على بداية الكتاب أو مقدِّمتهِ للمجموعة القِصصية، فقد يكون مقدِّمةً لعنوانِ قصةٍ فرعيةٍ ضمن محتويات المجموعة القصصية نفسها؛ وذلكَ بقصدية التأكيد والتعضيد لموضوعية النصِّ الفكرية، والإيمان بلزوميته الدلالية الاشتراطية الفاعلة، وكما فعل القاص جَابر مُحمَّد جَابر في قصته (الرايةُ الخضراءُ) عند ما نقل لنا قولاً فلسفياً لبلزاك جاء فيه "كلَّما ازدداد حُبُنا، تضاعف خَوفُنا من الإساءة لمنْ نحبُّ..."، (الرايةُ الخضراءُ، ص 23) .

جَماليَةُ الوَمضَةِ (تَشحِينُ القِصصِ)

2811 بئر برهوتالفنُّ القصصي أسلوب كتابيٌّ فنيٌّ رفيعٌ يخضعُ فيه التعبير القِصصي إلى أحكامٍ وقواعد وآلياتٍ فنيَّةٍ وجماليةٍ معيَّنةٍ قارّةٍ تعتمد فيه لُغة الكاتب التعبيرية السَّردية للقصِّ الحكائي على قوِّةٍ مِهمازيَّةِ الإِدهاشِ والذُّهولِ، والسرعةِ في كسر توقُّع جدار المألوف السياقي الاعتباري الصوري، وتحطيم عُرى صورته الكليَّة من خلال عنصر الانزياح الجمالي المكثَّف بصور المباغتة الفجائية في فاعلية توقُع الضربات الضوئية التي تظهرها براعة القاصُّ التَّوهجية، ومهارته الإبداعية في خواتيم قصصه على شكلِ مُفارقاتٍ فنيَّةٍ جميلةٍ المقصد، وتَقاطعَاتٍ إمتاعيةٍ مُغايرةٍ للواقع الموضوعي الزمكاني؛ كونها تتَّخذ من تَقنيَّة (الومضة) شِحناتٍ فكريةً إيحائيةً مُكتنزةً بِطاقاتٍ إيجابيةٍ كبيرةٍ، فيها من سعةِ التمكن ِوالدلالة القريبة والبعيدة ما يُغني النَّصَّ القِصصي قوَّةً وثراءً، ويمنحهُ نَسغاً رُوحياً جديداً من فيوضاتِ الوعي الفكري والجمالي التحديثي الجديد.

فالقاصُّ جَابر مُحمَّد جَابر لم ينسَ _تقنيَّاً_ قواعدَ الفنِّ القِصصي وشرائطَ ضوابطهِ وَآلياتهِ الفنيًّةَ والجماليَّةِ القارَّة التي تُميِّزهُ عن نظائرهِ من الفُنُونِ الأدبيَّة الأُخرى. فهوَ على الرغم من ذلك الفهم المعرفي الواعي، يُراوحُ أسلوبياً في تعبيره الفنِّي القِصصي بين تَشخيصِ صُورةِ الواقع الحالي المعاش، والواقع التخييلي الافتراضي البعيد الذي يَحدُثُ ولا يَحدُثُ، وتحويلُ محمولاتهِ الفكريَّةِ إِلى واقعٍ جماليٍ. الواقع الذي ينتجَ عن تلك المُراوحةِ الفنيَّة فيما سيكونُ في علاقاتهِ الحاليَّةِ مُعادلاً موضوعياً لأُسلوبيته القِصصية التي تمزج بين الذات الأنويَّةِ المُرمَّزةِ، والذات الرمزيَّةِ الجمعيةِ التي يَفرضُها الوازعُ الوَطني والآيديولوجي في مواجهة الواقع. وقد انعكست تأثيراتُ ذلكَ المُهيمنُ الأُسلوبيُّ على وقعِ شَخصيات أبطال قِصصه التي تترآى صورها الحقيقية، سواءٌ أكانت هذه الشخصيات رجالاً أمْ نساءً في حالة صراعٍ مُستمرٍ مع من يُنشدُ القوَّة اِنتصاراً، ويَمقتُ الاِنكسارَ هَزيمةً وَضُعفَاً، ومعَ من يبحث عن الحقيقة الواقعة حياةً، أو يَجِدُ فِي الوَهمِ البصَرِي مَلاذَاً حَياتِيَّاً آمنَاً.

لقد تَتبَعتُ أُسلوبياً بخُطواتٍ وَئِيدةٍ قراءةَ قِصصِ جَابر مُحمَّد جَابر قِصَةً قِصَةً في مدونتهِ السَّرديةِ هذهِ (بِئْرِ بَرَهُوت) للكشف عن القصص التي تَضمنتْ بنيتُها التعبيريَّةُ الفنيَّةُ جَمالياتٍ قِصَصِيةَ (الوَمْضَةِ)، فَتبيَّنَ أنَّ الكاتب كان جادَّاً مثابراً في السعي إلى توظيف الكثير من قِصصهِ بِهذه التقنيَّة الجمالية الإبداعية، والَّتي لا يُلقَّاها أيُّ أديبٍ كان إلَّا من أتقنَ سِرَّ جمالها، وَسِحرِ قوةِ تَأثيرها النَّفسي على المتلقِّي، "كُنتُ أَعتقدُ أَنَّ كُلَّ زُملائِي المُوتى يَتَبادلونَ الأملَ، حَتَّى جاءَ يَومُ الحِسابِ،لِأَجدَ أنَّ الزُّملاءَ سَبقونِي إِلى الجَحِيمِ"، (مَعاً إِلى الجحيمِ، ص 73) . فَجمعتْ وَمْضتُهُ بَينَ تَضاديةِ الأَملِ والأَلَمِ.

وتبيَّنَ أيضاً أنَّ جَابراً لم في مدونتهِ البّرهوتيةِ لمْ يَنزاحْ في اِنحرافهِ القِصصي إلى تَوظيفِ جَمالياتِ هذهِ التَّقنيَّةِ الفنيَّةِ، خَاصيَّة (الومضة) إلَّا في (30) قِصةً، وبنسبةٍ مِئويةٍ بَلغتْ أعلاها (45%)، أي أقلَّ مِن نصفِ العَدَدِ الكُلِّي للمدونةِ البالغِ (66) قِصةً. أمَّا المُتَبَقِي الآخرُ من نصوص هذه المجموعة، أي الـ (36) قِصةً، فيكادُ يكونُ جميعُهُ قَصَّاً حِكائياً مُوضوعياً متراتباً خالياً من خاصيةِ مُفارقةِ المُؤثَّراتِ الوَمضيةِ،إِلَّا أنَّ تأثيراتِ لُغةِ الكَاتبِ الشِّعريةِ تُغَطِّي على سِحرِ أُسلوبيتِهِ الوَمضيةِ في فِنيَّةِ التَّقصيصِ، "اِنعطفتُ يَمِينَاً فَإذَا بِهِ أَمامَ ضَريحِ سَيِّدنَا عبدِ القَادرِ الكَيلانِي صَرَخَ مِن أَعماقِهِ: أَنتَ مُنْقِذي .. خَلِّصنِي مِن شُربِ المُخدِّرَاتِ سَيَّدي أبَا الفَضْلِ.. يَا مُولَاي العَبَّاس بِن أَبِي طَالِب..."، (شارعُ الحقيقةِ، ص55) . فلولا المقاربة الجمالية الفنيَّة بين الرمزينِ الدِّينييْنِ المُخلِّصَيْنِ،لِمِا كانِ لهذهِ التقنيَّة التَّوهجيةِ مِن تَأثيرٍ وَإمتاعٍ على نَفسيةِ المُتَلقِّي.

وَفي البَنيةِ السَّرديَّة للـ (أَنَاوَاتِ) الأَربعةِ: قِصةُ (أَنا) التي يتماهَى فيها الكاتب مع ذاتهِ الأَنَويَةِ، وَ (أَنَا وَعَلاءُ عَاشُور) الَّتي يَتحاورُ فِيها مع صديقة الأنا الآخر للبحثِ عن الحقيقةِ،و (أَنَا وَشَبَحِي) الَّتي يَتقاربُ فيها مَعَ ظلِّ طُفولتهِ، و (أَنَا وَهِيَ) الَّتي كانتِ مُقاربةً جَماليةً معَ الذاتِ الأُنثويةِ الأَنتيةِ، لم نرَ تَمظهراتِ خَاصيَّةِ (الوَمضةِ) في هذه الأناواتِ شَاخِصةً في التَّوظيفِ القِصصي إِلَّا في قِصةِ (أَنَا وَهِيَ) التي يَثبتُ فيها نزاهتهُ الذاتيةَ أمامَ شُبهاتِها الأُنثويةِ الأُخرى، "أنا رجلٌ بعيدٌ عن الشُبهات، تَتهمُنِي هيَ بالتفريط بجمالها، أو عنوستها أو مفاتنها...أنا لم أحافظ على نزاهتي في رسم خطواتها، هَيَ تَقولُ ذلكَ..."، (أَنَا وَهِيَ، ص 68) . فَسِحْرُ الوَمضةِ وخَاصيةُ تَأثيرِ المفارقةِ السَّرديَّةِ في هذه القِصَّةِ القَصيرةِ جِدَّاً جاء بإيقاعٍ عَفوي بَسيطِ من غيرِ تكلُّفٍ أو عُسرٍ أو صعوبةٍ، بل بانسيابية سلسةٍ حملت نَفسهَا بِنفسِهَا.

تَشْعِيرُ لُغةِ القَصِّ

اللُّغةُ بِمفهومها الدِّلالي الخاصِّ سَواءٌ أكانتْ شِعريةً أمْ نثرية؟ تُعدُّ من (أَخطَرِ النِّعمِ) اللِّسانية الأُسلوبيَّة التي يتلبَّسُ فيها الكاتب، وبتأثيرِ أدواتِ مَحمولاتِها الفَكريَّة دونَ أنْ يشعرَ بنتائجَ مُخرجاتِها النهائيةِ إِلَّا بَعدَ اِكتمالِ الصُورةِ الكُليَّة الخارجيةِ لِواقعةِ الحَدثِ. وأنَّ من أسبابِ نَجَاحِ الكَاتبِ وتميِّزهِ الفَنِّي والجَمالي امتلاكهُ لأدواتِ لُغتِهِ الشعِّريَّةِ أَو السَّرديَّةِ وَالتَّحَكُّم بسياقاتِ أَنساقِها الفَكريَّةِ والثقافيةِ والبلاغيةِ والجَماليةِ الَّتي يُوظّفُهَا في الأشكالِ الشَّعريةِ وَالأجناسِ وَالفنونِ الأَدبيةِ المُتعدِّدةِ التي يخرج من عَباءَتِها الفَنُّ القِصصي فَنَّاً سَردياَّ قَائِمَاً بِذاتهِ المَفصليَّة الجَمَالية.

ومثل هذه المقدِّمةِ في مَاهيةِ التَّمايزِ اللُّغوي تُحيلُنَا إِلى نُقطةٍ ضَوئيَّةٍ فَارِقةِ الإضاءةِ مِنْ أنَّ الكاتب جَابر مُحمَّد جَابر لم يكنْ قاصَّاً سَردياً فَحسب، بل كان في الأساسِ شَاعِراً، وأَنَّ جُذورَ بداياتهِ الإِبداعيَّةِ تَخبرُنَا أنَّها كَانَت شِعريَّةً مَحْضَةً، إِلَّا أنَّه في مَراحلِ كتاباتهَ المُتأخرةِ مَالَ مُنزَاحَاً إِلى لُغةِ التَّسريدِ النثري، فَاِنْكَبَّ عَلَى كَتابةِ جِنسينِ منهُ (القِصةِ والرِّوايَةِ) بَاحثاً عن ضِلال رُؤى ذِاتهِ السَّرديَة المَكبوتَةِ بِلغةٍ شِعْرِيةٍ مُكتنَزةٍ وَهَاجةٍ مُوَقَّعَةٍ مَحبوكةٍ. وبِهذا التَّمازجِ التَّجنيسِي اللَّوني تَمَكَّن مِن الَّتوفيقِ في تَوحيدِ لُغةِ السَّرد وَتَشعيرِها بِلُغةٍ الشِّعْرِ، فكانَ النَّصُّ القِصصي لِجَابر مُحمَّد جَابر مَزِيجَاً خَاصَّاً مِنْ لُغةٍ النَّثرٍ والشعر. وكانتء الصُورة البَصريةُ المَرئيةُ مُعَبَّأةً بِشحناتٍ إَيقاعَيةٍ أُسلوبيَّةٍ توهجية شائقةٍ تبعثُ روحَ التواصل مع وحدات قصصةِ، "حِينَ كُنتُ صَغيراً أتَجوَّلُ فِي بَساتين ِقلقِي، أَحتَمِي بِوَحَلِ الأشجار، وأسبحُ في نهر الحقيقة... أَتسلَقُ النَّخيلَ كأيِّ (طَوَّاشٍ) مَاهرٍ، وفي اللّيلِ أَجلسُ قُربَ التُّرَعِ أسمع (المِحِمِّدّاوي) ...فَمِي اِمتلأ بِصوت طفولتي،أخشىَ أنْ يَخنقُنِي وَيَترِكنِي ضَائعاً في فِردوَسٍ لم يخلفْ أَحدٌ أثره قطٌّ، هل ضِعتُ أَنَا، حَاوَلتْ أَنْ أَطبقَ فَمِي بِشَدَّةٍ...فشلتٍ، (أَنَا وَشَبَحَي، ص29) .

فلنتأمَّلَ في قِراءَتِنَا لهذَا النَّصِّ جَمَال أفعال المُشاركةِ الزَمَانيةِ الخَمسةِ، نَحوَ (أتّجوَّلُ، وأحتَمِي، وَأَسبَحُ، وَأجْلِسُ، وأَسمَعٌ)، كيفَ تَمَكْنَتْ بِحركتِها الدَلِاليَّة لبَعِدة المؤَثِّرة، وَبِسِحرِ تَأثيرِهَا التَّوَهٌجي الاِنزَيَاحي الصُوري والجَمَالي من تَشعيرِ لُغًةَ السَّرد الحكائي وأعطائها دفقاً شعريَّاً مُعبَّاً بصور الخيال المستمدُّ من الواقع المرئي البصري للحدث الزمكاني.

لقد أخذتْ لُغةِ تَشعيرِ القَصِّ عِنَد جَابِر مُحمَّد جَابر مِساحةً فنيَّةً مُهمَّةً مَن تَعبيرِهُ السَّردي، مِساحةً انزياحيةً عَريضَةَ شديدةَ الأَثَر والتَّأثر لَا بَأس بِها إذا ما قُورنَتْ مع كُتَّابِ الِقصة وِأُدبائِها فِي الوَطنِ الكَبيرِ بِسببِ تَأثيرِ نَزعَةً مَلَكَةَ الشَّاعريةِ والموهبة الفطرية التي تَتَملَّك ذَاتَهُ النفسية الشعوريةِ وتُسيطرُ عَلَيَها وَاقعَاً حُضوريَّاً. حَتِّى بَلَغتْ ذَروتِها العُلْيَّا فِي طَيَّاتٍ’ هذه المصفوفةِ (25) قِصةً، وِبنسبةِ مِئويةٍ بَلَغت أكثر من (37%) من أصل (66) قصةً المجموع الكُلِّي لهذه المجموعة.

وهَذَا دَليلٌ عَلَى شِعْريتهِ النّثرية التي ألقتْ بِركابٍ خَيلِهَا الأُسلوبي الجامحِ فِي مَيدَان إنتاجهِ القِصصي السَّردي، وربَّما الرُّوائي على شكلٍ أوسع من ذلك الفنِّ الجمالي، حتِّى صارت لغتةُ تَعبئةِ االسَّردَ بِمخيالِ الشَّعر عِنَد جَابر مَيزةً من ميزاتِ لغته الأُسلوبية الشَّائقةِ، وتَمَظَهُراً من تَمظهراتٍ مُعجمِه القِصصي السَّردي، وهذَا يَشي بأنَّ جَابراً سَاردٌ بروحِ شَاعرٍ، وشَاعرٌ شَفيفٌ بِقَلْبِ سَارِدٍ مَكينٍ من أدوات لغتهِ الَّتي تَقُول: "فِي لَيْلَةٍ مَاطِرَةٍ، كَانَ قَلبِي قد فرَّ خارجَ الخدمةِ، ورُوحِي تَنتقلُ في غيمةٍ عَاطفيةٍ إِلى أُخرى، وَقَفَتَ خَلفَ شبَّاكِ جَسَدي، وَأَنا علَى حَافَةٍ البّكاءِ، أَتَرَقَبُ عَصَافِير الزَّمِن التَي خَرجَتْ من عُنُقُ... الظَلامِ، ومَضتْ الدّقًائِق بِطيئَةً كُسلحفَاةٍ، ثُمَّ فَجأةً لاَذتْ بِأشِجِارِ الحُزنِ،لِتحوِّلَ جسدي إلى كتلةٍ من الجمر المتَّقدِ، وَتشَقَّ هَالةَ الضِيَاءِ مِن حَوْلَها..."، (عصافيرُ الزمن، ص11) .نصٌّ مَملوءٌ بِصورِ مَخياليةِ ومَجازيةٍ عَابِرَةٍ لِحدودِ السرد.

هَكذا يَبدو لَنا صَوتُ جَابر مُحمَّد جَابر فِي لغةِ (عَصافيرِ الزَّمنِ)، فَهو في تَأثيثهَ القِصصي يُؤَنْسِنُ صُورَ أَعضائهِ الجسديةِ النِابضةِ، يَهِبُهَا جَمالياً رُوحَاً حركيةً دراميةً جديدةً في ثقافة الصوتِ والصورةِ البَصريةِ والأَداءِ القَصَصِي. فَكلُّ نَصٍّ من نصوص هذه المجموعةِ يَحكي بِلغتهَ الدِّلاليةِ المُحَبَّبَة قِصةً مِنْ أَدِيْم الحياة، وكلُّ قِصةٍ بِكِاملِ رُمُوزها وَأَبْطالِها وشُخوصُها هِي فِي ضرُورةِ المُعِاينةَ والكَشفِ والتَّشفيرِ اللُّغويِّ الرَمْزِي للنَّصِّ تَمَثِّل جَابِراً بِكلِّ تجربتهِ القِصصيةِ المُتَوَهِجَة.

تَدوينُ النَّصِّ وأَرخَنَتهُ قَصَصِيَّاً

إنَّ الكتابةَ القِصصيةِ بِحدِّ ذَاتها تُعدُّ حَقلاً اشتغالياً مَعرفِيَّاً فَنيَّاً قَائِماً بِنَفسهِ، وهيَ قَبلَ كُلِّ شِيءٍ وعيٌّ ثقافيٌّ قصديٌّ قَبلَ أنْ تكونَ فِطْرةً إنسانيةً سَليمةً. وَمَنْ يقرأُ مُدونةَ جَابر مُحمَّد جَابر القِصصية هذهِ قِراءةً نِسقيَّةً كاشِفَةً لِمستوياتِ بِنيَةِ النَّصِّ السَّرديَّةِ، سَيقفُ عِندَ ثَلاثةَ نُصوصٍ من نصوصها المَحلية المَكانيةِ التَّوثيقيَةِ الحَديثةِ، فَتبدو مُتجليَةً فِي قِصةِ (خُضيرُ أَبو الثلجِ)، و (السِّيفونَةُ)، وَ (القِطُّ عَنْتَرُ وَقِصةُ الزَّرايرِ) . وَسَيقرأ بِنفسهَ لُغة الحَيَاةِ اليَوميةِ، لُغةَ التَّفاصيلِ الَّتي تُؤرخِنُ لِحياةٍ أُناسٍ مَدينَةٍ جَنوبيَةٍ سَومريَّةٍ عاشَ فِيهَا الكَاتِب رَدْحَاً طَوِيْلاً مِن حَياتهِ، وَانبثقتْ مِنها جُلُّ ذِكرياتِهَ الثَّقافيّةِ بِمُختلفِ صُورِها الإنسانيةِ العِديدةِ. حِتَّى غَدَتْ رَمْزاً مِن رُمُوزِ مُثاقفاتهِ الفِكريَّةِ الَّتي لَا مَنَاصّ مِنْ تَوظيفِ حِكاياتِها القِصصيَّةِ ذَاتَ التّأثيرِ الإنسانيِ وَالمَغزى الفَلسفِي لِجمالياتِ مَدينةٍ نَابضَةٍ بِالحياةِ تَجمعَ بين العمل الإنساني مَنهجًاً وطَريقاً حَضاريَّاً قَائماً، وبين العلمِ سُلُوكاً مًعرفيَّاً تَستقيمُ به جوانبُ الحَياةِ وَتزدهرُ تَقَدُّماً وَمَكانَةً.

فَطَالَمَا القَاصُّ جَابر ابنُ مَدينةِ العِمَارةِ، وَابنُ بِيْئَتَها الجَنوبيةِ المُتأصِّلةِ، فَلا بُدَّ أنْ تَنْعَكسَ مِرآةُ ظِلالِهَا الحقيقيةِ علَى خطٍّ تَجربتهِ الإبداعيةَ السَّرديَّة، فَتَأتي ثِمارُها عَفويةً مُنسابَةً تَجرُّ أَذيَالَهَا بَكلِّ فَخْرٍ وَتَواضعٍ وَانصياعٍ دُونَ أنْ يَحمِلَهَا قسراً عَلَى سَير ِتجَربتهِ، بَل هيَ الَّتي تَحملُهُ علَى تَدوينَهَا، وَتوثيقِ مَعالِمِها الإنسانيةِ بِهذا الحَسِّ التَّوثيقي البَسيط. "كانَ الفتى خضيرُ طَالبُ الفَلسفةِ يَبيعُ الثَّلجَ عَلَى رَصِيفِ شَارِعَنَا في مَحلةَ الصَّابونجيةِ، بَمدينةِ العُمَارَةِ، مُعظمٌ أهلِ المَدينةِ يَعرفونهُ وَيُلقبونَهُ خُضيرَ وُجوديةَ، لَيسَ لِأنَّهُ كانَ يُحاولُ أنْ يتفَلسَفَ في حديثهِ، بلْ لِأَنَّهُ كَانَ يُجاهِرُ بُوجوديتِهِ، وَيُرِّوجُ لِكُتُبٍ اشهرتْ وَقتَهَا..."، (خضير أبو الثلج، ص15) . وثيمة هذه القصة تكشف أنَّ بطلهَا فَتىً يَبيعُ الثَّلجَ، وهوَ بِنفسِ الوَقتِ طالبُ علمٍ فلسفي، ولكنَّ الأبعدَ رُؤيةً وَجَمالاً في الجَمع ِالعِلمي العَمَلي،أنَّ هذا البطلَ يَدَّعي الوُجوديةَ الإِلحاديةَ السَّارتريِّة، أو يُروِّجُ لكُتبٍ دُعاتها من الفَلاسفةِ الآخرينَ مِما يُعطيكَ إيحَاءً أنَّ أبطالَ قِصصهِ مِن فِئاتٍ ثَقافيَّةٍ مُتنوِّعةٍ، وَليسَ مِن نَمَطٍ واحدٍ.

فَجَابر مُحمَّد جَابر على الرغم من اختزانَ ذاكرتهَ المعرفيةَ بِيوميات مَدينتهِ العُمَارة؛ كونها المنبتَ الأرضيَ الَّذي يَنتَمِي إليهِ كَوناً وَوَجوداً، إلَّا أنَّهُ لِم يَنسْ أو يَتجاهل الجانبَ المُشرِقَ من حياتهَ البَغداديةِ الدَائمةِ والضَّاجَّةِ بِفضاءاتِ السَّردِ وقصصها التداولية اليومية التي تَفرضُ نفسَها عَلى وَاقعةِ الحَدثِ، وتُلقي بظلالها على تدوينِ المَشْهدِ الحَرَكِي لِيومياتِ النَّاس وأرخنته فنيَّاً وموضوعياً وجمالياً؛ ليكونَ صورةً أيقونيةً نِاضجةً من صُورِ الواقعِ الوصفيِ السَّائد الَّذي تُتَرجمُهُ رُؤيةُ الكاتبِ من خِلالِ تجربتهِ الذَّاتيةِ،وعبر مجسَّاتِ خُيُوطٍ نَسيجَ قِصصهِ الحِكائية الرَمزيةِ المُتواشجةِ فِي إِنتاج تَركيبِها الدَّلَالي.

وَهذَا التمايزُ التَّدوينِي تَلوحُ أُفقهُ بقوله: "في البابِ الشَّرقِي، كَانَ الفَتى القُرويُّ يُمسِكُ حُزمةً من الزرازيرِ، يَنتظُر زُبُونَاً؛ لِيشتريهَا، ثُّمَّ يُطلقُ سَراحهَا، وَيَشعرُ بِالسعادةَ، بَعدَ أنْ يُشاهدُهَا تُحَلٍّقُ بِحَريَّةً فِي الفَضاءِ، كُنتُ أُراقبُهُ كُلَّ يَومٍ.."، (القطُّ عَنترُ وَقصةُ الزَرازيزِ، ص 78) . فهذه القصةُ على الرغم مما فيها من شحناتٍ إنسانيةٍ واجتماعيةِ وَاقعيةِ بَحتةٍ، غير أنَّها في سياقِها الرَّمزي النَّسقِي الخَفِي تسَخرُ من الواقعِ الرَّاهنِ، وتُدينُ سلبياتِهِ المُجتمعيةِ المُترهِلَةِ الَّتي بَدأت تَظهرُ وَاضحةً على فئةٍ من أصحابِ رُؤُوسِ الأَموال والمُتنفذينَ الذينَ ظَهروا بَعدَ التَّغييرِ السِّياسيِ لِلبلدِ. حَتَّى لِتستهجنَ فِعلَهُم الغَريبَ الشَّائنَ من البَذخِ والثَراءِ والبَطرِ، والَذي تمثَّل في أخذ حُزمةٍ مِنِ الزَّرازيرِ وَشِرائهِ بِالعملةِ الصَعبةِ، وجعلهَا وَجبةَ طَعامٍ شَهِيةٍ لِلقطِّ المُسمَّى (عَنترُ)، في الوقتِ نِفسهِ لمْ تِجِدْ أطياَفاً كَثِيرةً مِن فُقَراء الشَّعبِ وَعامَّتهِ طَعامَاً تَسدُّ بِها رَمقَ مَخمصةِ جُوعِها اليومي، الأمرُ الَّذي لَم يَألفهُ الشّعبُ العِراقيُ مِن ذِي قَبلِ. فَأيُّ مُفارقَةٍ قِصصيةٍ وَاقِعيةٍ مُذهلةٍ تَلكَ الَّتي تُجَسِّدُهَاعَدسةُ (العَينِ الثَّالثةِ) لِجَابِر مُحمَّد جَابر، وهوَ يَرصدُ لَنَا بِوعِيٍ المُفَكِّرِ المُتأمِّل نَماذجَ حَيَّةً مِنْ تِلكَ الحَيَاةِ الجَديدةِ لِلعِرَاق بَعدَ التَّغييرِ.

 

د. جبَّار مَاجد البَهادليُّ

 

 

في المثقف اليوم