قراءات نقدية

طارق بوحالة: عمارة لخوص وخفة التفكير العميق

يعد عمارة لخوص صوتا روائيّا خاصا ومختلفا، ويكمن اختلافه في كونه رسم لنفسه مسارا روائيّا متميزا ومفارقا للسائد، فهو من  الأقلام الأدبية القليلة التي استفادت من تجربتها في التنقل بين لغات عديدة، مما ساعده بشكل أساسي في التعرف على أهم خصوصيات هذه اللغات والإلمام بثقافاتها المتنوعة. فبالإضافة إلى أنه يجيد العربية والأمازيغية والفرنسية والإيطالية والإنجليزية، فهو يكتب أعماله الروائية  مرة بالعربية وأخرى بالإيطالية.

يمتاز أدب عمارة لخوص بجملة من الخصائص التي تميزه عن غيره، وتتجلى هذه الخصائص في طريقة الكتابة، إذ نلمح في رواياته الأولى: كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟ والقاهرة الصغيرة ظهورا لأسلوب السخرية على الطريقة الإيطالية، وهي التي يفتح من خلالها نقاشا مهما عن حياة المهاجرين في إيطاليا والصعوبات التي يواجهونها في التأقلم الثقافي.

كما تظهر لغته الأدبية لغة متحررة من الثقل الإيديولوجي، منفتحة على الفضاء الرحب  للإنسانية، رغم تطرقه لموضوعات ذات أبعاد حضاريّة وتاريخيّة وسياسيّة. لهذا فإن أسلوبه السردي يتصف بـ"الخفة" حسب تعبير الروائي الإيطالي الشهير "إيطالو كالفينو" الذي يرى أن هناك خفة التفكير العميق، التي قد تُظهر التفكير السطحي "ثقيلا وغير شفاف".

وينجح عمارة لخوص مرة أخرى وبشكل لافت أثناء سعيه نحو التحرر من سلطة التاريخ، -رغم ما للتاريخ من سطوة-، ويتحقق له ذلك عندما يجرب الانخراط في استدعاء بعض اللحظات  من تاريخ الجزائر الحديث، والمرتبط بفترة الثورة  وبمرحلة الاستقلال وما بعده، في روايته الأخيرة المكتوبة باللغة العربية (والتي وصلت إلى القائمة الطويلة لمسابقة الجائزة العالمية للرواية العربية، البوكر 2021) "طير الليل" (2019)، إذ نلاحظ قدرته الفائقة على صهر هذه اللحظات وتذويبها داخل عالم الرواية، ليلتصق التاريخي بالخيالي،  ولينتصر في النهاية المتخيل الروائي على الواقع التاريخي.  وتدور أحداث هذه الرواية  في مدينة وهران، صبيحة عيد الاستقلال،  5جويلية  2018 عندما يصف لنا مشهد مقتل ميلود صبري المعروف بطير الليل، وهو شخصية متخيلة شاركت في العمل الثوري الجزائري. 

وقد حاول الروائي تكثيف الزمن الروائي الذي تدور فيه أحداث رواية طير الليل، إذ يقوم بتوزيعه بين فترتين مختلفتين، فاللحظة الزمنية الأولى هي المرتبطة بيوم اغتيال "طير الليل"، وهو نفسه اليوم الذي يجري فيه التحقيق ويكتشف السر قبل بداية يوم جديد.

أما اللحظة الثانية، فتغطي مسارا خطيا مختارا وفق الوقائع التي يمكن أن تساعدنا كقراء في المشاركة في حلّ لغز الجريمة، فهي تتوزع بين أزمنة تاريخية مختلفة تبدأ من سنة 1958 إلى غاية 2018، هذه التواريخ المرتبطة بتطور البناء الفني للشخصية المحورية ميلود صبري، "طير الليل"  وعلاقاته مع زوجته زهرة مصباح التي كانت رفيقة له في العمل الثوري مع كل من إدريس  وعباس بادي. وكذا مواقفه من القضايا الكبرى التي عاشتها الجزائر المستقلة.

ومن الملاحظات التي يمكن أن نسجلها أيضا حول مميزات العالم الروائي عند عمارة لخوص، هو ما يرتبط بطبيعة شخصيات أعماله الروائية، فهو لا يحملها ثقل التحليل النفسي المبالغ فيه، أو الإيغال في سبر أغورها الجوانية، وهي الشخصيات التي تمثل حالات خاصة، فبرغم أنها نماذج إنسانية تعيش ضمن دائرة الصراع الحضاري مثل ما هو في رواية كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك؟ وكذا رواية القاهرة الجديدة، إلا أنها تحافظ على توازنها النفسي، وهو الأمر ذاته الظاهر مع شخصيات رواية "طير الليل"  التي تتحرك ضمن حدود الضغوط والاكراهات الممارسة من قبل الواقع السياسي والتاريخي المأزوم في كثير من الأحيان.

 

د. طارق بوحالة

 

 

في المثقف اليوم