قراءات نقدية

قصي الشيخ عسكر: قصة السيرة عند د. علي القاسمي.. الآنسة جميلة

قصي الشيخ عسكرتحتلف قصة السيرة عن (المذكرات) و(السيرة) كون المذكرات توحي بأنها يوميات يلتزم بها كاتبها الواقع الذي يجب عليه ألّا يغيّر في مجرياته وإلا كان مايكتبه يدخل في إطار تزييف الحقائق وتزويرها،أما السيرة فهي أن تقتفي حياة شخص ما من نقطة معينة كالطفولة أو الشباب أو من مرحلة متأخرة كالمرحلة الجامعية وقد لا يكون كاتب السيرة الذاتيّة متمكنا من اللغة فيطلب عون أديب أو لغوي يملي ماحدث له عليه ليكتبها له.

أمّا قصة السيرة الأدبية فتتميز بتقنيتها الفنّية العالية ومعالجتها للواقع من حيث التقديم والتأخير والتجزأة والتوزيع الفني وهذا ما نجده في قصص السيرة الفنية عند الدكتور القاسمي ومنها قصة الآنسة جميلة1.

لكي يخرجنا الكاتب من نمطية الواقع جعلل البداية في المكان أولا وتلاعب به فنيا وفق ظاهرتي التصغير والتكبير أو السعة والتضييق وكأنه مصور يقف خلف آلة تصوير فينقل لنا مشهدا عاما ثم تتوقف آلته عند نقطة معينة:

(كان باب المنزل مفتوحاً فدخلته. رأيت حشداً من المدعوين في جُنينةِ المنزل، ومعظمهم جالسٌ إلى موائدَ معدّةٍ لتناول طعام العشاء، وبعضهم القليل واقف، وجميعهم يستمع إلى موسيقى الآلة التي تعزفها فرقة موسيقية. حامت عيناي على وجوه الحاضرين بحثا عن أخي سيدي محمد، فوقعتا عليها واقفةً وحيدةً في الطرف الأقصى من الجنينة بالقرب من مجرى النبع؛ فحطَّتا عندها، وكفَّتا عن مواصلة البحث عن صديقي.)

فقد بدأ الكاتب قصته بصورة مدهشة جاء مدعوا بسيارته إلى بيت صديقة ودخل المنزل، فلم تتوقف الحركة لأنّ هناك في المكان نفسه حركة أخرى تتمثّل في عزف إحدى الفرق لموسيقى أندلسية وهذا يعني أن هناك حركة باتجاه الماضي الجميل الناعم، الماضي البعيد وقد وقفنا أمام مشهد كبير هو الحفلة وشاهدنا المحتفلين سمعنا موسيقى رحلنا معها بعيدا وإذا بآلة التصوير تتوقّف عند نقطة معينة نصبح عندها مندهشين: بصر السارد يقع على فتاة تقف وحيدة في أقصى الحديقة عندئذ نترك المشهد كله ويدفعنا الفضول لأن نتابع السارد وعيوننا تترقب ماذا يحدث بعد.

المشهد الواسع الحديقة الكبيرة وهناك المحتفلون نتركهم لنقف أمام الصورة الجديدة التي تحرك نحوها البطل ووقف عندها.

ليس هناك من خروج على الواقع لكنه تنسيق في العمليتين الزمانية والمكانية مكان واسع لجمهور وعزف موسيقى لماض يقابله مكان ضيق وشخص مفرد (الفتاة) وصمت من قبلها، فهي في هذا المكان المنفرد قرب المنبع الذي تُروى منه الحديقة تقف تتأمل وتسرح مرفوعة الرأس إلى السماء مع الموسيقى الأندلسية الروحية والتي تعنى النقاء والصوفية والعرفانية بكل معانيها من التأمّل والإنسجام مع الكون كله. إذن هناك مكان صغير في محيط كبير والمكان الصغير احتوى على نبع وفتاة ولو وضعنا في حسابنا العربي الأصيل فكرة الماء والمرأة بخاصة الفتاة أو الآنسة لوجدنا أن العربي القديم ربط بين الخصوبة والمرأة بالكنية فكناها بأم فلان وإن لم تكن متزوّجة من باب التفاؤل بالخصب والخير لم يجعل الكاتب المكان الصغير محدودا بأفق بل جعله مضغوطا للأعلى عبر الفن (الموسيقى) الخاصة بالروح وهي الموسيقى الأندلسية التي تقف موقفا وسطا بين الموسيقى العربية الشرقية وبين الموسيقى الغربية أو السموفونيات التي يصمت خلال عزفها المستمعون (كانت تقف في الطرف الآخر من الجنينة. ولم تكن مع أحد من المدعوين، ولم تنظر إلى واحدٍ منهم، بل كان رأسها مرفوعاً قليلاً، وعيناها غائرتين في السماء كما لو كانت تنشد شيئا من المدائح النبوية مع أيقاع موسيقى الآلة).

المكان الضيق اتسع عموديا بكلمتين ناعمتين هما: مرفوعا و غائرتين وكلتا الكلمتين منصوبة لتناسب الحركة العمودية ولتلفت نظر القارئ إلى البعد الروحي وأجواء المكان النفسية واتجاه الكاتب في شدّ القارئ وجذبه نحو لحظة النقاء والصفاء.منذ هذه اللحظة يترك همومه ومشاغله ونواياه السلبية فإن مايراه فتاة رأسها مرفوع وعيناها إلى السماء وماء يجري من حولها موسيقى روحية تتهادى إلا يذكّرنا هذا المشهد بمناررة جامع شاهقة في السماء إو صومعة لقد كان الآخرون مجتمعين وليس هناك من ينفرد وحده(رأيت حشداً من المدعوين في جُنينةِ المنزل، ومعظمهم جالسٌ إلى موائدَ معدّةٍ لتناول طعام العشاء، وبعضهم القليل واقف، وجميعهم يستمع إلى موسيقى الآلة التي تعزفها فرقة موسيقية). صحيح أن هؤلاء يستمعون إلى الموسيقى لكنهم جالسون عند المائدة أو واقفون في حشد ينصتون وأن تنصت منفردا تلك هي الدرجة الأولى أو الطبقة الاولى التي وضعت نفسك فيها أن تكون في عزلة تامة مع نفسك والسماء،يُروى عن المجنون أنه مرّ بقوم يصلّون جماعة وعندما رجع سألوه لِمَ لَمْ تصلِّ معنا عندما مررت بنا ونحن نؤدي فريضة الصلاة فقال لو كنتم تعبدون الله حقا كما أحبّ ليلى  لما رأيتموني وأنا أمر من أمامكم.

إنّ الكاتب أراد أن يرسم لبطلة قصته الواقعيّة شخصية تختلف عن الآخرين إذ جعلها في البداية واضحة غامضة في مكان يتخذ سمة عمودية كلية (التأمل، والنظر، الأعلى) مع عدم إغفال أفقية المكان (النبع) ثمّ انتقل بنا ليرسم ملمحا آخر من ملامح هذه الشخصية ألا وهو العودة إلى الزمن الماضي وتاريخيّة المكان الأفقي فنحن نعرف هذه الشخصية- شخصيّة البطلة ولا نعرفها في الوقت نفسه- من خلال الجمع بين الزمانين والمكانين في لفتة فنيّة واضحة (في أوربا التي أزورها بانتظام، وفي هذا البلد الرائع، وفي هذه المدينة الرائعة، شفشاون، أرى جميلاتٍ كثيرات، لاسيَّما في مثل عمرها الذي لا يتعدى عشرين ربيعاً؛ ولكن ليس في مثل حسنها الفتّان. فمدينة شفشاون التي تُلقَّب بـ "الجوهرة الزرقاء" لروعة طبيعتها الجبلية الخلابة، تأسَّست سنة 1472 لإيواء مسلمي الأندلس الذين طردهم الإسبان، فحملوا شيئاً من ثقافتهم الأندلسية معهم إلى البلدان المغاربية التي لجأوا إليها.  ولم يكُن أولئك اللاجئون من أصول مغاربية إسلامية فحسب، بل تعود أصول معظمهم كذلك إلى جميع أصقاع الإمبراطورية الرومانية النصرانية القديمة).

شخصية البطلة شخصية غير عادية لا تريد أن ترى الحاضرين على الاقل ألا تراهم بضع  لحظات مثلما أراد المجنون لأصحاب الصلاة ألا يروا أي شئ إذا صلوا سوى الله،والكاتب يعود بنا معها – البطلة-إلى النبع الاصيل الروحي أو العرفاني أم الصوفي سمّه  ماشئت فيمنحنا عبر التاريخ الرقم أي سنة تأسيس القرية تلك ،سمة أخرى من سمات البطلة فعلى هذا الاساس يكون مكان الحفل هو صورة مصغرة لقرية شفشاون والبطلة هي كل اندلسي لجأ إلى هذه القرية ورجع إلى مكانته السامية عبر الإحساس الروحي والمديح النبوي .إن التاريخ نفسه ليس ماضيا فحسب بل هو امتداد فينا والمكان ليس ملء فراغ بل هو رحلة عمودية وأفقية باتجاه الماضي والمستقبل كما نجده في محاولة البطلة العبور من الماضي الى المستقبل بوساطة التأمال عبر الموسيقى.

على ضوء هذا المفهوم تتجه شخصيات الراوي نحو شخصية ثانوية لا تظهر إلا مرّة واحدة فقط ألا وهي شخصية صاحب الدار الذي دعا الفرقة الموسيقية والحضور الضيوف والفتاة الغريبة والمفروض أنّه يعرف الجميع لأنّه دعاهم لحفل في بيته وحين يسأله السارد يدور بينهما الحوار التالي المقتضب:

. ولكن سيدي محمد كثيراً ما يستعمل طريقة الفلاسفة الإغريق في تعليم طلابه، وقد طبَّقها معي ذلك اليوم، فسألني:

ــ "لماذا؟"

قلت:

ــ "لديّ إحساسٌ بأنَّني رأيتُها من قبل وتحدَّثتُ معها.

ــ اذهب إليها واسألها.

قلتُ معترضاً:

ــ كيف أكلّم فتاةً لا أعرفها؟

قال:

ــ "ها أنتَ تناقض نفسك: مرَّةً تُخبرني بأنَكَ رأيتَها من قبل، ومرَّة تقول إنَّكَ لا تعرفها!"

قلتً:

ــ "معرفتي السابقة بها مجرَّدُ إحساس، وقد لا أكون مصيباً."

ــ "اذهبْ واسألها، فهي لا تمانع أذا تحدَّثَ إليها مَن لا تعرفه. اذهبْ!"

إن السارد يستدرجنا بهذا الحوار المقتضب ويثير فينا حماسة الشوق والفضول كأننا نحن الذين نسأل وليس هو ثم يبدو صاحب الدعوة وصاحب الدار غير مكترث بالإجابة لأنّه يريد منا نحن الباحثين عن الحقيقة أن نبحث عنها بأنفسنا لقد جعل السارد شخصيّة السيد محمد حيويّة فعالة بهذا المشهد لتختفي وتظل راسخة بأذهاننا نحن المتلقين مادمنا أصبحنا نبحث بأنفسنا عن سرّ تلك الفتاة التي رسم لنا السارد صورة عنها تقترب من صور التراث نفسه بأسلوب مبهر جميل فنحثه هو على أن يتابع الموضوع بنفسه وأن يتجرأ ويتحدث عنها مباشرة فلم تعد الحفلة تعنينا ولا الحضور الآخر وشخصية السيد أو سي محمد نفسها أدت دورها عند هذا الحدّ..

أخيرا يقصد الفتاة التي مازالت في مكانها تنصت وتتأمّل لنكتشف بعدئذ صفة خَلْقيّة بعد أن اكتشفنا من قبل صفة جوهريّة من صفاتها المعنوية  ألا وهي هي محاولتها الاهتمام بجوهر العالم من خلال الموسيقى الروحية الأندلسية القديمة.

بعد أن يواجهها السارد فيسألها عمن تكون ندرك الحقيقة منها وهي أنها شبيهة بأمها التي قد يكون التقاها وتسمي له أمها ووظيفتها فينذكر كلّ شئ:

ـ " هل التقينا سابقاً، آنستي؟"

ـ "لا، مع الأسف."

قلتُ:

ـ " ولكن لدي إحساس مكين أنَّنا تقابلنا من قبل وأنّني أعرفك!"

قالت، وقد تفاقمت ابتسامتُها وعيناها إشراقا وترحيباً:

ـ "لعلَّكَ كنتً تعرف والدتي عندما كانت في مثل عمري؟"

ـ ومَن هي أُمُّكِ العزيزة؟

ـ الرسّامة فاطمة الزهراء. مندوبة وزارة الثقافة في الشمال.

وهنا شعرتُ بالمفاجأة، وبسذاجتي. لماذا لم أفترض أنّها تُشبه شخصاً أعرفه؟!

وهنا بعد هذه المعلومة تسير بنا القصة باتجاه آخر هو أن هناك جيلا جديدا يتمثل في الابنة أو الفتاة جميلة التي ترث جمال أمها لكنها تستقل عنها بخصلتين هما الأم رسامة والبنت موسيقية هناك موهبة مشتركة هي الفن ومفترقة في الوقت نفسه حيث الموسيقى فن سمعي والرسم فن بصري ،بعد ذلك يتسع المكان نفسه يتمدد حين ينته اللقاء وينطلق الجميع إلى أماكن أكثر سعة وازدحاما ومعرفة لنجد أن الصورتين المتطابقتين تختلفان في تقدير الأمور: الأم الأكثر خبرة لا تريد لابنتها أن تتزوّج من شاب تتوجس منه خيفة ولا تثق بأخلاقه والفتاة التي ترى العالم بمنظور روحيّ سامق تظنّ نفسها على حقّ حتى إنها تقدم على  الزواج وفي هذه الحالة ينقلنا السارد ببراعة عبر زمان مكثف هادئ فيجعلنا بأسلوبه الرصين نتابع القصة مع الزمن الواسع مثلما نكون جالسين على متن طائرة تقطع بنا آلاف الكيلومترات من دون أن نشعر بوطأة الوقت أو غرابته.إنه يجعل من التصوير والأسلوب أشبه بالمصفاة filter التي تذيب الشوائب وتقدّم لنا الناضج الحي فينقلنا ببراعة من الحفل إلى لقائه بالأمّ إلى أوربا حين استنجدت به الفتاة لينقذها من زوجها الذي طردها من البيت واستولى على كلّ ماتملكه من مال ومتاع.

لقد بدأت القصة بالموسيقى (الروح) المعنى وانتهت بها أيضا (وبقيتُ أتابع أخبار جميلة التي سرعان ما تغلّبت على أزمتها، وتفرّغت لتربية ابنها، وتطوير عملها، ومواصلة دراستها. وبعدما انتقلت جميلة إلى جامعة مدريد في إسبانيا ثم إلى جامعة غرناطة لإنجاز الدكتوراه في الموسيقى الأندلسية، زارتني وأمُّها وابنها الصغير في منزلي ذات مرَّة للبحث في مكتبتي عن كتب عن الثقافة الأندلسية، وحملت معها كتاباً أو كتابَين، وحمل ابنها دُميةَ أو دُميتَين).

لقد حققت القصة حقا هدفها الفني والأخلاقي بتقابل الروح والمادة وتقابل الأجيال وأظهرت أن الجيل القديم الأكثر خبرة في الحياة إذا امتلك الوعي يمكن أن يكون أرقى من الجيل الجديد.

البحث القادم: التراث في قصة السيرة عند الأديب القاسمي

 

قصي الشيخ عسكر

.........................

1-  كنت قد كتبت بضعة روايات أطلقت عليها الواقعية المستنيرة وقد استحسن الدكتور عبد الرضا علي هذه التسمية وارى أن قصة السيرة الأدبية تدخل فنيا ضمن الواقعية المستنيرة التي تبتعد عن المباشرة والتسجيل الحرفي وهي فن يلبي احتياجات العصر الحديث. وتسمية الواقعية المستنيرة جاءت أيضا باقتراح وحوارات ونقاشات مع الدكتور صالح الرزوق الذي أبدا اهتماما كبيرا بهذا الفنّ الجديد

2-  تنويه نظرا لأصالة الموسيقى الأندلسية الروحية نجد أن الأذاعات المغاربية تبثها باستمرار في شهر رمضان أو حلال المناسبات الدينية

 

 

في المثقف اليوم