قراءات نقدية

جَبَّار مَاجِد البَهادِلي: تَمَثُّلَاتُ شِعرِيَّةِ الآيرُوتِيكِ الحِسِّي (4)

جبار ماجد البهادليوَالمُستَويَاتُ الجَماليَّةُ لشِعريَّةِ التَّناصِّ فِي غَزَلِيَّاتِ يَحيَى السَّماوِي الجَمَالِيَّةِ

ثَانياً: تَمثُّلاتُ شِعريَّةِ التَّفْرِيقِ بَينَ

 (الشِّعرِ الآيرُوتِيكِي الحِسِّي، وَالآيُروتِيكِ الشِّعرِي الجَمالِي)

ثمَّةَ فرقٌ كبيرٌ،وبونٌ واسعٌ في الشِّعرية النصيَّة بين ماهية مفهومي الشعر الآيروتيكي الحسِّي الرغائبي ذي الدافع (الجِنسِي)، والآيروتيك الشِّعري الحسِّي الرغائبي (الرُّوحي الجَمَالِي)؛ لذلك من الصعب في نقدية الشعر الحديثة أنْ تُدركَ تمثُّلات فلسفة المعادل الموضوعي الجمالي النسقي في المنجز الإبداعي العشقي الحسِّي لشعرية يحيى السَّماوي الغنائية الذاتية، وتفهم المغزى الرُّوحي البعيد في توجُّهه الفكري الأخير اللَّافت نظراً لحضور تقنيَة الجماليات الحسِّية الآيروتيكية؛ ولكنَّ المثير والأجمل الممتع السائغ في هذه الاشتغالات الرؤيوية المتعاضدة أنْ تستشعر بتفرُّدٍ لذَّةَ وطعمَ ماهية عقد رابطة الألفة الحميمة في معادلة التوفيق الهرمنيوطيقي الصوري (التأويلي) لهذا المعادل الفلسفي الرُّوحي بين ثنائية تمثُّلَات المحسوس العشقي التجريبي (القيمي)، وتمثُّلات الملموس التجريدي (البَصَرِي) الفكري الجمالي الصوفيِّ، مركز الرُّوح و (نقطة الإضاءة) الجمالية المثيرة بدلالاتها الصورية الرُّوحية.

وهذا الأخير المضيء بوضاءته الرُّوحية هو الَّذي ينتزع فيه الشَّاعر أنساق اللُّغة الشعرية المخيالية بصورها المرئية (الحركية والصوتية)، وأصواتها (المهموسة والمجهورة والصائتة) من نفسه انتزاعاً بلاغياً تجريدياً فنيَّاً في رسم وتوقيع ملامح صورة المعشوق الحسِّي في لوحة الخطاب العشقي الشِّعري الحدثي.

والقصيدة الحسيَّة عند السَّماوي بستانُ عشقٍ سَماوي مُورقٍ بالجمال، وواحةُ غزلانٍ ربيعيةٍ من ظباء (العشقيات) المخضوضرة بسنابِل العشق الجمالية الملأى بالمحبَّة، ولا تعدو القصيدة للمتلقِّي أو القارئ إلَّا أنْ تكون دوحةً لغويةً غنَّاء مسربلةً بقشيب أثوابٍ زاهيةٍ من نسج الكلمات الدلالية المعبِّرة، وهي بساط سبكي من الألفاظ والعبارات المتراصَّةِ، والتراكيب الشعرية الرصينة المؤثِّرة بسعةِ ورحابةِ مداها التأثيري.

والسَّماوي يحيى في تصميم تمثُّلاته المعمارية (الحسيَّة واللَّمسيَّة) الشعرية، هو مهندسها الشعري الشاخص بفقه لغته المخيالية الَّذي لا يكتفي بأنْ يُصيِّر مثيرات المحسوس الأنثوي عشقاً، وجماليات العشق الأنثوي محسوساً صورياً فنيَّاً فحسب، بل يخطو أبعد وأعمق من ذلك التصوّر الفكري، فيذهب عامداً فى تصوير جدليته (الحسية الآيروتيكية) إلى مناطق وأقانيم تأملَّية روحيَّة أكثر بُعداً ورؤيةً في إرساء وتعضيد دعائم شعرية فلسفة علم الجمال الرُّوحي العرفاني الصوفي الّذي يتقرَّبُ به الشَّاعر في ابتهالاته الصوفية وأناشيده الشعرية السّماويَّة إلى الله تعالى عبر أثير مجسَّاته الحسيَّة الآيروتيكية التي يقوم فيها بإنتاجِ صورةٍ رُوحيةٍ تَخليقيةٍ يَتماهي فيها المخلوق (العاشق) الحسِّي بجمال الخالق (المعشوق) الرُّوحي التألُّهي؛ لكسر واختراق صورة المألوف الشعري النمطي، وإحداث مثيراتِ الدهشة والإمتاع الجمالي عند المتلقِّي.

وعلى وفق ذلك التأسيس الجمالي تُشكّلُ القصيدة الآيروتيكية بِرُمّتها الكليَّة عند السَّماوي مدائنَ عشقِ شعريَّةً حسيَّةً فاضلةً، ومحطَّاتِ مرافئ سُفْنٍ صُوفيَّةٍ متآلفةٍ عامرةٍ بالجمال، تسمو بها القصيدة الغزلية الحسية الذاتية الحديثة في منظور علاقتها الزمانية والمكانية المتواشجة. فهي مازالت في سير منظومتها الحضورية الكاشفة تعكس ماضياً، وما ستكون في علاقتها الاستشرافية الحالية حاضراً ومستقبلاً فتمثِّل نهراً لافتاً من توليفة (عشقٍ عراقي ٍأخضرَ) لا ينضب ماؤهُ ولا يجفُّ رؤاه العشبي الأخضر للظامئ .

ذلك العشق الرُّوحي الَّذي تتنفسه رئة السَّماويِّ الشعريَّة روحاً وجسداً، وتحيا به هواءً نقيَّاً مُنعشاً، فلا حياة ليحيى السِّماوي من غير قصيدة عشقٍ تَنبُتُ أملاً تَخضَرُّ بهِ روحه، ولا عشق يُعمِّر ويدوم عنده من غير قصيدة حسٍّ، هي روحه الخضراء المزدانة بحبِّ الجمال الصوفيِّ لذلك الهُيام. فترى صورة المعشوقة الحسيَّة في تراتيل شعره الصوفية بضعةً روحيةً منهُ لصيقةً بمدارك محسوساته، تحيا بحنايا روحه،وتمسك بعلائق قلبه المتقطعة يُتَرْجِمُهَا بأناقة لغته ورشاقة تعبيره، كما هو (يحيى) اسماً وتكويناً وشخصيةً ووجوداً.

وعلى نهج هذا التأسيس فإنَّ القصيدة الآيروتيكية ذريةٌ وليدةٌ من بعض بعضها بعضاً، وبذرةٌ متناسلةٌ من رحم هذه البضعة الجمالية المكمِّلة لصورتها التخليقية في عرفانيتها الروحية القريبة إلى الله، كونَ الله الخالق جميلاً ويحبُّ الجمال. ولا يمكن لمثل هذه الرؤيا الحُلميَّة المخياليَّة أن تتحقَّق على أرض الواقع الشعري الجمالي إلّا بتجرُّد الشاعر وتحرُّره من ذاته الوجودية التكوينية، وجلدها جسداً وروحاً في أبهى تكوين وأرفع صورة من صور تجلِّيات التَّواضع الإنساني ونكران الذات المتسامية.

لتحلَّ محلَّها بضعةُ إداةٍ تركيبة استثنائيةٍ مثل، الأداة (سِوَاكِ) اللَّفظية الدالة بالإشارة اللًّغوية والدلالية على (الحِصر العِشقِي) رمز الحسيِّة الأنثوية، وكأنَّ الشاعر في تشاعره اللَّفظي وتماهيه العشقي التوحُّدي يتنقَّل ويتنازل بدلالة موحيات حرفينِ اختارهما (الكاف)،و (النون)، (كُنْ) عن كينونة وجوده، حين يكون المعادل اللَّفظي الآيروتيكي الحسِّي بينهما (سريرُ النَّونِ)، ملتقى العشق ونقطة التفاعل الروحي والجمالي التي جسَّد معانيها ورؤاها الدلالية العميقة بهذا المطلع العنواني الصوري الذي وشم به ثُريا عتبته الرئيسة:

لَمْ يَبْقَ لِيْ مِنِّي سِوَاكِ

فَاحْرِمِيْنِي نِعْمَةَ الكَافِ

تَمَاهَى

بِسَرِيْرِ النُّوْنِ (60)

وَيُحَلِّقُ الشَّاعر مرَّةً أخرى تحليقَ عَاشقٍ في فضاء محسوسات ابتهالاته العشقية الجمالية في حضرة المعشوق؛ ليرسم لنا بمحرابِ حرفه القدسي نبض المحبَّة االروحيَّة الصادقة، لا لأنَّه يُقدِّس جيشان العاطفة الحسيَّة فحسب، بل لأنه يرى فيها فتحاً روحياً صادقاَ، ونافذةً جماليةً صوفيةً لا حدود نهائية لها تمنحه الشعور بالراحة والطمأنينة والسلام الأبدي. ويدفعهُ شُعوره القلبيُّ بعرفانيةِ العشقِ الحسِّي، التَّجَرُّدَ من شهواته النفسية، والتحرُّر بما علق بها من رغائبه الذاتية، فالسَّماوي يجد في حسياته الآيروتيكية وعشقياته الرُّوحية تطهيراً قدسيَّاً للقلب من الدَّنس الشعوري المُبتذل، وتمريناً ترويضياً، ومماهاةً روحيَّةً، وصلاةً شعريةً ابتهاليةً تقرّبُهُ رفعةً إلى الله تعالى. كما ينظرُ إلى ذلك الفتح الرُّوحي الشيخُ الأكبرُ مُحْيي الدين بن عربي حين يقول: "كيف يمكن للقلب أنْ يصل إلى الله إنْ لم يتحرَّر من رغائبه"؟، وَلَمَمِ شهواتهِ الدونية.

وعلى الرغم من ذلك الموقف الواضح فأنْ السَّماوي يقف موقفَ الحائر في تضاديته بين الانتصار لمحسوسات جسده أو الانتصار لروحياته الصُّوفية، ولكنَّه يمكن أنْ يصنع لنفسه مجداً خاصَّاً خالداً به، فيختّار طريقاً ما يرتقي به إلى الأعالي. وقد نوَّهَ الشاعر إلى ذلك في منشوراته (المشباكية) لي مؤّكِّداً القول إنَّ: "مِعضلتي أنَّني أضعف من أنْ انتصر لجسدي في حربه على روحي، وفي نفس الوقت أضعف من أنْ انتصر لروحي في حربها على جسدي؛ لهذا السبب عقدت العزم على إقامة الألفة بينهما من خلال العشق في أسمى تجلياته- العشق بمعنييه الحسِّي والعرفاني- ولا أظنُّ الأمر مستحيلاً ". وعضد السَّماوي قولَهُ بما قاله السيِّدُ المسيحُ (عليهِ السّلامُ): "لو أنَّ لابنِ آدمَ شَعيرةً مِن اليَقينِ مَشى على المَاءِ"، كي يَصنعَ مُنجزاتهِ الرُّوحيةِ الإيمانيَّةِ.

ويمضي السَّماوي في الكشف عن أنساقه الروحية المضمرة في إسناد موقفه التوافقي المعتدل، فيقول مُصرِّحاً: "وتأسيساً على ما تقدَّم أعلاه، أظنَّني نجحت في تدجين ذئب جسدي، ليتواءم مع غزال الروح، وسأواصل - قدر استطاعتي- هذا المنحى، وصولاً إلى الارتقاء بالعشق الحسِّي إلى مصافِ العشق العرفاني، مستعيناً على أمسي البعيد بحاضر يومي، وعلى يومي بطماح غدي، متخذاً من التبتل هديلاً لحمامة قلبي، ومن البصيرة قنديلاً لبصري". ولنقرأ تطبيقاً غزلياً شعرياً لهذه الروح اليَحياويَّة السَّماويَّة العشقية التوافقية، وكيف يَعقدُ صفقةَ أُلفةٍ من الابتهالات العرفانية التّحرُّرية تشير موحياتها الآيروتيكية إلى منزلة المعشوق الحسِّي وتماهي روح عشقهِ مع روحِ العاشقِ معاً:

تَمَنَّعِي عَلَى هَوَاجِسِي ..

أزِيْحِي عَنْ خَرِيْفِي بُرْدَةَ الرَّبِيْعِ..

غُضِّي الفّهْمَ عَنْ صَمْتِي

وَعَنْ تَبَتُّلِي فِي خِدْرِكِ الأَمِيْنِ

 

وَابَتَعِدِي

أبْعَدَ مِنْ قَلْبِيَ عَنْ يَدِي

وَمِنْ سَمَاوَةِ الأَحْبَابِ فِي الغُرْبَةِ

عَنْ عُيُوْنِي (61)

فالأفعال الأمريَّة الطلبية الأربعة: (تَمنَّعِي، أَزيْحي، غُضِّي، اٍبتَعدِي) التي وظَّفها السَّماوي في بدايات سطور هذه الدفقة المقطعية النونية الشعورية المنسابة كانسياب ماء النهر الجاري فيها من جمال القدَاسة والجلالة الروحيَّة التحرُّرية على المشاركة للمعشوقة الحسيَّة ما يدلُّ على التنحِّي والابتعاد عن كل ما يشينُ روحية العاشق ويُدَّنس صفتها الصوفية العرفانية، وفيها من تجلِّيات الجمالية،وصدق الوفاء المكاني والزماني في الانتماء للوطن والأرض والمنبت الأول الذي حالت ظروف التغريب والتهجير القسري في الابتعاد عنه في وطن ثانٍ مُستعارٍ في لغته وثقافته، وَهُويته الإثنية، وعاداته وتقاليده، وقيم شكله وروحه.

وتتلُّون قيم الآيروتيك الحسِّي عند السَّماوي بألوان العشق القدسي ومجامره الروحية الساخنة. فثيمة القصيدة العشقية عنده في فضائها النصِّي لا تقف عند حدود المألوف من العرفي للشِّعر، بل تتشكَّل تمظهراتها الصورية (الصوتية والحركية والمرئية) تشكُّلاً فنيَّاً إبداعيَّاً جديداً تتشابك فيه تمثُّلاتها النصيَّة بنوعيها (المحسوسة والملموسة)، حتَّى يغدو رِتْمُ إيقاعها الأسلوبي المميز تسبيحةَ عاشقٍ صوفيٍّ ينسج فيها الشَّاعر من خيوط محرابها الشعوري القُدسي صورةً فنيَّةً ابتهاليةً يَأتلفُ فيها المرغوب بالممنوع، ويختلف فيها المسموح بالمقموع الفكري والدلالي حركةً وصورةً .

فِيتَراءَى لكَ أنَّ الشاعر يحيى السَّماوي يُحرِّك الساكن الثابت، ويُسكِّن المُتحرِّك المتغيِّر غيرَ الثابت المستقرِ، فيستحيل الثابت القائم لديه متحوِّلاً، والمتحوِّل ثابتاً بلغةٍ أنيقةٍ سحريةٍ جماليةٍ ماتعةٍ تتخلَّق بنيتها النصيَّة الدلالية والتركيبية والإيقاعية الصوتية تحت أفياء خيمة العشق الصوفي المشِّعة بظلالها العرفانية المشرقة، والتي يرى فيها الشاعر يحيى السَّماوي انعكاساً حقيقياً مباشراً لسيماء مرآة روحه التحرُّرية في قلبِ الصورة النسقية الشعرية الجديدة:

وَلْتَمْنَعِي بَحْرَكِ عَنْ

سَفِيْنِي (62)

ومن موحيات عقشيات هذه الترنيمة التسبيحية القدسية التأملية بدلالة ألفاظها الحسيَّة الآيروتيكية البعيدة والقريبة، يتصاعد لحن الشاعر الصوفي فيضاً روحيَّاً عرفانيَّاً متآلفاً من التمكُّنات الحسيَّة الموقَّعة بأوتار عناصر الطبيعة الأُمّ، وَمُدخلاتها السكونية والمُتحرِّكة، فيعزف نَايُهُ لنا من رحمها الجمالي الهاطل نشيداً صوفياً روحياً متساوقاً في مقطوعةٍ ابتهاليةِ آيروتيكيةِ أخرى، حرصَ بأهميةٍ فنيَّةٍ بالغةِ التأثير على تدفق تمثُّلات موسيقاها الداخلية، وتناسق قافيتها الحرفية المشبعة بحركتها التماثلية الموحَّدة على هذا النسق الرباعي الاسمي التعبيري المضاف إلى الذات الشاعرية.

فمن خلال ياء المتكلِّم التي يستجدي بها الشاعر قائلاً: (نَهْري، جَمْري، صَبْري، صَخْري). والَّتي عَبرَ تواردها التتابعي بـِحرف (مِنْ) التبعيضية، انحرف بتعبير أسلوبيته الانزياحية متماهياً بتمكُّناته الحسيَّة في غلبةِ (النَّاعورِ عَلَى النَّهرِ)، و (التنوَّرِ على الجمرِ)، و (الأوهامِ على الصَّبرِ)، و (الأَنْداءِ على الصَّخرِ). فكُلُّ هذه الابتهالات العشقية الباذخة بتساميها، والتي وهبها إلى المعشوقة الآيروتيكية لا تساوي في معادلها اللُّغوي الموضوعي إلَّا نزراً قليلاً من التمكُّن العرفاني الذي يُعيد له توازنه الروحي الجمالي المفقود بهذا الكم الحَرْفِي من التبعيضات الموازية لدلالاتها اللَّفظية التي عقدَ أُلفتَهَا مع معشوقته الحسيَّة :

مَكَّنْتُ نَاعُورَكِ مِنْ نَهْرِي ..

وَتَنُّوْرَكِ مِنْ جَمْرِي ..

وَأَوْهَامَكِ مِنْ صَبْرِي ..

وَأَنْدَاءَكِ مِنْ صَخْرِي ..

فِمَكِّنِيْنِي

 

عَلَى لَظَى حَنِيْنَي (63)

ما أسمى لغةَ الشَّاعرِ الشعوريِّة! وما أبينَ صوره البلاغية حين تَجُوسُ أحاسيس مشاعره الصادقة خلالَ أرض بساتين اللَّذة النفسية، وموائد الشراب الروحي! فَتُؤَنْسِنُ موحياتُ بلاغة لغته الاستعارية - بتآلفٍ وانسجامٍ ٍتام ٍ - فاعلية (التَّرَجّلُّ) لديمومة حركة الواقعة الشعرية الجمالية (ترجَّلتْ كؤوسُ لَذَاتِي)، وتمنحها انحرافاته الانزياحياته (الدلالية والتركيبية)حياةً حركيَّةً جديدةً نابضةً بالحيوية والجمال الصوري. وفي الوقت نفسه تختلف هذه الصورة الانزياحية معها لا تَأتلِفُ، فَتُعَطِّل الموائد ذات الحركة السكونية الثابتة عن معانقة واحتضان كؤوس اللَّذة الحركية، لتمنح بقايا حثالةِ الأيام المنصرمة بِقِلَّةِ الانتشاء نصراً كبيراً مؤزَّراً على قارورة رافد الارتواء الرُّوحي لنشوة السنين، لقناعته الذاتية في التحرُّر من رغائبه الذاتية:

تَرَجَّلَتْ كُؤُوسُ لَذَّاتِيَ عَنْ مَائِدَتِي

فَمَكِّنِي حُثَالَةَ الأيَامِ مِنْ قَارُورَةِ

السِّنِيْنِ (64)

حينَ تُمعِنُ النظرَ في شاعرية السَّماوي وتَقْرَؤُهُ جيِّداً، تجدهُ كتاباً معرفياً مفتوحَ النهايات في خواتيم قراءته الفلسفية وفي بيانه الشعري الحسِّي، يبدو أثره الإنساني الإبداعي كنخيل بساتين السَّماوة الباسقة، لا يألو شأواً، ولا يأبه خجلاً بصراحته الذاتية واعترافاته الثقافية المعلنة، تعبيراً عن سمت تواضعه الصوفيِّ؛ لذلك يكشف حال لسانه الشعري عن خبايا مكنوناته الذاتية،وعن أنساق مضمراته وخبايا معلناته الرُّوحية.

فلا يخشى البوح عن مُجونِ شبابه الماضي الذي تلاشى وانحسر مع تعاقب الدهر قبل أنْ تكون حبيبته المعشوقة السومريَّة زيتونَ زادِ ماعونه الرُّوحي، وطعامَ رغيبته الحسِّي المشبع لجوعه العرفاني، وتستحيل خمراً لزيتونِ رحيقِ شرابه المُعَتَّق المُسكِرِ. والسَّماوي في هذه المفارقة العشقية الصوفية بين ثنائية الجوع للزيتون، والشرب لخمر التِّينِ كَمَنْ يعقدُ مفاضلةً روحيةً صادقةً يُطبِّقُ إجراءها العرفاني بين صفتي (الشوقِ والاشتياقِ) على ذاته الشعرية المتسامية،كون الشوق إلى المعشوق يُعدُّ مثيراً روحياً نسبياً متغيِّراً لا يثبت أثره الروحي مع مرور الزمن، وينتهي زمنه بلقاء المحبوب الحسِّي، في حين أنَّ الاشتياق مثيرٌ روحيٌّ كبيرٌ يزداد زمنه ويمتدُّ أثره بلقاء الحبيب المعشوق كما ينظر أهل العرفان وفقهاء اللُّغة إلى هذه النظرة الروحية الجمالية العميقة السامية في صفاء العلاقة الإنسانية.2893 البهادلي

ويبدو لي أنَّ يحيى السَّماوي كان قارئاً جيَّداً لفلسفة العرفانيين ومُدركاً لمفاهيم تراثهم الروحي المضيء لقلوبهم المُترعة بالعشق الرُّوحي الكبير المُطلق، فجاءت اشتغالاته الآيروتيكية الروحية العشقية حزينةً بهذه التورية المعنوية الجمالية (خَمْرَ تِيْنِ) الدالة على مضمونها الدلالي القريب رحيق (خمرِ التِّيْنِ) الحقيقي المُعتَّق، والمعنى الدلالي البعيد (خَمرتَيْنِ) الذي هو مثنى نوعين من مُدَامِ الخمور المُسَكِّرة ، ولعلَّها كانت تعويضاً عن عشبة فرحه المفقود الذي سَرَقَهُ الطواغيتُ والجائرون من حكَّام أوروك الجديدة الَّذين بَغوا:

مِنْ قَبْلَ أَنْ تَكُوْنِي

 

زَيْتُونَ مَاعُونِي إذَا جِعْتُ

وَإنْ عَطَشْتُ لِلرَّحِيْقِ

خَمْرَ تِينِ (65)

هكذا يبدو المشهد الصوري الحسِّي عند السَّماوي ثرياً مُترعاً بقوافل الجمال الروحي لا يعرف النضوب الإبداعي طريقاً له عنه، ولا ترى لسيمياء قلقه النفسي أو الجفاف، وقلَّة الخيال مكاناً مطلقاً للركود في بيتِ قَصيدهِ الشعر. فالشاعر به رغبة عارمة، هوسٌ كبيرٌ لممارسة المحسوس الآيروتيكي من الشعر العشقي، وطمع أثير لكتابته، يصل به حدَّ الثمالة والانتشاء الروحي. والسَّماوي ذلك الطفل الوليد النقي البراءة الذي به حبُّ جمٌّ كثير لتنفس تراتيل الشعر وتدوين كتابته روحاً يُعَمِّدُ به جسده من نهره الجاري. وكثيراً ما كان يُصرِّح لي في مراسلاته الألكترونية الأدبية، ورسائله الأخوانية الخاصَّة بيان سيرته الشعرية  نحو قَلَقِهِ الإبداعي الإيجابي الصحي من نكوص الخيال ونضوبه فيقول:" أشعر ببكاءٍ خفيٍ حينَ تمرُّ أيامٌ عديدةٌ أو بضعةُ أسابيعَ دونَ أنْ تَصطادَ فِخاخي غزالةَ قصيدةٍ أو ظبيةَ نصٍّ نثريٍّ" تظهر للأفق الأدبي:

فَإِنَّنِي شَفِيْتُ مِنْ دَاءِ تَهَيُّمِي

وَمِنْ جُنُوِني

 

وِمِنْ ظُنُوْنٍ كَبَّلَتْ بِقَيْدِهَا

يَقِيْنِي (66)

لقد اقتحم السَّماوي بآيروتيكيته الشعرية الصوفية المحسوسة ما ليس مألوفاً مُعتاداً من ميادين الشعر الحسِّي، كما يقتحم أهل التصوُّف الديني ورجالات العرفان الرُّوحي ما ليس منظوراً معتاداً من الآراء والمواقف الفلسفية والجمالية، وما بين السّماوي شاعر (الآيروتيك الحسِّي الجمالي)، وهؤلاء العرفانيينَ والصُّوفيينَ خيطٌ رفيعٌ من الجَمال الرُّوحي العرفاني يريد الإمساك به وبتلابيبه القشيبة الناعمة من الوسط، وتلكَ واللهِ هي محنته الشعرية التي انجذب إليها في خطاب معجمه الشعري الصوفي، وهي منزلة رفيعة من الجمال الفلسفي لا يبلغ مداها الرُّوحي التَّألُّهي الرَّباني الإنساني إلَّا الشعراء العارفون بعرفانيتها الكبيرة المقدَّسة، والمبحرون بأشرعتهم الروحية المطلقة في يَمّ ِ سفائنها .وسنقرأ شاهداً لما تبثُّه عرفانيته الروحية:

لَا شَغَفاً

لِرُؤْيَةِ الغِلْمَانِ مِنْ حَوْلِي يَدُوْرُوْنَ

بِأَكْؤُسٍ مِنْ الفِضَّةِ وَالتِّبْرِ

وَلَا جُوْعَاً فُحُوْلِيَّاً لِحُوْرِ عِيْنِ

 

لَكِنَّنِي

خَشِيْتَ أَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ وَجْهِهِ

مَعْشُوْقَيَ المُطْلَقُ

لَوْ أَتَيْتَهُ يَوْمَ اللَّقَاءِ الحَتْمِ

ضِلِّيْلَاً بِدُوْنَ دِيْنِ (67)

وتصل ذروة المخيال العشقي الحسِّي، ونشوته الرُّوحية عند السّماوي في تماهيه ،وتدفقات تعابيره الشعورية إلى صورة (الحَياء) النفسي الرُّوحي الذي يَتَمَلَّكُ الإنسانَ ويتغشَّاهُ لحظة وقوع الواقعة الحدثية الجمالية، فيتلاعب الشاعر بألفاظه اللَّمسيَّة أعضاء الجسد (اليَد)، ويحوِّل دلالتها الحركية غير العقلية إلى مدلولات شعورية آدمية عقلية إنسانية، فيهبها من روحه القدسية صفة الاستحياء الخجلي الشعوري الذي يمنحها قوةً انزياحيةً روحيةً بلاغيةً مذهلةً، تُلقي بتأثيرها اللُّغوي الدلالي، وظلالها النفسي علامات الدهشة والمفاجأة والإمتاع الرُّوحي الجمالي عليه من تلك المعشوقة التي تُحرِّكُ فيه جماليات المسكوت اللَّفظي:

فَتَسْتَحِي مِنِّي

وَمِنْ كِتَابِهَا يَمِيْنِي (68)

الشاعر السومريُّ غارقٌ بمتاهته العشقية، ثَملٌ بخمرته الروحية إلى حدِّ التِّيهِ القلبي، لكنَّه - عقلياً- واعٍ لكهوف اللَّذة الحسيَّة السوداء في ممالك العشق ودهاليز الضياع. لم يكن إلَّا فلَّاحاً شعريَّاً مثابراً في حرث بساتين العشق الحسِّي وحصدها، ولا يتراءى لك في نشوته الشعرية وتماهيه إلَّا مزارعاً شعوريَّاً روحياً مملوءاً بالحسِّ المرهف اليانع في حصد ثمار سَنَابِل السنينَ الملأى، فلا تسمع له هاتفَ صوتِ رَحىً لجعجعةٍ من غير حصادٍ، ولا حصادَ سنابلَ من غير رَحىً يُفضي إلى ناتج روحي من طحين القلب، وإلى رماد خبز تنوره الجمري الذي لا تنطفئ جذوته الروحية في القلوب العامرة إلَّا بتسابيح أمل والإيمان:

كُوْنِي رَحَى سَنَابِلِي ..

مَا حَاجَةُ السُّنْبُلِ لَا يُفْضِي إِلَى

طَحِيْنِ؟ (69)

وحين تكون المحبة الروحيَّة عنواناً وصدى لهذا العشق، تكون القصيدة الآيروتيكية اليَحياويَّة سجادةَ صلاةٍ صوفيةٍ لديمومة هذا الحبِّ الجمالي التَّبَتُلي المضيء المشرق بنصوصه وقصائده وخطاب معجمه.

ثالثاً: مَا تُضيءُ به نَتائِجُ تَمثُّلَاتِ الشِّعريَّةِ الآيروتيكيَّةِ

في تجلِّيات الرؤية العشقية الأيروتيكية ضمن فضاء النصِّ الشعري الإبداعي تُهيمن صورة (الأنثى) المرأة المعشوقة في بؤرة النسيج الشعري المركزية، ووحدته العضوية لعشقيات يحيى السَّماوي الغزلية على نصوص خطابه الشعري الذاتي بشكلٍ لافتٍ لنظر المتلقّي، فقدَّم السَّماوي صورتها الظاهرية الشكلية (الحسيَّة)،والباطنية الخفية (الروحيَّة) بشكلٍ تشكيليٍ تجريديٍ جماليٍ فنِّي، وروحيٍ تقديسيٍ صوفيٍ عرفانيٍ نورانيٍ مُضيءٍ غير تقليديٍ تداوليٍ مُكَّررٍ في إعادة إنتاجه الخطاب النصِّي الإبداعي للقصيدة العشقية.

وقد قدَّمها على أنَّها تمثِّل رمزاً أو معادلاً موضوعياً فنيَّاً للوطن والأُمِّ والأرض والحياة والإنسان، وقدَّمها أيضاً ضمن مجموعة من النماذج العشقية بهيئاتٍ مُتعدِّدةٍ في التشكُّلات الفنيِّة التي طافت بلغتها التعبيرية الآيروتيكية الحسيِّة على مِساحاتٍ لونيةٍ كثيرةٍ من جمالياته العشقية الزاخرة. وقد أثرنا من خلال رصدنا التتبعي لهذه الدراسة أن نقدِّمَ أهمَّ ما تضيء به النتائج البارزة التي توصَّلنا إليها بدقةٍ في دراستنا:

أ- نَماذِجُ التَّوظيفِ العِشقِي الحِسيَّةِ لِتَشكُّلَاتِ المَرأَةِ:

1- المرأة المقدَّسة العفيفة الطهور عُرفياً ودينياً واجتماعياً الَّتي هي (جنّةُ اللهِ)، و (آيةُ العِشقِ البتوليِّ) المعبودة من غير معصيةٍ أو كُفرٍ أو خروج عن دينٍ أو مِلَّةٍ هي التي تجمع أثر جماليات (الحسّ روحي).

2- المرأة المعشوقة روحياً وفنيَّاً، والتي تمثّل صلاة العشق الروحي والنفسي له، والتي لا يُشرِكُ معها في حبِّها معشوقةً أخرى من النساء في فروضه العشقية، وطقوس شعائره الفنية والثقافية التي تُهيمن فيها لحظةُ اللَّاوعي الشعوري بدلالة قوله: (جَربتُ أنْ أختارَ غَيرَكِ قِبْلَةً لِصَلاةِ عِشقِي / فَاستَدارَ إليكِ قَلبِي وَالمُصَلّى)، ص (34) (تَيمَّمي بِرمادِي).

3- المرأة المُتَخَيَّلة المعشوقة رومانسياً وحسيَّاً وغريزياً، وهذا الأنموذج الفنِّي من أكثر النماذج االشعرية تشكُّلاً وانتشاراً تجريدياً في شعره الغزلي العشقي، لكون يَحيَى السَّماوي شاعراً إبداعياً حسيّاً رومانسيّاً، لمسيّاً للعضوية الجسدية الغريزيّة، روحيّاً بفطرة الشعور الشِّعرية. والأنثى في معشوقاته تمثّل كوناً روحيَّاً جماليَّاً عرفانيَّاً، وجسداً حسيّاً ثائراً بالرغبة والإثارة الحسيَّة، وَمُترِعاً بإمارات الشبق والشهوة، وما على الشاعر العاشق الشغوف إلّا أنْ يُبادله مُطارحةَ الغرامِ ومُرادةِ الهُيامِ واجتلابِ اللَّحظة الشعورية في هذا الاندماج الثنائي (الحِس رُوحي) الفنِّي الصوري الموحَّد.

4- المرأة المعشوقة (الجنسيَّة) الآيروتيكية ذات الطابع الاجتماعي السردي القصصي المتأثِّر برموز شعراء الغزل الحسِّي المُجرد الكُبار في الثراث، أمثال عمر بن أبي ربيعة، وامرئ القيس، وأبي نوَّاس، ولكن بصيغ وتشكُّلاتٍ جماليَّةٍ وفنيَّةٍ مغايرةٍ . وهذا ما تمثّله قصيدة (لا تَذْعُري)،ص (47)أروع تمثيل في شعريته.

5- المرأة المعشوقة ذات الطابع القصصي (الإيماني- الآيروتيكي) الذي تتفاوت فيه فنيَّاً مقاييس الغواية مع الإيمان، وتتصارع فيه جدلية (الحضورِ والغيابِ) العقلي في اختبارٍ تُرَوَّضُ فيه الغواية النفسية ذات الانحراف الغريزي الفرويدي، وتنتصر فيه سيمياء الهداية الإيمانية روحيّاً، وهذا الصنف من نماذج العشقيات المتضادة نجده ممثّلاً خير تمثيل في قصيدة (قُطُوفٌ لُيستْ دَانيةً)، ص (70) المتضادَّة لدلالة الآية القرآنية (23) من سورة الحاقة (... قُطُوفُها دَانيةٌ)) في ديوانه الحسِّي العشقي (تَيمَّمي بِرَمادي).

6- المرأة المعشوقة ذات الطابع الرمزي الأسطوري التاريخي، والتي رمز لها بالسومريَّة أو (إينانا)أو بقصة الرمز الديني يوسف في محنته المصيرية مع أخوته الأحد عشر أخاً الذين أوقعوه في غياهب غيابةِ البِئرِ، بسبب غواية الحسد، وكذلك علاقته الذاتية مع (زليخة) زوج عزيز مصر.ولعلَّ هذا الشكل من المرأة المعشوقة تمثّله قصيدة (شَجَنٌ مِنْ حَجرٍ)، ص (85) في ديوانه (تَيمَّمِي بِرمَادِي).

7- المرأة المعشوقة التي ترتبط صفتها العشقية بجمال الطبيعة، وألوانها وفروعها ومفرداتها التي يكثر من شواهدها في أكثر قصائده الشعرية. وهذا ما نجد أثره النقلي في قصيدة (صَدَقةٌ)، ص (82) وغيرها.

8- المرأة المعشوقة التي تَمُتُّ بصلتها العشقية إلى حبِّ الوطن، والذي يتماهى فيه العاشقان بالوطن أرضاً وتكويناً ومِسَاحةً وانتماءً. وهذا التداخل الروحي بينهما مما دفع الشاعر أنْ يتصيّر وطناً، والوطنُ يتصيّر حبيبةً، وهي ظاهرة لافتةً للنظر في شعريته الحداثوية. وهذا اللَّون من العشق الرمزي الكبير تجسِّده قصيدة (مِنْ أقصَى المُقلتَينِ إلى أقصَى القَلبِ) الدالة على معانيها الدلالية العشقية الآيروسية، ص (107) من ديوانه (تَيمَّمي بِرَمَادِي).

9- المرأة المعشوقة الصارخة بجماليات الإثارة (الحِس رُوحيَّةِ)، والتي يستحيل فيها أثر فعل (الستربتيز) المبتذل العهري الإباحي إلى (آيروتيك) حسِّي جمالي روحي تُقدَّسُ فيه المرأة وتُفرَّغ من وعاء اللَّذة والمتعة الفارغة إلى محراب القداسة والنورانية، وهذا ما نجده بقصيدة (فِي حِضنِ مَشحُوفٍ)،ص (142) من ديوانه الآيروتيكي الحسي الروحي الجمالي (تَيَمَّمي بِرمَادِي).

10- المرأة المعشوقة الحبية (التقليديةُ) ذات العفَّة والطهارة والشرف والوجاهة التي تشكِّل جزءاً مهمَّاً من ثقافة الشاعر وتحظى بنصيب من عنايته، وتأخذ مأخذاً فنيَّاً من فضاء تجربته الشعرية في قصيدة (تُفاحةُ النُّعمَى) ص (12)من ديوانه (تَيَمَّمي برمادي)، والتي تتناصُّ دينياً مع قصة (آدم) عليه السلام أبي البشرية في موضوعيتها الفكرية والرُّوحية.

11- المرأة المعشوقة ذات الطابع الغزلي العرفاني الصوفي الذي تستحيل فيه مظاهر المحسوس المجرد الشكلي إلى صورة واقعٍ ملموسٍ نوراني يقيني مُنصبٍّ على آثار شواهد نقليَّة من الأثر الديني التاريخي التي تعضده شكلاً من أشكال العشق الروحي الجمالي في فنيَّة التعبير الأسلوبي. وهذا ما توثُّقه فنيَّاً ورمزيَّاً قصيدة (ثَالثةُ الأثَافِي)، ص (14،13) من ديوانه السابق (تَيمَّمي بِرمَادِي). وتتعدَّد دلالة هذه المرأة في قاموسه الشعري، حتَّى تتشكَّل، فَتَكُونُ (المدينةَ الفاضلةَ)، مدينة الشعر التي ينشدها الشَّاعر في رحلته الإسرائية السامية، لأنَّ ماهية المرأة ومفهومها الدلالي يتخطَّى معناه الوجودي بهذا السمت من التماهي العشقي المرئي الذي يتَّحد مع موجودات الشاعر وانفعالاته.

ب- نَماذِجُ التَّوظِيفِ الشِّعرِي الِنَوعِي لِتَمَثُّلاتِ غَزَلِهِ العِشقِي الحِسِّي:

1- النوع الحسِّي الجمالي (الآيروتيكي) المجرَّد الذي تستحيل فيه بصرياً صورة الجسد المحسوس روحاً، وتستحيل الروح غير المرئية جسداً عرفانياً مُترعاً بأخاديد الجمال الرَّوحي، وتجسُّمات الطبيعة الأمِّ.

2- النوع الحسِّي الجمالي (الرُّوحي) التقليدي المثالي الطُهري الذي يمتاز بتمظهرات تقنية الوصف الداخلي والخارجي لبنية القصيدة الحسيَّة في تشكلات شعرية العشق اللُّغوية والتصويرية المائزة بجمال فقه لغة الشاعر الحديثة، لغة الشعر والانزيحات الصورية والجمالية الفنَّية.

3- توظيف الشعر الآيروتيكي الحسِّي الجسدي،وتحويله إلى عشقٍ آيروتيكيٍ شعريٍ روحيٍ جماليٍ فلسفيٍ.

رَابِعاً- تَمَثُّلاتُ شِعريَّةِ الأَنساقِ الَّثقافِيَّة (الرَّمزيَّةِ والوَاقعيَّةِ)

تحت تأثير سطوة الأسطرة المثيولوجية لـ (ملحمةِ كِلكامِش) السَّومريَّة، وسحر مقاربة جاذبيتها التاريخية والنفسية في أدب أوروك الرافديني العراقي الحضاري القديم، كتب الشَّاعر يحيى السَّماوي قصيدته الواقعية المَلحميَّة النَّسق الفكري الرُّوحي الجمالي (مِحنَةُ أَنكِيدُو) التي وجدَ بأدبياتها حلَّاً سحريَّاً ناجزاً لآيديولوجيته الفكرية الثقافية (الذاتية، والسياسية، والاجتماعية) الَّتي يدافع عنها عقيدةً مبدئيةً، ويؤمن بها في فلسفةِ الحياةِ طُقوساً وممارسةً إبداعيةً لها وقعها التاريخي الجمالي الحضوري اللَّافت في ضوء الواقعة الشعريَّة.

فإذا كانت ملحمة كلكامش التاريخية قد مزجت في أدبها السَّردي التاريخي الأوروكي بين النسقين (الحقيقي والأُسطُوري)، فإنَّ قصيدة السَّماوي (مِحنةُ أنكيدُو) ذات النفس النصِّي الملحمي، والوقع الأسطوري قد مزجت في تجلِّياتها الوثوقية بين (الواقعي المُتجلّي)، و (المِخيالي الخَفِي) المُضمر في وقائع مشاهد سرديتها الأدبية التعبيرية. وإذا كان كلكامش هو نفسه البطل الأُسطوري الرمزي الخارق المُتغطرِس بجبروته في أدبيات الملحمة، فإنَّ أنكيدو (السَّماوي) الإنسان البريِّ المتوحش، والمُتَأنسِن بفعل الإثارة الأغواية الجسدية لـ (شَامات)، وإغرائها الآيروسي الشبقي الجنسي، هو البطل الحقيقي الفاعل بأدائه وفعله الأُسطوري الملحمي في قصيدة السَّماوي (مِحنةِ أَنكِيدُو)، وليس كلكامش الرّمز الأكدي المارق بغطرسته وشهوة استحيائه لمناطق العفَّة والعذرية والشرف والجمال.

فالملحمة الكلكامشية كانت واقعيتها المشهدية الحقيقية تستند إلى الحكمة (السَّيدوريَّة)، والأخذ برأيها السديد الصائب، أمَّا مخيالها الماورائي، فهو مُتسرَبِل بوشي غطاء الرمزية في البحث عن الخلود لحياة أخرى ذات مرامٍ وقصدياتٍ بعيدةٍ. في حين تَشي (محنةُ أنكيدُو) اليحياويَّة السَّماويَّة، بأنَّها تقوم في معمارية هندسة بنائها اللُّغوي التركيبي الحقيقي، والمجازي المخيالي على ناصية نسقينِ ثقافيينِ مختلفينِ في إنتاجهما الخفي والمتجلِّي، ومتَّحدين في وحدة الموضوع؛ وذلك لكون محنة أنكيدو العصرية الراهنة تعدُّ في تجلِّيات أقانيمها الداخلية القريبة والبعيدة قَصيدةَ أنساقٍ ثقافيةٍ إنتاجيةٍ بحتةٍ رغم سيطرة الأسطرة عليها.

وعلى وفق تلك المُدخلات الثيمية، والمُخرجات التأثيرية، فإنَّ النسق الأوَّل الظاهر منها والمُهيمن على تخوم فضاء القصيدة وأجوائها الحَدَثِيَّةِ، هو النسق الآيديولوجي الثوري الذي يتماهى فيه السَّماوي - وطنيَّاً وثوريَّاً- بتقريب الواقع العياني الراهن وإسقاطه على صورة أدبيات أسطرة التاريخ الأوروكي السومري، وليس العكس من ذلك بإسقاط واقعية التاريخ الملحمي للأسطورة على الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي للوطن الكبير (العراق) الذي يَجِدُ الشاعر في مقاربته النسقية فيه مِساحةً من السِّعة الشعرية الكبيرة، ويرى فيه شاخصاً مِهمازاً فنيَّاً لحريَّة التعبير الآيديولوجي عن أنساقه الفكرية، وهمومه وآماله وتطالعاته وطموحاته الثورية المنحازة لهموم الوطن السليب، والمعارضة لنظام الحكم الدكتاتوري الفاسد، سواء أكان السابق منه أم اللَّاحق، وما يندرج تحت مظلته الكبرى من تحدياتٍ كبيرةٍ، وإسقاطاتٍ متواليةٍ راهنةٍ، لها أثرها الكبير في رسم الحياة السياسية للبلد وإرجاعه إلى نقطة الخلف.

أمَّا النسق الإنتاجي الثَّقافي الثَّاني، فهو النَّسق (الذَّاتي العَاطفِي)، أي الهمّ الذاتي الكبير والوجع (الأنوي) مع الآخر، وما له علاقة بالجمال الرُّوحي، وصيرورة التغنِّي بالجمال الحسِّي الأنثوي للمرأة المعشوقة أو العاشقة، وما يقع تحت ظلال الرومانسية الحالمة بوطن آمن وعشق قائم يحتاجه الفكر غذاءً روحيًّاً للعقل المعرفي، وترويحاً نفسياً لعلائق شغاف القلب المشدودة بحبِّ علائق هذا الوطن الأثير.

والعلامات الفارقة المضيئة لمُهيمنات هذين النسقين المتشابكين عند يحيى السَّماوي (نافذة العشق الروحيَّة المضيئة)، تُشير إلى أنَّ موضوعات النسق العاطفي الذاتي لا تقلُّ أهميةً وجدوىً في شعرية (الخفاء والتَّجلِّي) عن موضوعات النسق الرمزي الأسطوري؛ وذلك لكون النسقين (الأُسطُوري الرَّمزي)، (والذَّاتِي العَاطفي) يُشكلانِ جدليَّاً وجماليَّاً وحدتي التَّقارب والتَّلاقي، والتَّعانق والتَّماهي في رفد المشروع الفكري الشعري الإنتاجي الثقافي، وتعضيده بديلاً شعرياً مناسباً لكسر وخلخلة الأنساق الشعرية المستهلكة التَّالفة المعطوبة التي عفا عليها تجديد الفكر الزمني في منظومة الشعر العربي المعاصر، والتي استحال أكثرها المُهَلْهَلُ، لا رَصينُها الإبداعي إلى هذيانٍ لغويٍّ وإسهالٍ لفظيٍ ممجوجٍ لا طائل منه تحت مظلة النثر الغامض المُغلق من جديد الشعر العربي الذي لا يَمُتُّ إلى حداثته بصلةٍ لا من قريبٍ أو من بعيدٍ.

إنَّ لجوء السَّماوي إلى تقنية التوظيف الشعري الأسطوري بِنَسَقَيْهِ الآيديولوجي والذاتي، والاستفادة من الدلالات المعنوية والتاريخية الكبيرة للرموز والشخصيات الأُسطورية في النصِّ الملحمي يعدُّ فتحاً مُعجمياً كبيراً مُدهشاً، له مسوغاته الفنيَّة والجمالية المؤثِّرة، وله أيضاً مراميه البعيدة، وأهدافه ومقاصده الإبداعية الباسلة التي يقتفي أثرها الشاعر المجدُّ المثابرُ يحيى السَّماوي في حفرياته التاريخية، وتنقيباته التراثية الجماليَّة البعيدة على المستوى الوطني الموضوعي العام، والمستوى الذاتي العاطفي الرُّوحي الخاص.

فعراق اليوم بمجمل صور وجعه المدمي ومآسيه وجراحاته الكبيرة، ونهب خيراته وثرواته الوطنية الكبيرة، واهتزاز سيادته، وتصدُّع لُحمته الكليَّة وسِداهُ وفقدانه لهيبة اسميته الدَّوليَة، هي بحدِّ ذاتها تشِّكل وحدةً موضوعيةً أسطوريةً سرديَّةً مُذهلةً، وتعدُّ هاجساً موضوعياً كبيراً، وفكريَّاً ورمزيَّاً مُعقَّداً في تركيبه اللامؤسساتي الجديد،والَّذي لا يمكن أن يستوعبه أو يتخيَّلهُ فكر العقل الإنساني، أو يتقبَّله المنطق الواقعي الذي يُنبِئ بأنَّ حاكمية السلطة وراعية شؤون رعيتها العليا تُفضي بالبلد وشعبه الآمن من سيّئ الحال إلى حالٍ أكثر سوءاً، وتمضي بخارطته الدَّولية نحو عالم المجهول،عالم المستقبل الواسع اللَّامتناهي.

فعلى صعيد الخطاب الشعري، فقد كتب السَّماوي عنواناً أسطورياً دالاً على نسقية نفسه، موازياً لتجلِّيات متن النصِّ االشعري اتّخذه قِناعاً رمزيَّاً تخفَّى به نسقيَّاً تحت دلالة الرمز الأسطوري المُنقذ من الظلال (أنكيدو). وإنَّ لمثل هذا القناع (الماسك) الشخصي أثراً كبيراً مَنَحَ بناء القصيدة وأضفى عليها جوَّاً أسطورياً عابقاً بالتوهج الفكري المقارب لحيثيات الواقع؛ كونه يحمل رسالةً آيديولوجيةً عقائديةً واضحةَ المعالمِ في ولاء الشاعر وانتمائه السياسي الممتد عبر جراح الوطن الكبير، والذي رمَز إليه بـ (أوروكَ)، أوروك التاريخ والوطن العراقي الكبير، أوروك ملاذ حُبِّهِ الذاتي، وعشقه الرُّوحي الأثير. فَترى السَّماوي مُتسلِّلاً بحذرٍ شديدٍ عبرَ نوافذ ماضيه، باحثاً عن إشراقة شمس تضيء حاضره النازف الطافي، وتستشرف غده الراكد المعطوب، وتستنقذ أنين وجعه الراهن المغيَّب الذي يُجيلَ النظرَ بحثاً عن أثر له في أوروك، فلم يجده، فلا أوروك هي أوروك الحاضر والمستقبل، ولا الوطن هو الوطن الحاضر الواعد بالحياة:

جَالَ فِي أرجاءِ أُورُوْكَ

طَوِيْلَاً

بَاحِثَاً عَنْ أَمْسِهِ المُشْمِسِ

فِي أَحْيَاءِ عَدْنَانَ

وَطَيٍّ وَمَضَرْ (70)

***

"يتبع"

د. جَبَّار مَاجِد البَهادِلي

..................

 (*) من كتاب يحمل نفس العنوان قيد الطباعة حاليا ..

 

في المثقف اليوم