قراءات نقدية

طارق بوحالة: رواية زنقة الطليّان لبومدين بلكبير.. سرديات الهامش ومتخيل الرفض والمقاومة

ينخرط الروائي الجزائري بومدين بلكبير في المشهد الأدبي الجزائري المعاصر منذ سنوات، وقد تحقق له هذا التواجد من خلال كتاباته المختلفة وأبرزها روايات خرافة الرجل القوي، وزوج بغال، وزنقة الطليان...

وتعد رواية زنقة الطليان الصادرة عن منشورات الاختلاف/الجزائر، ودار ضفاف/ بيروت، 2021، من النصوص الروائية الجديدة التي تعتني بتيمة المدينة، وذلك فهي تفتح حديثا عميقا عن حياة مجموعة من المهمشين الذين يعيشون في "زنقة الطليان"، وهي حي شعبي عتيق من أحياء المدينة القديمة "بلاص دارم" المتواجد في قلب عنابة، المدينة الساحلية الواقعة في الشرق الجزائري

 أخذ الروائي على عاتقه مهمة صعبة وشاقة، حين سعى جاهدا إلى إعادة تشكيل هذا الحي "زنقة الطليان"  من منظور فنيّ، ليعبر به عن حال وملامح المدينة العتيقة.

تنصهر شخصيات زنقة الطليان، وتذوب داخل "حياة تنهش ما تبقى من أدميّة الناس، والنسيان الذي بمثابة  سيف مسلط على رقاب القاطنين هنا...(رواية زنقة الطليان، ص 30)

 "دلال سيعدي" هي الشخصيّة الرئيسيّة الفاعلة في الرواية، اختارت العيش في شقة في بناية قديمة ومتهالكة، حالها كحال البنيات المتواجدة في المدينة العتيقة، شقة بائسة في حي عتيق، بناياته مهددة بالسقوط، أو بالإزالة النهائية، وترحيل السكان إلى بيوت وسكنات جديدة. وإنجاز مشروع سياحي وتجاري مكان هذه السكنات.

تتمسرح أحداث الرواية عبر هذا الفضاء الذي يؤثث معظم معالم وزوايا رواية زنقة الطليان، إنه فضاء: الماضي الجميل والحاضر البائس والمستقبل الغامض. فضاء يحيل على تصارع بين هويتين، هوية أصيلة يمثلها المكان التاريخي، والعريق وهوية مصطنعة تشكلها أصوات  المقموعين، أصوات دلال سيعدي وناجي الرجلة وجلال الجرناليست وفيصل بونخلة ورشيد العفريت ورؤوف سكتة بن علجية المداحة وزبيدة الشوافة وغيرهم.

هي إذن "زنقة الطليان" حي شعبي عريق يجمع بين أناس بسطاء، ينحدرون من عمق المجتمع، بما ينضح به هذا القاع من فقر وبؤس وبساطة وعفوية وتعاون وطيبة، وكل المفارقات التي تجد في تلك الأمكنة بنية خصبة لها. (الرواية ص137).

يقف هذا المكان في مواجهة مباشرة ضد كل أشكال التغيير التي تطال ملامحه التاريخية والحضارية، مكان يرفض أن يتنازل عن هويته الأصيلة، من خلال جهود أبنائه الذين يرفضون تغيير ملامحه، وهو ما تكشفه لنا مواقف "جلال الجرناليست" وفيصل بونخلة، إذ يمثل جلال صورة عن "المثقف" الرافض للوضع، والذي يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن زنقة الطليان خاصة والمدينة العتيقة عامة ضد كل محاولات التغيير أو الهدم النهائيّ. يدافع عن هوية المدينة التي لا تمثل بالنسبة إليه -وهو الوافد عليها من مدينة جزائرية داخلية- مكانا جغرفيا فحسب، بل تحيل بالنسبة إليه على الهوية التاريخية لمدينة عنابة ككل. هذا الموقف الذي يجلب له المتاعب، ويكلفه السجن، ثم الموت بسبب الإضراب عن الطعام.

ومن تمثيلات الهامش في الرواية لجوء دلال إلى عالم الشوافات وقراءة الكف والبحث عن الحظ، أملا في الحصول على قلب جلال الجرناليست، هذا العالم الغريب الذي يفتح لها المجال للقيام بزيارة أحد شيوخ الزوايا، الذي يعدها بتمكينها من جلال. 

كما تنخرط دلال  بإيعاز من زبيدة الشوافة في عالم الأضرحة والمقامات والزرد، هذه وهي مساحة ضمن المتخيل الروائي تحيل على مظاهر الاعتقاد الشعبي وممارسة الطقوس السحريّة، من جذب وحناء وشموع وغناء وعزف. مما يوفر لدلال حالة جميلة، يتقاطع فيها الواعي واللاواعي. خاصة وقد وجدت في هذه الممارسات والطقوس شكلا من أشكال الهروب من واقعا البائس، ووحدتها القاتلة. ومستقبلها المظلم.

كما تفتح هذه الرواية نقاشا يختص بطبيعة العلاقات الاجتماعية ومظاهر الممارسات السياسية، وطريقة العيش داخل المدينة العتيقة، كما تُخضع صياغة أسماء كثير من الشخصيات إلى نظام الأزقة والحارات الشعبية وحياة المهمشين. هذه المواصفات التي تشكل غالبا صورا نمطية لا تحيل بالضرورة على هذه الأمكنة، التي ليست دائما مواطن للفقر والحرمان والجريمة والفوضى فحسب. فليس الهامش مرادفا للمهمش، الهامش هو عالم مواز للمركز، الهامش مكان للمقاومة، يختاره أصحابه من أجل إثبات البقاء ضد القهر والتهميش. وهو ما حاولت الرواية تجسيده عبر شخصيات الرواية الذين يعيشون في زنقة الطليان.

وتعبر رواية زنقة الطليان عن ماضي الشخصيات المؤلم، وعن أحلامها المؤجلة وتتحدث عن الصراع بين واقع مزيف ومتآكل، ومستقبل غامض وشاحب تسيّجه أحلام وآمال مؤجلة. تتقاسمها ذوات متشظية، تعيش تشققات نفسية وروحيّة.  وتعد دلال أكثر هذه الذوات حيرة ومعاناة، فهي تعيش صراعا داخليا، كونها المرأة الآتية إلى هذا الحي هربا من حياتها البائسة وواقعها المرّ الذي كانت تتقاسمه مع زوجها السابق في منطقة معزولة بعيدا عن عنابة. لتكون بذلك قد غادرت مكانا مهمشا إلى مكان هامشي.

ولا تختلف حياة أغلب شخصيات هذه الرواية عن حالة دلال سعيدي، فشخصية نجاة مثلا والمعروفة باسم "ناجي الرجلة"، تمثل أبرز صور الحيرة والاضطراب الجنوسي فهي التي تتشبه بالرجال، في مظهرها وكلامها وسلوكاتها بهدف حماية نفسها من المخاطر المعروفة في هذه الأماكن. وهي التي تنام في الشارع منذ 15 سنة. لتكون نهايتها تراجيدية، حين يُعثر عليها جثة هامدة  في الخرابة التي كانت تعيش فيها، وذلك بعد أن تفترسها القطط التي ربتها وشاركتها الطعام والمأوى. وليس افتراسها إلا تمثيلا رمزيا يختاره الروائي من أجل التعبير عن إنهاء هذه الحيرة الجندرية.

أما شخصية رشيد العفريت، فتمثل الرجل الدرويش صاحب الأسمال البالية الذي يجوب شوارع المدينة وأزقتها طولا وعرضا، وما دروشته تلك إلا ليختفي ورائها عن الأعين. ليتم القبض عليه بعد ذلك بتهمة الدعوة إلى طريقة دينية محظورة، والتبشير بشيخها ميرزا غلام أحمد.  

تعود دلال سعيدي في نهاية الرواية للظهور بعد أن صارت مشردة في شوارع عنابة، تعيش في كوخ قرب دار الماليّة، بعد أن فقدت عملها وطردت من زنقة الطليان مع من طردوا. الأمر الذي يخلق في داخلها  بركانا من التشتت والاضطراب من الصعب النجاة منه...الرواية ص 209.

تمارس "المدينة العتيقة" ومن خلالها زنقة الطليان عمليّة صهر وتذويب لكل الوافدين إليها ، وتحولهم إلى أفراد بملامح جديدة، يخضعون إلى سلطة هذا المكان بماضيه الجميل وحاضره المأزوم، ومستقبله الغامض.

كما تستحضر الرواية وباء كورونا، وتوظفه في تشكيل نهايتها المفتوحة، حيث تكتشف دلال وهي تجوب شوارع المدينة، أنها شوارع فارغة ذات ملامح باهتة وشاحبة، مصيرها مجهول، أمكنة دون روح.  تعبر دلال عن هذه الحالة قائلة "الحركة تكاد تكون منعدمة، وأنا وحدي ولا شيء حولي سوى الأشباح غير المرئية تتجول في شوارع وساحات وبين بنايات وسط المدينة، يكاد لا يظهر لي جنس بشر." الرواية ص 218 .

 ويظهر أن الرواية تلتقط هذه النهاية المفتوحة بهدف ربطها عضويا بمصير زنقة الطليان والمدينة العتيقة، وكذا مصائر شخصياتها، هذا المصير الذي يبقى غامضا ومجهولا.

 

د. طارق بوحالة -الجزائر

 

 

في المثقف اليوم