قراءات نقدية

عاطف الدرابسة: جدليَّةُ الصَّوت والصُّورة في شعر البردوني ..

عاطف الدرابسةأولاً: مشكلة الصورة والصوت:

لا أعتقد أن الصُّورة وحدها هي مَن يُشكِّل العمل الفني، وإنما هي وحدة بنيوية من مجموع وحدات العمل الفني، ولذلك إن الدراسة الموضوعية ينبغي أن تتحد فيها فكرة الصوت مع الصُّورة، وأعني هنا بالصوت اللغة، فاللغة في الأصل هي صوت .

ثانياً: إن أية صورة فنية في أي عمل فني هي مرآة أو دال يكشف عن ذائقة الشاعر، وعن عصره، وعن مذهبه .

ثالثاً: إن الصُّورة الفنية في الأعمال الأدبية لا تتشكل بنيوياً وفق نسق واحد، أو أسلوب واحد، وإنما هي مرتبطة بالبنى السياسية، والاجتماعية والثقافية لأي مجتمع، وإن أية صورة فنية هي من يعكس أغراض الشعر، واتجاهاته، وأساليبه .

رابعاً: إن الناقد أو القارئ للعمل الفني محكوم بنظام معرفي، كما أنه محكوم بتجربته الحيَّة، هذان الأمران متحدان ينعكسان على فهمه لطبيعة الصُّورة ووظيفتها في العمل الفني، آخذاً بعين الاعتبار أن كل مبدع يستند إلى موروثه السيسيوثقافي، وإن لغته هي بنية عاكسة لهذا الموروث، كما أن أي نشاط ذهني، وأي نشاط خيالي لا يمكن أن ينطلق إلا من هذا الموروث .

إن الخيال هو المحرك الرئيسي للنشاط الذهني، والخيال كما هو قار ناتج عن الحواس الخمس، فما تشعر به هذه الحواس يمرُّ بالعقل، حيث يُعيد العقل إنتاجه .

خامساً: الشعر عموماً لا يتصل بالجانب العاطفي أو العقلي وحده، وإنما يتصل بالجانب الحسي، فالصورة عموماً على نحو ما مرتبطة بالعالم الخارجي، ويمكننا أن نفهم هذا المصطلح في إطار نظرية المحاكاة، وهنا لا يمكننا أن نفصل بين مفهوم الصُّورة في الشعر، ومفهوم الصُّورة في الرسم التقليدي، وهذا الشكل من الصور الفنية ناتج عن تفاعل الذات مع الواقع .

سادساً: إنَّ الإنتاج الأدبي شطران متقابلان هما: الإرسال ونعني به الترميز أو المُنتج، والتلقي، ونعني به هنا فكَّ الرموز أو الفهم . ونحن هنا إزاء نوعين من أنواع آليات تحليل الخطاب هما: أسلوبية الإنتاج، وأسلوبية التلقي .

أما أسلوبية الإنتاج فهي بنية النص، أي هي الرموز المكتوبة، وهي رموز تجريدية، هذه الرموز التجريدية لا يمكن أن يكون لها معنى إلا من خلال القارىء، أو من خلال عملية القراءة، أو عملية التلقي، وهنا ينبغي أن نعترف بأنَّ النص المكتوب هو بنية ساكنة لا حياة فيها، وحين يصبح مقروءاً يتحوَّل الى بنية حية، والقارئُ هو مَن يجعل من النص بنية حيةً ؛ لأنه يتطلَّب من القارئ جهداً كبيراً، وتعاوناً متواصلاً لملءِ الفراغات، واستدعاء الأشياء المُغيَّبة أو المُحتجَبَة، وهنا فإنَّ مثل هذه القراءة يمكن أن نُطلقَ عليها مصطلح القراءة السابرة، أو القراءة الحافرة، أو القراءة المُتمدِّدة .

وهنا يمكننا أن نثقَ بفكرة أنَّ كلَّ قراءة هي إعادة إنتاج للكتابة، ويكون بذلك القارىء والكاتبُ شريكين متوازيين في إبداع النص، وبناء دلالاته، والكشف عن أنظمة الخيال فيه .

سابعاً: إنَّ أيَّ نص أدبي ينبني على تراكيب لغوية خاصة، هذه التراكيب تأتي على هيئة متتاليات: نحوية، وصرفية، وبلاغية، وإيقاعية، لا تكون في مفردة واحدة وإنما تظهر على هيئة مجتمع لغوي، وأيُّ قيمة أسلوبية بنيوية لأيِّ عنصر لغوي تخضع لشروطٍ فنية وموضوعية، وتاريخية، يعني بحسب العصر، والبيئة، والنوع .

وأيُّ نصٍّ أدبي على الإطلاق هو نصٌّ مفتوح ومغلقٌ في آن، مفتوحٌ باعتبار أنَّ الإشارات اللغوية، أو الدوالَّ تقع خارج اللغةِ، وخارج النص، ومغلقٌ باعتبار أنَّ اللغةَ حين تتحرَّكُ من حيِّزها الواقعي، ومن إحالاتها الواقعية إلى حيِّزها النَّصي تصبحُ مغلقةً بالمعنى اللساني، والمعنى البنيوي، فتخضع لشروطِ الانحراف، والتباين والتنافر، والتضاد، والتشبيه، والاستعارة، أي بمعنى آخر فإنَّ المُبدع يفرضُ عليها قانونَ العزلِ، إذ تدخلُ بعلاقاتٍ بلاغية، ونحوية مختلفة عمَّا كانت عليه، أي تمرُّ عبر فلسفةِ المجاز بين مستويين من الدِّلالة: الدِّلالة الذاتية وهي الموجودة في الواقعِ، والدِّلالة الإيحائية، وهنا يحدثُ جَدلٌ نقدي، أو جَدلٌ تأويلي بين نظامين: نظام الدِّلالة الذاتية (العُرفية)، ونظام الدِّلالة الإيحائية.

وحين ننتقلُ إلى مستوى الدِّلالة الإيحائية، فنكون قد دخلنا في مرحلة تمدُّد القراءة، أو دخلنا في مفهوم الدِّلالات المتعدة، أو دخلنا في مفهوم التوسع.

 

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

 

في المثقف اليوم