قراءات نقدية

عاطف الدرابسة: قراءةٌ نقديةٌ في قصائد الشاعرة (دوريس خوري)

عاطف الدرابسة١- ثمَّةَ إشاراتٌ لغويةٌ، ورمزيةٌ، وابستمولوجية، وسيسيوثقافية تحتجبُ خلف هذه البِنى اللغويةِ، وتخرجها عن عذريَّتِها، وعن فطريَّتِها، فالشاعرةُ تكشفُ عبر لغتها عن تجربةٍ غنيةٍ، وعميقةٍ في آنٍ، لا يمكن أن نفصلَها عمَّا هو خارجي؛ إذ اجتمعَ في هذه النصوصِ ما قبل الشعورِ، والشعورِ، واللاشعورِ، وأعني هنا بما قبل الشعوريةِ الدرجةَ المتعاليةَ من الحريةِ في التخييلِ الرَّمزي (allegory)، وفي التخييلِ الشكلي .

إنَّ موادَّ ما قبل الشعورِ حين تتحوَّلُ، وتجدُ لها شكلاً تعبيرياً تدخلُ إلى حيِّزِ الشُّعورِ، وتتخذُ شكلاً لغوياً شعرياً، عندها يجبُ أن ندخلَ إلى منطقةِ اللاشعورِ الجمعي، وهي ما يمكن أن أُسميه (المعرفة العميقة)، وهذه النصوصُ تكشفُ عن بِنيتين: بِنيةٍ مُدركةٍ ظاهرةٍ، وبِنيةٍ محتجَبَةٍ خفيةٍ، ويبدو أنَّ (دوريس خوري) ذات قدرةٍ لغويةٍ فعَّالةٍ، تستطيعُ من خلالها إعادةَ إنتاجِ موادِّ ما قبل الشعورِ، وتحميلِها دلالاتٍ معاصرةٍ، تستجيبُ لواقعها، وتُشكِّلُ في الوقتِ نفسه رؤيتَها لهذا الواقعِ، وموقفَها منه .

٢- ففي قصيدتِها (لجفرا مُقلةُ العين)، تتجاوز الشاعرةُ كلَّ ما ورثته من أفكارٍ ومعرفةٍ عن جفرا الحقيقية، التي ثارت على زواجها، وانتصرت للحبِّ، كما أنَّها ثارت على جفرا الشهيدة، التي استُشهدت في لبنان، تلك الطالبةُ التي كانت تدرسُ في الجامعةِ، فجفرا عند دوريس أكبر من امرأةٍ، إنَّها (فلسطين)، بكلِّ ما تعني فلسطين: من تاريخٍ، وأساطير، ودينٍ .

إنَّ إعادةَ إنتاج جفرا على مستوى الدلالةِ فرضَ على الشاعرةِ شكلاً روائياً (شكلاً سردياً)، فظهرت الشاعرةُ راوياً، يسردُ روايةً من شخصيتينِ: اللاجئِ وجفرا، وهنا يمكننا أن نقولَ بثقةٍ إنَّ هذه القصيدةَ روايةٌ بالشعرِ، تقومُ على شخصيتينِ رمزيتينِ: الأولى شخصية اللاجئِ التي تختزلُ فكرةَ اللجوءِ بكلِّ أبعادها النفسيةِ، والحركيةِ، والمعنويةِ، وشخصيةِ جفرا تخنزلُ مفهومَ الأرضِ، الوطنِ، المأوى .

ويمكننا أن نلمحَ الشكلَ الروائيَّ في المقطعِ الأولِ، هذا المقطعُ ينهضُ على فعلينِ: الأولِ الفعل المضارع، الذي جاء متماهياً مع رمزِ اللاجئِ، لأنَّه يشيرُ بلاغياً إلى التجدُّدِ والاستمرارِ، والحركةِ الدائمةِ التي تنسجمُ مع حالِ اللاجئِ من مثل:

يسابقُ الطيور.. يسافرُ مع الريحِ.. يجوبُ القفارَ ... يزرعُ بين كفيه حباتِ القمح (وهذه صورةٌ فيها إدهاشٌ، ويمكننا أن نتخيَّلَ كيف يزرعُ اللاجئُ بين كفيه القمحَ، فالفعلُ يزرع يوخي بالثباتِ، لكن شبه الجملة الظرفية -بين كفيه- جعلت الفعلَ (يزرعُ) ينزاحُ إلى إشارةٍ أخرى، فبين كفيه توحي بأنَّ هذا اللاجئَ لا أرضَ له) .

وتتوالى الجملُ الفعليةُ، التي تشيرُ إلى حالِ اللاجئِ كما يظهرُ من قولها:

قال اللَّاجيءُ:

ما لكِ يا جفْرا لِلاجِيءٍ مِثلي

يُسابقُ الطُّيورَ في الصَّباحِ يُسافرُ مع الرِّيحِ

يجوبُ القِفارَ يبحثُ عن لقمةِ عيشٍ

يزرعُ بين كَفَّيْهِ حبَّاتِ قمحٍ

فتأْتي العصافيرُ أسراباً وجحافلَ

تَنْقُدُ حبَّاتي بِصَمْتٍ فَتَطْرَبُ

وتُغرِّدُ شحاريرُها

يُنْشِدُ الموالَ يعودُ في المساءِ

يَعْتلي قبّةَ السَّماءِ

ينامُ بين طيَّاتِ الغيْمِ

يَسْمعُ أنينَ المُتَألِّمينَ  وخُوَارَ الجائِعينَ

فماذا يفعلُ لاجيءٌ مِثلي في المنْفى؟ ..

لا مكانَ لهُ

ولا مأوىً

حتّى اللهُ لمْ يقْبَلْهُ في قبّةِ سمائِهِ ..

ففي هذا المقطع المُثقلُ بالإنزياحِ، أشارت فيه الكاتبةُ إلى حالةِ التيه والضياعِ التي يمرُّ بها اللاجئُ، وهنا نلاحظُ فكرةَ قلقِ المصيرِ، وقلقِ الوجودِ .

ثمَّ يأتي صوتُ جفرا، بأسلوبِ الأمر:

قالتْ جفرا:

هيَّا أيُّها المنفيُّ

أنْزِلْ شِراعَ سفينَتِكَ

واصْعَدْ فوقَ كَرْمِلي

واعبُرْ نفَقَ القلبِ

ها كبُرَتْ أنوثةُ مُفْرَداتي

وحَرْقةُ الوردِ لِشَمِّ رعشةِ عِطْري

هيَّا ألبسْكَ ثوبَ مَطري

كيْ أُلْغيَ طُفولَتي

واكتَشِفَ فيكَ أبعادَ لُغَتي وقاموسَ غِوايَتي

هيَّا أُعبُرْ إلى منْفاكَ

حيثُ لا عسكرَ ولا بنادقَ سِوى

وصْوَصاتِ مناقيرِ عصافيري تدوي

في جنباتِ قلبِكَ المذبوحِ

هيا اقتَرِبْ وأنْزِلْ شِراعَكَ فوقَ صَدْري

واهْجَعْ كالقتيلِ في خليجِكَ كي تنامَ

هنا...  تَجِدُ ملاذاً آمِناً !

هنا تكشفُ الشاعرةُ عن أنَّ جفرا هي الوطنُ البديلُ لهذا اللاجئِ المنفي، غير أنَّ هذا الوطنَ لا يُعدُّ بديلاً موضوعياً عن هذه الأرض، إنَّه بديلٌ حالمٌ، وبديلٌ نفسيٌّ، وكأنَّ الشاعرةَ هنا تُمارسُ طقوسَ التحويلِ، كما تمارسُ في الوقتِ نفسه طقوسَ التعويضِ، كما يظهرُ من قولِها:

أُعْطيكَ ... إقامةً دائمةً في قلبي

لكَ شجرةُ حُلمي ...

لك كلُّ ما تتَمَنّاهُ

أنا عُصْفورَةُ المَنْفَى

مِنْ شرايينِ قلبي

نَسجْتُ لكَ خَيْمَتي

مِنْ أورِدَةِ شراييني

حِكْتُ لكِ ثوباً بنفسجيَّاً

نَصَبْتُ لكَ أُرْجوحَةً

لِقَلْبِكَ المُتْعبِ

كي تَعْتَلي عرائِشَ كَرْمَتي

المُطِلَّةِ خلفَ أسْوارِ حدائِقي

حدائقٌ أبْهى مِنْ حدائقِ بابلَ

حدائِقٌ تُطِلُّ على مرْجِ السُّنْبُلِ

تجوعُ فأطْعِمُكَ مِنْ حبَّاتِ سنابلي

هيا اعْتَلي

كيْ أُهَدْهِدَ أجفانَكَ مثلَ طفلٍ صغيرٍ

تَعْطَشُ ... فأسْقيكَ ذوْبَ أحاسيسي

أرفعُكَ إلى قُبَّةِ هَرَمي

تُطِلُّ على دهاليزي

ومع كلِّ رُكْنٍ

ألفُ حكايةٍ وحكايةٍ ..

في هذا المقطعِ نلمحُ صورة الوطنِ البديلِ، حين يصيرُ القلبُ موطناً، وشرايينُ القلبِ خيمةً، والأوردةُ ثوباً، ثم تتحوَّلُ إلى حديقةٍ، وسهولٍ، وتصيرُ الأحاسيسُ ماءً .

غير أنَّ الخطابَ هنا يأخذُ منحىً جنسياً، لا بغرضِ الجنسِ أو التهييجِ، وإنَّما بغرضِ التوحدِ مع الوطنِ، وهنا يأخذُ النصُّ بعداً رومانسياً خالصاً، تبدو فيه العواطفُ وهميةً، لكنها تمنحُ اللاجئَ القوةَ للسيطرةِ على أوجاعِ غربته، ومنفاه، فالشاعرةُ هنا تجعلُ من جفرا رمزاً للحياةِ، والتجددِ، والأملِ في العودةِ، فالمرأةُ هنا معادلٌ موضوعيٌّ للحياةِ، ورمزاً يخرجُ اللاجئَ من دائرةِ ضعفه، كما يظهرُ من قولِ الشاعرةِ:

اللّاجيءُ:

جفرا يا مقلةَ العينِ ...

يا وطنَ المنفيينَ

ما لِقلْبِكِ ...

يعْشَقُ لاجئاً مِثلي

لا مكانَ له .. ولا مأوًى

جِئتُكِ بِيَدينِ فارِغَتينِ

جِئْتُكِ بِيَاسمينِ الشَّامِ

جِئْتُكِ بِشُلوحٍ من أرزِ لبنانَ

أرْسُمُكِ فوقَ السُّطورِ ...

أخُطُّكِ فوقَ الحروفِ

فوقَ الجَداولِ ..

فوقَ الحدائقِ .. فوقَ الشِّفاهِ

أرسُمُكِ لوحةً سِرْياليَّةً

لا يفْهَمُها سِوايَ

أرسُمُكِ فوقَ نِقَاطِ دهشتي ...

فَتَعودينَ مثلَ طفلةٍ صغيرةٍ

تَسْألينَ عن سِرِّ القُبلَةِ الأُولى ...

عن طَعْمِها عن لَوْنِها ...

عنْ قُبْلةٍ تَعْصِفُ بِجَنَباتِ خَيْمتِكِ

تَجْتاحُكِ من مُحيطِكِ لِخليجِكِ

أُعْطيكِ قُبْلةً كيْ يَتَذَكَّرَني

توتُ الجليلِ على شفتيْكِ

قبلةً ما زالتْ ساخِنةً

كَرَغيفِ القُبْلَةِ الأُولى

لكِ جمعتُ أشعاري حبَّةً حبَّةً

لكِ ضَمَمْتُ غِماري

وأغْلى حَصَادِ سِنيني ...

- يحفل هذا النصُّ بالرموزِ الدينيةِ والأسطورية التي تؤكدُ فكرةَ الخلاصِ.

- تحتوي القصيدة على سؤال الوجود، على لسان جفرا: لماذا لا يقبلنا الله في عرشه ؟

- من تحولات الرموز الدينية:

- جفرا هزي جذع نخلتك .

- يا ربة العشق .. يا ربة الجمال .

- أنتِ ديني وأنتِ عهديَ الجديد .

***

د. عاطف الدرابسة - الأردن

 

 

في المثقف اليوم