قراءات نقدية

ليلى مناتي محمود: تجليات التأثير والتأثر بين الأدبين العربي والغربي

ليلى مناتي محمودإن التأثير بين اللغات قانون اجتماعي إنساني، وإن تلاقي الثقافات، واحتضان بعضها لبعض، مظهر طبيعي وصحي للثقافة الإنسانية، ويمكن الإشارة إلى حركتي التأثير والتأثر بين الثقافتين العربية والغربية، على مر المراحل التاريخية، وداخل هاتين الثقافتين ايضاً كانت هناك على الدوام تيارات أدبية تنقل من بلد الى آخر، إما للتأثير في الآداب الاخرى، وإما نشدانا لما به يُغني ويُكمل ويساير الركب الأدبي العالمي .

ولابد أن نذكر أن التواصل بين الشعوب القاطنة بين بلاد العرب والبلد ان الاجنبية،لم ينقطع أبداً منذ بداية التاريخ، وانه قد  أشتد وتوثق بعد رسالة النبي محمد (ص)- او ما يسميه المؤرخون الحضارة الاسلامية، إذ امتد سلطان العرب من اسبانيا والبرتغال غرباً الى الصين شرقا، ومن سفوح الاناضول شمالاً الى وسط افريقيا جنوباً .

مما جعل الحضارة الاسلامية رافداً رئيساً مؤثراً في الحضارة الغربية بما  حملوه معهم من فنون وآداب .

فمجر التشابه او التقارب بين نص أدبي عربي او غربي لا يُعّد دليلاً على التأثير والتأثر بينهما، ولكن الموازنة بين أوجه هذا التشابه على اساس تأريخي وتقني لعناصر اي جنس أدبي هي التي تحدد  امكانية الأخذ والعطاء بينهما، ومن الاشكال الابية المتأثرة هي :

الشكل الاول: (الفابلولا): تعّد الفابلولا احد الاجناس الادبية الاولى للقصة، ظهرت في فرنسا منذ منتصف القرن الثاني عشر الميلاد، وحتى اوائل القرن الرابع عشر وهي أقصوصة شعرية تحمل روح ومعنى الهجاء الاجتماعي، يقول (جاستون باري) احد أعمدة الادب المقارن الاوائل عن الفابولا، انها استمدت عناصرها وروحها من كتاب (كليلة ودمنة) الفارسي الاصل،  الذي ترجمه ابن المقفع وكانت فكرته الاساسية هي الحِكَمْ والفلسفات التي تقال على ألسنة الحيوان، وتُعّد الترجمة العربية لـ(ابن المقفع) اساساً مباشراً أخذت عنه الفابلولا ومن أمثلة الفابلولا الغربية أقصوصة تسمى (اللص الذي اعتنق ضوء القمر) تحكي عن لص يخدعه احد الاشخاص بأن للقمر سحراً خاصاً في نقل الاشخاص  دون صوت من مكان إلى آخر، ويصدق اللص الخدعة، ويقع في يد الشرطة، ونجد هذه الاقصوصة نفسها بالكيفية والفكرة والتفاصيل الدقيقة نفسها في كتاب (كليلة ودمنة) لابن المقفع .

اما الشكل الثاني : قصة حي بن يقطان

من اشهر القصص العربية التي تأثر بها الادب الغربي – قصة حي بن يقظان – التي كتبها الفيلسوف ابن طفيل في القرن الثالث عشر الميلادي في اسلوب قصصي رمزي في شكل صوفي يدعو فيها الى معرفة الله عن طريق العقل والتأمل الواعي، وقد تُرجمت الى العبرية واللاتينية والانكليزية في القرنين الرابع عشر والسابع عشر، وراجت في اوربا رواجاً كبيراً، فألفوا على منوالها، وتأثربها الكلاسيكيون، والرومانتيكيون، وترجمت الى الفرنسية والروسية وقد تأثر بهذه القصة الكاتب الاسباني (بلتاسار حراثيان) حتى انه كتب قصته (النقاد) على نفس خط حي بن يقظان لابن طفيل الأندلسي ولو تأملنا الفضاء المكاني للرواية للاحظنا تشابهاً كبيراً، فنحن امام فضاء واحد (جزيرة نائية) كذلك نجد فيها إنساناً وحيداً، يحاول أن يفهم وسيتكشف ما يحيط به فهو يعيش العزلة والبدائية، يصل الى الايمان عن طريق استعمال العقل اولاً ثم الحدس، وكأنه يطلب من الناس أن يمنعوا النظر في هذا الكون ليتوصلوا الى الايمان بعقولهم وقلوبهم، لا أن يكون ايمانهم ايماناً تقليدياً .

المحور الثاني:  تأثر الادب الغربي في الادب العربي

الاسطورة (بيجامليون) وتأثيرها في مسرحية توفيق الحكيم

يُعّد الاديب المصري (توفيق الحكيم) من الادباء القلائل الذين اعادوا صياغة الاساطير اليونانية، وتجسدها على شكل مسرحيات ذهنية، ولعل اسطورة بيجامليون تحكي قصة فنان ينحت تمثالاً من الرخام يتوسل الى الالهة في أن تبعث الحياة في هذا التمثال حتى اذا ما استجابت الالهة الى دعائه يتحول التمثال الى جالاتيا الإنسانة ويتزوج بها بيجاملون

اما عن تأثر توفيق الحكيم بهذه الاسطورة فيعود في اساسه الى حكايته فيقول : انه شاهد فلماً سينمائياً في القاهرة عن بيجامليون مأخوذة من مسرحية برناردشو، وهذا يدعونا الى تأمل في قيمة التلاقح بين الآداب .

الا ان توفيق الحكيم قدم تجديداً واضافات  على إبداعه حيث جعل الصراع يدور في روايته بين روعة الفن عندما يبلغ درجة الابداع، وبين واقع الحياة .

اما الشكل الثاني : الشعر العربي الحديث قصيدة (الارض الخراب) للشاعر ت.س.اليوت واثرها في (انشودة المطر): إن دراسة السياب للادب الغربي في نماذج الحداثية لاسيما شعر اليوت هي العنصر الحاسم في تغيره باتجاه حادثة شعرية عربية رائدة، تذهب الناقدة ((سلمى الخضاء الى ان السياب، قد استعمل أسطورة الخصب والحياة بعد الموت بمهارة الفنان في قصيدته المفتاحية (انشودة المطر) بدراسته لقصيدة اليوت الشهيرة (الارض الخراب)، وكما استعمل (اليوت) اسطورة الخصب والبعث، استعمالها السياب ايضا، فجعل من الماء محور القصيدة، ماء الخليج الذي يحمل الموت للمهاجر وماء المطر الذي يجيء بعد زمن القحط والسياب ليبعث الربيع النضر من قلب الشتاء، إشارة الى امكان انبعاث الحياة الطبية بعد زمن الموت والفناء .

إن تلاقي الثقافات، واحتضان بعضها لبعض، مظهر طبيعي وصحي للثقافة الانسانية، والنماذج السابقة تبين أن عملية التأثر بالآخر عملية  طبيعية لتطوير عملية الإبداع، وتنويعها.

 

الاستاذ المساعد: ليلى مناتي محمود

 

في المثقف اليوم