قراءات نقدية

قصي الشيخ عسكر: بطل قصة السيرة عند د. صالح الرزوق (1)

قصي الشيخ عسكرقصة بيت الوالدة في حلب ذكرياتي مع رياض الصالح الحسين

قبل بضعة أشهر كتبت بحثا مطولا عن  قصص السيرة عند الأديب الدكتور علي القاسمي وكنت أنوي الكتابة عن قصص الدكتور صالح الرزوق بصفة عامة وقصص السيرة أيضا وحين كلمت الدكتور الرزوق حول الموضوع وجدته قد تردد ولم يحبذ الفكرة خشية من أن يتقوّل بعضهم فيُقال اكتب لي وأكتب لك لأنّ الدكتور الرزوق كان قد ألّف كتابا عن أعمالي الرّوائية وبعد ذلك نشر مقالات نقديّة عن شعري ورواياتي لو جُمِعت لأصبحت كتابا  ثانيا من تأليفه عني.

على وفق رغبته أعرضت عن الموضوغ غير أنني تلقيت رسالة حميمية من الصديق الأديب والمفكر ماجد الغرباوي يعرض عليّ اقتراحا  بصدد الكتابة عن أعمال الرزوق التي تستحق الدراسة والتحليل فكأن السيد ماجد نبهني إلى مسألة مهمة ربما طال سكوتي عليها هي قضية كتابات الدكتور الرزوق القصصية وأوّل ماتبادر إلى ذهني قصصه التي تعنى بالسيرة حيث كتبها بصيغة قصصية مذهلة تشدّ القارئ وأولى قصص السيرة التي فضلت الكتابة عنها هي قصّة (بيت الوالدة في حلب: ذكرياتي مع رياض الصالح الحسين) من العنوان ندرك أنها قصة سيرة لكنها لاتعنى بالحدث والواقع بصيغة المذكرات أو اليوميات الحرفيّة لأننا حسب القراءة لها نجد أنّ المؤلف صاغها على وفق نهج فني متراص البناء محكم التفاصيل فأدخلها النسج الفني في باب القصة. طبعا أعود وأذكر أن تسجيل الواقع وذكر الشخصيات الحقيقية لا يعني أنك تكتب أدبا  قطّ،على سبيل المثال: تجلس في الصباح تغسل وجهك ترتدي ملابسك تفطر تذهب الى السوق تشتري جريدة تجلس في المقهى تلعب الطاولة مع صديقك أو  الشطرنج.. لكن لو هيئ لتلك المسيرة كاتب متمكن لجعل منها قصة فنية بطريقة ما، والدكتور صالح الرزوق جعلنا نعيش قصة فنيّة دوّنها في سيرة من خلال أسلوبه الرصين وتحويل مبدأ الشفقة على البطل في المأساة إلى تعاطف. لم يجعلنا نشفق على البطل بل دفعنا إلى التعاطف معه بالوسائل المحكمة التالية:

دقة الوصف في المكان فهو يتحدث عن رياض الصالح الحسين وكأنه جزء من مكان حي يضجّ بالحياة وذلك لأن رياضا بعث الحياة في شكل شعري جديد هو قصيدة النثر:

التقيت لأول مرة بالمرحوم الشاعر رياض الصالح الحسين في شتاء 1976 في صالون اتحاد الكتاب العرب بحلب، الكائن في منطقة العبارة، قبل أن يتحول إلى شارع بارون، ويحتل المقر السابق لاتحاد العمال، أمام فندق بارون التاريخي، الذي كانت تأوي له أجاثا كريستي، كلما قامت بزيارة شمال سوريا.  

أعلاه الأسطر تضمّ على إيجازها وصفا دقيقا للمكان، صالون.. منطقة.. شارع.. فندق.. أربع مفردات خصبة تعج بالحياة بعدها مباشرة يتحدث الدكتور صالح عن بطل قصته:

كان رياض إيجابيا بشكل عام، ويركز معظم كلامه في مسائل الشعر وعلاقته بالتحرر والضمير.. ولم يكن يتخلى عن أناقته المتقشفة والبسيطة: قميص دون ربطة عنق وبزة رمادية.

إن الحديث عن  زيّ الشاعر جاء متوازيا مع الحديث السابق عن المكان. المكان بقي ثابتا لكنه تحوّل تحولا شكليات فتغير في الشكل فقط إلا أن ملامحه الأصلية بقيت زاهية حيوية ورياض يرتدي بدلة من دون ربطة عنق لأنه يبحث عن التحرر فيجده مرة بالصمت ومرة في قصيدة النثر التي كسرت احتكار الوزن والقافية واللون الرمادي الذي هو لون بزة رياض يدلّ على إيحات كثيرة منها 1 الغموض 2 الهدوء 3 التأمل 4 الصمت 5 المأساة 6 الحزن  وكل تلك المعاني تحققت في بطل القصة رياض الذي اختار عن عمد اللون الرمادي فهو غامض ويفضل الصمت كونه ولد أخرس وتعلم الكلام في مدرسة خاصة وحياته انتهت نهاية مأساويّة

أثر الزمن في المكان في موازاة حياة البطل:

قبل المكان بدأ السارد حديثه عن البطل بالزمان: رغم الحياة القصيرة التي عاشها رياض الصالح الحسين (٢٨ سنة)،

ثم تحدث عن المنجز الإبداعي وعاد للزمن مرة أخرى: التقيت لأول مرة بالمرحوم الشاعر رياض الصالح الحسين في شتاء 1976

إنّه يبدأ من النهاية بالضبط مثل الكثير من أفلاط السينما التي تباشر بلقطة من الخاتمة ثمّ تبدأ العرض وخير من يمثل تلك الطريقة في أدبنا الشرقيّ القديم مؤلف ملحمة جلجامش التي باشرها بلقطة أو صورة من النهاية عنوانها كما حفظه الكثيرون عن ظهر قلب: هو الذي رآى كل شئ فتغني بذكره يابلادي

ويأتي بعد هذا التقديم الزمني الفذ الزمن الموازي بين السارد والشاعر بطل القصّة هناك كتاب يصدر لصالح الحسين عنوانه (خراب الدورة الدموية) في الوقت نفسه يصدر كتاب للسارد عنوانه (دفاتر آدم الصغير)ويشير الكتاب الدكتور صالح الرزوق إلى أنّه ختم مقدمة كتابه بجملة مهمة هي (إليكم جميعا وجهي الدميم بمودة)عندئذ يعترض الصالح الحسين بقوله لكن وجهك ليس قبيحا يقول السارد (طبعا لم أكن أشير لمعالم وجهي، ولكن لوجه الحقبة الكئيبة التي نمر بها جميعا، بكل ما غلفها من أوجاع وخسارات).

ثمّ يتمّ تكثيف الصورة وتصعيدها حيث يبدو فعل الزمان بالمكان وكأنّ المكان هو البطل، ما يقع على المكان من تغيير وتجديد هو مواز لحياة البطل وفكره الذي يحاول التجديد في المعاني مع اختلاف ظاهر مخفي في الوقت نفسه هو أن فعل البطل بالشعر هو درجة أرقى من درجة فعل الزمن بالمكان مع التذكير أن الزمن ترك أثره السلبي على البطل بصورة تشبه أثره على المكان من مرض وعوق وقلق وقهر.

يتلاحق بعدئذ الزمن بفواصل مهمة منها سفر الكاتب إلى إنكلترا وتعرفه بحضارة جديدة وحصوله على الدكتوراه عام 1989 وبعملية موازية زمنيا أيضا تصدر -يوم حصل االسارد على الدكتوراه في نوتنغهام -رواية للكاتب عاموز عوس عنوانها الصندوق الأسود في حين يعود صاحبنا من نوتنغهام متأثرا بواقع جديد وفي فكره قصة جديدة يضع عنوانا لها هو (الصعود إلى سطح الماء) فيطلع رياضا عليها لينصحه أن يقدمها للاشتراك في إحدى المسابقات الأدبية.لقد جعل الكاتب الزمن يتلاحق ويتداخل من عام 1980 إلى عام 1985 حين يعود من وارشو ثم عام 1988 ليتحدث عن بطل قصته من خلاله هو وعن نفسه من خلال بطل قصته إن البارومتر الذي اتخذه كاتب قصة السيرة الفنية هو النتاج الأدبي الذي ينجو وحده من المؤثرات الزمنية القاسية إلى الحد الذي يفقد فيه كاتب السيرة إحدى قصصه لكنه يعثر عليها بعد عقود طويلة أي بعد أن تلاحم الزمن والمكان بشكل هستيري:

(كانت البلاد تمر بأزمة الحرب الأهلية، ونصف سوريا تحت رحمة المسلحين، وشرق حلب كله بقبضتهم. وهكذا جلست وأعدت كتابة قصة ذلك الشاب المتمرد والخارج على القانون بصيغة مختلفة تماما، واخترت للصيغة المعدلة عنوان «مثل السيف»، وأصبح المتمرد الوحيد فصيلة من المسلحين الذين يحتجزون في ريف حلب حافلة ركاب، ثم يجبرهم الجيش على الفرار. ونشرت لي القصة «جريدة العالم» في بغداد. وأسعدني الحظ في هذه المرة بترجمتها إلى الإنكليزية بمعونة أستاذ الأدب الأمريكي الحديث في أوهايو – لانكستر، وهو الدكتور سكوت ماينار. وتكفل بنشر الترجمة في مجلة أمريكية للناشئين والشباب، ويرعاها مترجمون وشعراء من رومانيا. ولكن يبقى السؤال في الذهن: هل خسارة النسخة الأساسية في المسابقة بقرار من رياض عصمت منفردا أم نتيجة لتوارد خواطر بينه وبين رياض الصالح الحسين؟).

الشخصيات بين المقارنة والموازنة والسلب والإيجاب:

يتبع

 

د. قصي الشيخ عسكر

 

في المثقف اليوم