قراءات نقدية

بسمة الشوالي: الذّئب في "حكايات من فوق الغيمات" للكاتبة الفلسطينيّة هدى ثابت

كتاب "حكايات من فوق الغيمات" مجموعة قصص موجّهة للطفل للكاتبة الفلسطينية هدى ثابت، صدر في طبعتين. الأولى باللّغة الانجليزيّة من ترجمة الكاتب السوري محمّد صالح عن دار صافي للنشر بواشنطن سنة 2016، والثانية باللغة العربية عن دار الاتحاد للنّشر والتوزيع بتونس سنة 2017. وعنه نقرأ في صحيفة دنيا الوطن الالكترونيّة أنّ" القصص هي عن حياة وأحلام أطفال غزة في الحرب الأخيرة على المدينة والتي أدّت إلى استشهاد الكثير منهم مع أحلامهم الكبيرة. هي قصصهم وهم يتلونها علينا في بيوتهم الجديدة فوق الغيمات". هي إذن قصص من قطاع غزّة وعنه بمُستوييه: الأرضيّ والسماويّ.

يتضمّن هذا الكتاب مقدّمة وإحدى عشر حكاية مرفقة بنفس العدد من الصور رسمتها الفنانة عدلة ثابت.

المقدمة ليست مدخلا نظريّا نقديّا ولا تفسيريّا، بل هي نفسها حكاية لا تختلف في البناء الفنيّ والأسلوب عن غيرها سوى أنّها كانت ذريعة سرديّة بسطت من خلالها الكاتبة مشروعها: تخليد قتلى الحرب عبر الحكاية حتى لا يكونوا "على لسانهم مجرّد أرقام"، كما يسعى إلى ذلك كيان الاحتلال الإسرائيلي. تقول بتلة زهرة عبّاد الشمس في المقدّمة/ الحكاية :" والله يا زهرتي لقد سمعتهم يذكروننا أرقاما، ألا يعرفون أنّ الشهداء ليسوا مجرّد أرقام؟"(ص7) ثمّ تقول: "سأوشّم جبينك الطّاهر بأرقامهم والأسماء، بحكاياتهم التي طرّزوها بالدّموع وصارت غيمات حملتهم بعيدا إلى السماوات." وما زهرة عبّاد الشّمس هاهنا إلاّ القدس، "زهرة المدائن" وما بتلتُها إلاّ هدى ثابت نفسَها في سعيها إلى مقاومة الوحشيّة الصّهيونية عبر إعادة إحياء الضّحايا من الأطفال في سماء القطاع وتخليدهم من خلال سردهم للحكايات، وعبر كتابتها ونقلها على أجنحة الأحرف للعالمين. أمّ الصور ومن ضمنها صورة الغلاف فتنقسم إلى منطقتين ومستويين من الإضاءة وفق مبدإ التناظر الأفقيّ. منطقة قاتمة في الأسفل تغلب عليها الألوان الحارّة الأزرق والأحمر والأصفر مع تكثيف درجة الظلّ والعتمة بتوظيف تقنية المزج بين الألوان. إذ لا حياة في منطقة الظّلمة والظلال والأدخنة. ليس إلاّ "وجهَ طفل من دون ابتسامة، ذلك أنّنا لا نبتسم حين تكون الحياة على تراجع، وحين يضعف القلب بضربات مرعبة." (أناندا ديفي)

إنما الحياة في مستوى أعلى. وهي منطقة مضاءة بشكل جيّد تتدرّج فيها الألوان المتعدّدة من القتامة إلى النّور، باتجاه البياض والشّمس. وفيها نجد الأطفال والفَراش والغيم المبتسم. وجوه الأطفال هناك كلّها بلا ملامح، فلا شيء يُرى منها غير ابتسامة مشرقة. إنّهم غيمات أخرى، ذوات مشكّلة من بياض الغيوم، يتحرّكون في عالم من ضباب، وأرواح مشبعة بالطفولة والحلم والجمال الأبديّ، يقاومون النسيان بالبسمة والحكاية. وهذا التقسيم الأفقيّ هو ما سيحكم منطق السّرد في هذا الحكايات رغم مظاهر الوحدة المختلفة

1) الوحدة في الحكايات:

وحدة الرّاوي: يرد في الصّفحة 11 من الحكاية الأولى التي بعنوان "الرّاوي: " هتف جميع الرّفاق: نعم أيّها الراوي. أخبرت النّاس عن حكاياتنا، حان دورك، نريد أنّ نسمع حكايتك" انطلاقا من هنا وحتى النهاية سترد كلّ الحكايات على لسان هذا الراوي حالما يفرغ من سرد حكايته. لكنّه لن يستأثر بفعل الحكي على معنى الراوي العليم، بل سيقوم بدور الراوي الجوّال على ظهر غيمته رقم (1) من مكان إلى آخر في "سماء القطاع" بحثا عن مناسبة ملائمة للسّرد كأن يثير انتباه الأصدقاء إلى غياب أحدهم (دبدوبة السّمينة التي أخفت عمدا رقم غيمتها عن الجميع) مثلا أو إلى غضب أحدهم من الآخر أو انتهاز مناسبة قادم جديد يروي حكايته أو يتعرّف إلى غيره: "وقعت غيمة عمر في مركز الوردة فكان عليه أن يعيد سرد قصّته ليتعرّف السّاكنون الجدد إليه" (ص 98)، حينها ينزاح الراوي قليلا عن أنظار القارئ ويسلم "الميكروفون الضبابيّ" للشّخصية حتى تروي حكايتها بنفسها. والسّرد هاهنا، هو معبر الرّجوع الوحيد إلى أرض القطاع لهؤلاء المهاجرين الصغار قسرا إلى السماء، معبر لا يمكن لجيش الاحتلال غلقه أو منع العبور منه أو تقنينه على نحو مجحف بأبناء الأرض الأصليين.

وحدة الموضوع وذريعة السّرد الواحدة: وهي ما سبق بسطه في معرض حديثنا عن مشروع الكاتبة في المقدّمة.

وحدة مصير الشّخصيات: كلّ الشّخصيّات الرئيسيّة أو أصحاب الحكايات هم من الأطفال ساكني الغيمات بسماء قطاع غزّة. تتراوح أعمارهم بين الأشهر الجنينيّة مثل بائع الحلوى الذي "كان جنينا صغيرا لا يزال حبله السُريّ مرتبطا به" (ص75) وبين من لا يتجاوز السنّ الثانية عشر فيما نُقدّر. نقرأ في الصفحة 11: "محمّد تصله الكرة، لكنّه مازال صغيرا. صغيرا إلى درجة أنّه لا يستطيع تحديد الهدف بدقّة." وفي ص32: وفي علاقة بمحمّد أيضا: "ما أجمل أن يكون الإخوة وأبناء العمّ بنفس العمر". من حيث الجنس: هناك خمس إناث، أربعٌ فتياتٌ: أريج، ياسمينة، أماني، ودارين، والأنثى الخامسة هي بتلة زهرة عباد الشّمس. وعشرة ذكور أي بنسبة الضّعف كما نلاحظ، ستة كأفراد (الرّاوي، أكثم، محمّد، عبد الله، عمر، وبائع الحلوى وهو الجنين) وأربعة يشكّلون فريق كرة الشّاطئ. كلّ هؤلاء المختلفين من حيث الجنس والصّفة والوضعيّة الاجتماعيّة والأحلام والهوايات يشتركون في مصير واحد يتربّص بهم: هو الموت جرّاء الحرب، وما يليه من هجرة فرادى وجماعات إلى سماء القطاع عبر غيمة دائما ما تكون قريبة بانتظار أحدهم " لأنّهم في أيّ وقت قد يمتلكون غيمة" (17ص). ذلك أنّ كلّ الأرواح التي تسقط أرضا مضرّجة بدمائها "دائما تجد طريقها إلى السّماوات.( ص9). والموت هاهنا ليس فقط مصيرا موحّدا لجميع الشّخصيات الآن وغدا ومدى ما ظلّت فلسطين محتلّة. إنّه كذلك مصير الحكاية الأرضية ونقطة انغلاق خطّ السّرد الدّائريّ على ذاته: في السّطر الثاني من المقدّمة (ص5) نقرأ" يأتيها الموت في كلّ حين لأنّها تعشق الحريّة والحياة" وفي السّطر الأخير من الحكايات ( ص 104) ننهي القراءة بـ: "قتلوا انتظاري للفرح".

2) التثنية أو التقسيم الأفقي في الحكايات:

على غرار التقسيم التشكيلي للغلاف تمّ تقسيم الفضاء السّردي للحكايات إلى مستويين متوازيين: فوق- سماء / تحت –أرض

أمّا الفوق مكانيّا فهو سماء قطاع غزّة. فضاء للحلم والمرح والطفولة الأبديّة. مكان واسع لا يضيق بأحد من القادمين الجدد، مفتوح للحبّ والصّداقة والمشترك، فـ " أصحاب الغيمات مستمتعون جدّا باللعب، لا يتعبون ولا يملّون، ولا ينفكّون عن اختراع المزيد من الألعاب". لكنّه ليس نقيضا حدّيا للعالم الأوّل/ الأرض بل امتداد آخر له مخلوق من مادّة الضباب وطينة التخييل المرنة، يرتبط بالأسفل عبر سكّة عموديّة متينة مفتولة من نعومة القطن، يسير عليها قطار الغيم لكن في اتجاه واحد: من تحت إلى فوق محمّلا بأرواح الشهداء الصغار وبقايا عالمهم غير المكتمل. مظاهر كثيرة من الحياة اليومية الأرضية ارتفعت إلى السّماء كـ "الزّحام الشّديد" وترقيم الغيمات وتحوّلها إلى أحياء سكنيّة وشقق متجاورة سكّانها من الأطفال فقط: يقول الراوي: سمعت تصفيقا حارّا يصدر من مالكي الغيمات المنتشرة على امتداد سماء قطاع غزّة" ص63)  فضلا عن تحوّلها إلى مراكب تنقل الأطفال من مكان إلى آخر، وإلى وأراجيح وملاعب كرة ومنصّات للغناء والاحتفال وحلقات لرواية الحكايات الشّخصية والتعارف بين السّكان القدامى والقادمين الجدد، والمجال الزّمني هناك هو المطلق حيث يظلّ الطّفل أبدا طفلا يتجوّل حرّا وآمنا نفسيّا وجسديّا وسعيدا "لأنّه لا توجد انفجارات في السماوات" (ص53) ولا يعتريه ما يعتري الطفل السّاكن في العالم الموازي له، كلّما سأل محتجّا" ما علاقتي أنا بالحرب" يجيبه القصف. فأرض القطاع مكان منذور للموت والسّواد والحزن وبلا أفق للسعادة في سماء التوقّع، فليس سوى ألم الفقد المستمرّ على إيقاع الحروب المتتالية التي يشّنها العدوّ الصهيونيّ على غزّة مستهدفا المدنيين العُزّل وما يملكون: "استشهدت البيوت فلم تعد تملك سقفا للحبّ ولا حائطا لتعليق صور الأهل والخلاّن، اغتيلت البيوت فلم يعد هناك نوافذ للأمل بغد يرسمه الأولاد والبنات بكلّ الألوان"( 7ص). وزمن أرض القطاع هو اليوميّ الجريح والمروّع، الموقّع على أصوات الانفجارات وجنون القصف وموسيقى الساعات الجنائزيّة: "كانت إسرائيل قد بدأت بقتل العائلات المجتمعة معا" حكى محمّد نافخ البالونات. إنّ عالم الفلسطينيّ على الأرض غابة ظلماء تعجّ بالوحوش الآدميّة والذّئاب المسعورة. فمن هو الذّئب في حكايات هدى ثابت؟

لا تخلو أغلب القصص الموجّهة إلى الطفل وأوسعها انتشارا من الذّئب أكان في هيئته الطبيعية المباشرة كما في قصّة "ذات الرّداء الأحمر" أو قصّة "الذّئب والخراف السّبعة" مثلا لا حصرا، أو بصفته خطرا عائليّا كأن يكون زوجة أب غيور تكيد لابنة زوجها الجميلة وتحاول قتلها بطرق عدة (بيضاء الثّلج)، أو تحرّض زوجها على ترك صغاره نياما في الغابة لغرض التخلّص منهم (عقلة الإصبع)، أو قد تكون ساحرة شريرة تمسخ الأميرة بجعة (إخوة البجع) أو تحوّل الأمير إلى ضفدعة أو غول (جميلة والوحش)، وقد يكون رمزا للمخاطر الاجتماعية التي تهدّد الطفل في حياته كالاختطاف والحروب العالمية والأهليّة واليتم والتشرّد والتعصّب والعنصريّة وغير ذلك، وهذا الخطر/ الذّئب عنصر ضروريّ في القصّة فهو محرّك للأحداث، وبداية لمرحلة فقدان التوازن( امبرتو إيكو)، بظهوره يخرج السّرد من دائرة الهدوء النّمطي أو الاستقرار الذي يولّده الخير أو تشيعه الشّخصية الخيّرة إلى حيّز التوتر الدراميّ الباعث على التّصعيد والتّشويق من أجل تحفيز القارئ وتحريك سواكن الأسئلة لحثّه على المتابعة حتى النهاية.

في حكايات هدى ثابت حيث التباين بين عالمين سماويّ وأرضيّ، يختفي الذّئب كلّية في العالم الأول/ السماويّ ويحضر بشدّة مرعبة في العالم الثّاني، لا بصفته الرمزيّة أو التخييليّة الوظيفيّة، بل بما هو واقع مأساويّ معيش وحقيقة فظيعة. قطاع غزّة السّماويّ ليس غابة على أيّ معنى من المعاني التي سبق عرضها. ذلك أنّه عالم الثبات والهدوء التامّ والأبدية، "مكان آخر" " حيث في إمكان الطّفل أن يصطفي مملكته الشّخصيّة وأن يبني فيها يوما بعد يوم كلّ أحلام طفولته"( أناندا ديفي) وحيث كلّ شيء مثاليّ وتامّ ونهائيّ: الفرح والأمن والسّعادة واللعب والأمنيات. والطّفل هناك هو طفل أبدا، فمن مات سائق قطار أو بائع حلوى أو جنينا سيظلّ كذلك إلى أبد الآبدين مثلما ستظّل ياسمينة الدّبودوبة سمينة دائما. حتى المجتمع الغزّاويّ سيظلّ هو نفسه في السّماء، في مدن الغيم، يلتزم فيه أفراد المجتمع بعادات المجتمع الأرضيّة وقوانينه الدّاخليّة كأن تُفرد للمرأة مهن بعينها ويختصّ الرّجال بمهن أخرى هي خارج المنزل بالضّرورة. فنحن لا نلاحظ فقط هيمنة الذّكور في هذه الحكايات ( نسبة الشّخصيات من البنات هي النّصف مقارنة بعدد الأولاد، وهناك امرأة واحدة ذكرت في الحكاية الأولى " الراوي" " تعمل خارج المنزل، في المكتب الخاص بإحصاء السّكان في قطاع غزّة"، هي "السيّدة هدى" والبقيّة هنّ أمهات وربّات بيوت) بل نلاحظ ذلك كذلك في نوع المهن وخاصّيّة الطموحات التي يحلم بها الأطفال، فللأولاد: مهن وأحلام من قبيل: سائق قطار، صحفيّ، بائع بالونات( تاجر) لا عب كرة، موظّف في مركز الإحصاء بغزّة، وللبنات: الحلاقة، والرّسم والتهام الحلوى بشراهة.

في السّماء يكون السّرد بطيئا رغم ما بدا من حركيّة ظاهرية في الأحداث وتعدّدها وتعدّد الشّخصيات التي تجتمع هناك بعد أن كانت متفرّقة في الأرض. والبطء في تقديرنا ليس تقنية في القصّ بقدر ما هو واقع حال تفرضه "البيئة الجديدة" التي انتقلت إليها الشّخصية: فالمكان: مكان للمطلق والزّمان زمن المطلق والشّخصيات في اكتمالها النّهائيّ والأحداث هي نفسها في تكرّرها المستمرّ أبدا. والمجتمع مجتمع أطفال عُزلوا في مدن الغيم بعيدا عن النّجوم التي يسكنها الكبار فصاروا بذلك "مجموعة نوعيّة" مستقّلة بذاتها ومعزولة عن غيرها فيما يُشبه المستوطنة المغلقة على الغيم والضباب. فلا ذئب يجبر الخطى على الرّكض إذ لا غابة هناك، ولا مستذئب يهدّد الحياة إذ لا حياة بالمعنى المتعارف عليه في سماء القطاع، وبالتالي وعد بانعدام الحرب وأهوالها، ووعد كذلك بانتفاء المغامرة والشجار والعبث تحت المطر وفي الوحل وعلى الرّمال، وفي الحالين لن يكبر الطفل الفلسطيني ولن يغامر أو ينضج بفعل التجارب ولن يجد ما يقاومه أو ينمّي البعد البطولي في شخصّيته.. لقد حقّق سعادته القصوى بخروجه من الحياة الدنيا وحقّق أيضا سعادة الصّهيوني بالتخلّص منه وإلحاقه بالسّماء من أجل أن ينعم طفله هو وحده بالأرض أرض فلسطين. كلّ ما على الطفل الفلسطينيّ، على ما لاحظنا في هذه الحكايات، هو أن يحلم بأن يغادر الأرض سريعا ليكون هناك خاليا من الواجبات والهموم والمخاطر جميعها منشغلا بحلمه الصّغير الذي لن يكبر.

بالمقابل قطاع غزّة الأرضيّ عالم متسارع يركض على إيقاع الحرب المتسارع، غابة ظلماء تعجّ بالذّئاب والمستذئبين وتحيط بها الوحوش المفترسة من كلّ صوب. كبيرة الذّئاب هاهنا هي الحرب. حرب الكيان الاسرائيليّ المحتل على غزّة. هي الغولة بعينها. تقول أريج: "قامت الغولة بصبّ شلال من الموت العنيف على بابا وعربته"، وهي الشرّ المستطير:" يشمّر عن ساقيه القبيحتين وينهال عليها ضربا وركلا ورفسا ثمّ يقوم بتكويم الرّكام على وجهها الجميل" (ص 5). وهي " ظفر الشّيطان اللعين" كلّما حلّ " حصل الجميع على كسور وحروق وأطراف مبتورة" (ص20)، وهي المستوطن الهمجيّ يخوض حربه الفرديّة العبثية إزاء أطفال عُزّل ثم يُكرَم من قبل سلطة الاحتلال مثلما نقرأ في قصّة "فريق كرة الشّاطئ المحترف". في أرض القطاع "العنف المفرط أصعب من أن يوصف"،" كأنّ غزّة تحوّلت إلى دولة نوويّة تهدّد أمن إسرائيل (ص 35). إذ " حتى الخضراوات اختفت، يقول عمر، الخضراوات طيّبة وتخاف من الصّهاينة"(ص99). وأينما ولّى الطّفل الفلسطينيّ وجهه من أرض القطاع " كانت الحرب، كان الدّمار، وكان الموت. حرب دمّرت وأبادت وقتلت الجميع، جميع من في مربّعنا السّكنيّ." (ص14). مقابل كلّ هذا القتل المستفحل هل من شخصية منقذة في أفق هذا الطّفل؟ في الواقع الإجابة سريعة وجاهزة. لا. لا صيّاد يقتل الذّئب ويخرج الطّفل من بطنه المظلم، ولا خير ينقذه من براثن الشيّطان، لا أمير ولا جنيّة ولا صديق ولا زورو ولا بابا سنفور، إذ لا أمل في التخلّص من وحشيّة الحرب/ الغولة آكلة لحم البشر التي تبدو كما لو كانت أبديّة ولا نهاية لها في أفق التوقّع.. العزاء الوحيد هو أنّ أطفال غزّة سيرتفعون شهداء أحياء في مدن الغيم يُرزقون السعادة.

لقد تُرك الطّفل الفلسطينيّ وحيدا للموت والهلاك. تُرك لشرشبيل يصرخ على الدّوام في السنافر الصّغيرة " أنا أكره السنافر، سأنتقم منكم ولو كان ذلك آخر يوم في حياتي"، بل لم يُمنح في هذه الحكايات ولو على سبيل التخييل فرصة للمغامرة والنضال والمقاومة والأعمال البطوليّة على غرار ما يجول في مخيلة كلّ طفل وما هو عليه في حقيقة الأمر أيّا كانت ظروف معيشه. وحدها الغيمات كانت قريبة منه وجاهزة لحظة يسقط لترتفع به إلى السّماء" حيث تبدأ هناك (فقط) حياة نظيفة خالية من الاستهتار والحمق."( قصة رائحة في السّماء)، ووحده مشروع الكاتبة المعلن عنه في المقدّمة، هو الذي طغى وهيمن: الكتابة عن الأطفال القتلى. كلّ الأحلام قُتلت في الواقع كما في الحكاية الأرضيّة. في الصّورة المرافقة لحكاية" فريق كرة الشّاطئ" نقرأ ما يلي: كنّا سنبهر العالم بمهاراتنا لكنّهم فضلوا منظر أشلائنا". الكاتبة أيضا فيما بدا لنا لفرط ما روّعها منظر الأشلاء ولشدّة حرصها على إسماع العالم الآخر/ الغربيّ صوت هذه الصرخات والآلام، "فضّلت " بوعي أو دونه الكتابة عن الأشلاء بدل الكتابة عن عرق الحياة النّابض فيها. يشغلها فيما تكتب عادة وتنجز من مشاريع تربوية وتعليمية الجانب التربويّ، وهي هنا سعت إلى تخفيف وطأة الموت على الطفل بتزيين فكرة الشّهادة التي ستنقله من عالم البؤس والشقاء والجحيم/ عالم الأرض الفلسطينية والحياة الدّنيا فيها إلى عالم الخير والنعيم والجنّة/ عالم السّماء- سماء القطاع.

***

بسمة الشوالي- تونس.

في المثقف اليوم