قراءات نقدية

أنطوان القزي: يحيى السماوي في ديوانه "التحليق بأجنحة من حجر"

يُدفئ الصقيع بنهدات العشاق

ويحمل النحلة إلى ثغر القفير

كم داهمتني بنات النسيم وأنا أطلّ على حديقة الضوء في خميله. وكم  أسدلتِ الأقباس أكواباً من لدن خوابيه الموسومة بالعطر.

ليس بالأرياش يطير، ولا بشذى النسائم يسافر، ولا بغبار الضوء يعلو، بل يحلق بأجنحة من حجر، هو الشاعر الساحر الذي حوّل الحروف همساً رقيقاً وجنحاً مرفرفاً وآهاً أرقً من قبلة الندى.

إنه يحيى السماوي، بغنج قصائدة وعمق مواجده وعشق عصافيره المزرورة على مدّ الفصول.

ينثر البخور يعجنه خبزاً للشقائق وريقاً للعنادل.

هو الهديل المخضّب بالشوق والإنتظار، هو المكان الذي يغادر مكانه ليحترق في صفاء العاشقين.

هنا أبسط راحي، وهناك أشق صدري، وهنالك أكحل عيوني وأنا أعبر بساتين يحيى السماوي وأرتوي من نمير دلفته الرمضاء..

نحّات مجنون يغربل رماد الغيم ليزرع نثاره على أهداب بابل.

يكشف إزار القريحة، يعرّيها، يعلّقها مزاراً لأهل الفتون ويرود أقاليم القحط ليشفي ظمأ السنابل.

يدلفُ الى المحابر بريشة عبقري، يصلب العناوين محجاً لتبقى أقواسَ قزحٍ في سجل حضوره الذهبي.3659 yahya1

في الليل والنهار، في الفرح والألم، في القسوة واللين، في اللمس والصراخ، حلّقتُ معك يا صديقي بأجنحةٍ من حجر،  لأجدَها أخفَّ من رفة النسيم.

لا تتوانى النراجس عن إلتحاف رفيفك الريان: هناك يأسر الأفق خصال بنات الموج، وهناك تفرد الأسحار خيوطها على مرامح قصائدك العصماء.

وهناك تغزل عشتار جدائل النخيل ويبلل دجلة شفاه الفصول وتدلف النجيمات إلى هزيعها العاشق، وهناك يسبر يراع يحيى السماوي مناجم الحب على أبواب أوروك ويغرف من معين الحبق أسرار الشبق.

شاعر يسقي نجاواه من عطش الأقاح، يغرس ظلاله في غابات الدهشة و "يرعى إبلَ اللذة في سهوب الحضَر" ويغزل فساتين الفصول من جديل النراجس..ويدقّ أبواب العراق كلما لاحت سنونوة تبشّر بربيع الصابرين.

فارس ينسج بردته من عشب المسرّة ويلبس القفار عباءة خضراء.

يحيى السماوي ايها الجرح النازف بلسماً، يا ريق الغدير اللاهث خلف غزالة القلب في مرعى الحياة.

مع تفاحة الإثم الحلال، تثور شفار الظمأ في قوافيك وفي الطريق الى السماوة تلملم الشموس أحداقها، ويضرب الجنون موعداً مع آلهة سومر.

دعني يا صديقي أسكب أنفاسي و أغمر ما تبقّى في جداولك، دعني أسدل ستارة الغسق قبل أن يداهم الصبح حرمة الأحلام.

وحدك يا صديقي تؤم الصلاة في كل المواقيت، تؤنس الآلهة بصفو الكلام.. تتوضّأ الندى وتغرف من موائد النعم.

وحدك تهدي الشموع رقصة اليراعات، وتٌدفئ الصقيع بنهدات العشاق، والى فتيل قنديلك تهجع سكراتُ الهوى.

وحدك تحمل الفراشة الى عرش الورود، والنحلة الى ثغر القفير، لأنك وحدك تحلّق بأجنحة من حجر.

***

أنطوان القزي- رئيس تحرير "التلغراف"

سيدني / أستراليا

في المثقف اليوم