قراءات نقدية

نورالدين حنيف: ترْبِيبُ الكلام في سِفْرِ الْغرام

قراءة في زجلية للزجال المغربي يوسف أسكور

- تمهيد:

وجدتُ في هذه الزجلية المحلّقة شيئاً غريباً غرابةَ إدهاشٍ في عالم الشعر الباني أنساقَهُ داخلَ الإبداعِ اللّهجيّ باللسان اللّهْجِي. ويتعلّقُ الأمر بقصيدة الزجال المسفيوي (يوسف أسكور) النازح من جِدّة وجودةِ الكلام، الحامل لرسائل فنية إلى أهل الكلام، أنِ اقترِفوا الجمال في محاريب الجلالِ ولا تُهينوا الحرف العاميَّ بالزَّجِّ بهِ في لغطِ الكلام.

و الأمرُ هنا بائنٌ أن الزجال يوسف يدركُ عمقَ أن يكونَ المرءُ زجّالاً، كما يدركُ عقْمَ أن يتحاملَ المرءُ على الزجلِ في وهمِ تسطير جملتينِ أو ثلاثة تعيش سرابَ الشعرِ فيما الشعرُ منها براء...

القصيدةُ الزجلية اختارتْ لذاتِها عنواناً حاملاً للاعتراف الإبداعي والوجودي في جملة قويّة الرنين( أنا لي خنتْ لغْرامْ).

- مشاكسةُ العتبة:

و عادةً ما يكون فعل الخيانة مُسنداً إلى كائن بشرِيّ تتم خيانته أو تصدر منه الخيانة، لكن صياغة العنوان هنا انزاحتْ إلى تركيب عامر بالدلالة. (خنتْ لغرام) حيث وقع الفعل على مجرّدٍ هوالغرام. والمسألة أكبر من تصوّرنا المُعتقلِ داخل البداهَة التي ترى في الخيانة فعلاً مذموما وقبيحا ومرفوضاً من جهة الدين والقانون والقيم... وربّ قائل إن العبارةَ ( خنتْ لغرام) عبارة عادية ومستهلكة، أقول: إنها عبارة انزياحية غائرة في فنِّ الدلالة. فالخيانة المسندة إلى مخونٍ بشريّ قابلة أن تتحول إلى صلحٍ عبر تجاوزِ المخون زلّةَ الخائن، ولكن العبارة هنا ألحّتْ على إلصاق الفعل بالغرام. فأنتَ إن تمّتْ خيانتُك فلك أن تُعاقب أو تغفر. ولكن الشاعر الزجال يوسف ألقى بالأمر بين يدي الغرام الذي لا يغفر، ولا يتجاوز، لا لأنه بعيدٌ عن قيمِ الغفران والتغاضي والتجاوز وطيّ صفحة الماضي، ولكنْ لأنه كائنٌ مجرّدٌ يدخل في إطار القيمة، والقيمةُ تسجِّلُ الفعل في خاناتِ الذّاكرة وخاناتِ الزمان، ومن ثمّة فلا قِبلَ لنا بمحو ما تمّ فعلهُ واقترافهُ في حق الإنسان وفي حقّ القيمة. الأمر أكبرُ من سلوكٍ يمسّ طرفاً صدق في ظنّه وآخر خانَ الظن، الأمر تجريدي يلقي بظلاله الوارفة على كينونة تدركُ كم هو جليلٌ هذا الغرام، وكم هو صفيقٌ ظلمُ هذا الغرام.

- اشتغالُ الفضاء:

الزجل عالمٌ من الإبداعِ لا يقترفه إلا متمكّنٌ من المعنى ومن فائضِ المعنى، ومتمكنٌ من مغازلة اللهجةِ في تحليقها بعيداً عن لغة الخطاب اليومي. والقصيدة هنا حمّالةُ أوجه، ومن محمولاتها البديعة أن الشاعر الزجال يوسف لعب لعبة الفضاءات في تمرّدها عن المألوف. فقوله ( سدْ الخوفْ) استعارة تستحضرُ مكوّنَ البابِ في غيرِ ذكرٍ للباب. وهذا من مشوِّقات البناء اللهجي العامر بالجمال. فالخوفُ في منظور ومن منظور الزجال يوسف باب مفتوح على مصراعيْهِ، لا ينغلق أبداً إلا بقرارٍ شجاع. لأن الخوف ظاهرةٌ نفسيةٌ ولّادة، تستدعي الخوف المنتاسلَ في انثيالٍ مستمر إذا ما وجدتْ خائفاً ضعيفاً جدّا. والخوف هنا في سياق الزجلية أمرٌ عميقٌ لأسباب: منها أن المخاطب بإغلاق باب الخوف هو العشقُ لا المعشوق، وفي هذا التركيب نزوعٌ بديعٌ نحو رفض المتشيِّئِ في رسم دلالات الخطاب الزجلي اللهجي المسافرِ في غرابة الجمال.و هنا يحدثُ انسجامُ الفضاء (الباب) مع المخاطب ( العشق) مع الظاهرة (الخوف)... فتنتفي في العبارة أبعادُها المتشيِّئة لتحلّ محلّها الأبعادُ المجرّدة القابضة على فائضِ المعنى. فنكون أمام التأويل التالي:

لا وجود للخوف إذا حلّ العشق

و الدليلُ على افتراضنا هذا هو انسيابُ الكلام في السطر الثاني الذي يعضد البعد الفضائي في قول الشاعر (شْراجمْ السمعْ فِيَّ)... فالبابُ يستدعي النوافذ وهما يستدعيانِ معاً الفضاءَ المُختزلَ تعسُّفاً في تصورنا داخل غرفة أو ما شابه ذلك. لكنّ الأمر أبعد من هذا الاختزال، وأبعد من تسييجٍ بديهيٍّ للمعنى في إطار ضيق. وبالتالي فالذاتُ هي الفضاءُ لا الفضاء في مفهوم الحيّز والمكان. وهكذا الزجلُ عندما يلقي بظلالهِ الجمالية على الأجسادِ ويحولُها إلى فائضِ المعنى وإلى أبعد من فائضه. فالأصل في الكلام هو الكنايةُ لا العبارةُ المفضوحةُ في تلابيت المعنى.

- لعبة الأزمنة:

تشيرُ الزجلية فيما تشيرُ، إلى وجود الآخر مجسَّداً في الأنثى (رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ - وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل) متعيِّنَةٍ في مفردتيْ (ابنية وكاف المخاطبة في كلمة فْراقك). وهذا مدخلٌ دلاليٌّ يتحول من المكان (قفْزْ) إلى الزمان (مازالْ).و هذه إشارة قوية الحضور الإبداعي من الزجال يوسف، الذي يداعبُ فكرة الزمان في تشعّبِها الجميل الماضِي في تشعبه إلى نحوٍ منسجم أشدّ الانسجام، في اتّجاهِ التصريح بالمقولة في عموميتها الأبعادية (بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ) حيث تقرر الذات تفويضَ أمر هذه الأنثى إلى سلطان الزمان، طلباً للإنصاف والعدل.

و في هذه المحطة الدلالية وفي غيرها لا تهمّنا تيمات الحكي الزجلي بقدر ما تهمّنا طريقة صوغ الزجال يوسف لهذه التيمات. فالزمان هنا لا يحضر كبعد فيزيائي قابل للتحيز داخل فعل التحقيب، إنه انزياحٌ نفسيٌّ يتدرّجُ من حالة عائمة (مازالْ) إلى حالةٍ مقولية (الزمان) إلى حالةٍ جزئية (الليل) إلى حالة الديمومة الواخزة (ليّامْ)... هذه الأخيرة صرّح فيها الشاعرُ وبطريقة سيميائية قاهرة عن أوج الاعتمال الضارب في نفسه مضرب الأثر الباقي بقاءً وجوديا يكادُ يتاخم الأزل، وعبارة الوشم أشدّ تدليلاً وبرهنة. قال الشاعر (‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا - ‏مازال كتزورني في كل حلمة).

- في الصوغ الزجلي:

اختار الزجالُ يوسف أسكور الإبداعَ على صهوةِ اللهجة المحليّة، على اعتبار أنها صهوةٌ قادرة على استيعاب الذاتِ والموضوعِ في تجلّياتهما المفارِقة. وهي اللهجةُ الماتِحَةُ أصولَها من قلبِ (المرڭد العبْدي) في توجّهٍ إرْساليٍّ لا يُغرِقُ في المحليةِ ولا يجرى خلفَ المفرداتِ الغابرة في ترابِ الحزام الجغرافي الضيق. إنه شاعر يدركُ بعمقٍ رسالة الزجل، لهذا وجدناهُ ينتقي من اللهجةِ ما يتسمُ ببعض الشمولية في الخطاب، حيثُ يكادُ الوجديُّ والحسّاني وابن الشاوية وأهل الشمال والجنوب التفاعلَ مع منطوق الزجلية التي تمثل الشجرة وهي تُخفي غابة زجله قاطبةً...

من هنا عبقرية الزجل حين يُطوّعُ اللغةَ لا حين يأسرُ ذاتَه في اللغة. ومثال صاحبنا يوسف ينطق واضحاً ببعض رسالات الزجل في توجّهٍ يوسّع من رقعة التفاعل والانتشار.

و ربّ قائلٍ إن الزجال هنا يبسّطُ البناء اللهجي، ويُخشَى عليهِ من السقوط في الابتذال. نقول: إن الصوغَ هنا أبعد ما يكون عن السهل المتناول والذي يُبيحُ ذاتَه للقارئِ في مجانية خاوية. الزجالُ يوسف من الشعراء القلائل الذين يمتلكون القدرة على بناء القصيدة داخل السهل الممتنع، امتناعاً طافحاً بالشاعرية أو بالشِّعرية، أي عامراً بأدبية النص وأيضا باستيطيقا النص. من هنا نسلتْ انزياحات القصيدة الزجلية هادئةً وعميقةً وناطقةً خارج البداهة والرتابة والمألوف.

و الأمثلة وافرة هنا بحيث لا يخلو سطرٌ زجليٌّ من انزياحٍ ذكي يمكر بأذنِ المتلقي في احترامٍ جليٍّ لأبعاد العبارة ودلالاتها الماسكة بالمعنى وفائض المعنى على حدٍّ سواء.

خذ مثلاً قوله: سد الخوف – شْراجم السمع – قفز الخاطر – الهمّْ الحاتلْ – بعْتكْ – خنجر الشمتة... ولو تتبعنا هذه الانزياحات لوصلنا إلى حقيقةٍ أدبية هي أن الزجليةَ في كلّها وجلّها انزياحٌ كبير، حمّالٌ لكثير من الجمال:

- قفز الخاطر: انزياحٌ دالٌّ على ضيق الخاطر عبر اختيار فضاء استيعابٍ هو (القفز\القفص) الذي لا يتسع لطائر في حجم قبضة اليد. والشاعر هنا قد حوّل الفونيتيك الثاوي في صوت الصاد إلى فونيتيك الزايْ، في اختيارٍ ذكي للعلامة الصوتية القابعة في الوجدان الشعبي المغربي وهي التي تعبّر بشكل قويّ وواضح عن المعنى أكثر من الصاد، وتمارس تأثيرها المناسب الزجلي على المتلقي.

- خنجر الشمتة: وتبدو في العبارة آثارُ الطعنة من خلال ربط المسند (الخنجر) إلى المسند إليه (الشمتة) في توجّهٍ انزياحي بياني يستفيد من مسافةِ التوتّر الحاصلة بين محسوس هو (الخنجر) ومجرد هو (الشمتة) حيث يلتقيان في برزخ التصور الفنيّ للشاعر. فالزجالُ يوسف ردمَ المسافة بين المسند والمسند إليه في وعيٍ فنيّ يقتضي المضيَّ بالقارئ والمتلقي إلى أبعد حدود الإحساس بحالة الغبن أو (الشمتة) فاختار هذا الانزياح الماكر بآذاننا وهو يهدم المسافة الماهياتية بين مختلفين ويلقي بهما في إطارِ تجانسٍ أدبي موسوم بالبناء الزجلي الجميل. فكانت العبارة أشدّ تعبيراً عن إحساسنا ب(الشمتة).

- ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة: يُظهرهذا الانزياحُ كم هو ماكرٌ هذا الزجالُ يوسف بذائقتِنا مكراً أدبياً مشروعاً يمضي بالإدهاش الصوغيّ الزجليّ أيما مذهب. فمفردة (خيالك) تعوّضُ مفردة (وجودك) وهنا لعبةُ الاستبدال الدلالي على محور الاختيار في استنطاقٍ سيميائي غير مقصود من الشاعر ومقصود من جهتنا داخل الحق الأدبيّ في التأويل. فحضور المعشوقة جسداً هو أمر مألوف في التعبير الشعري، ولكن حضورها خيالاً فأمرٌ طريفٌ لا من باب الاستعمال المشترك الذي طبخه الشعراء طبخاً، ولكن من باب قوة الخيال في ممارسة الضغط على الذات المتكلمة. والخيال هنا حاضر في الفعل وفي القوة (يمشطها) والهاء تعود على الحلمة أو الأحلام في السطر الزجلي السابق. وبماذا يمشط الخيال أحلامَ الذات؟ إنه يمشطها بمادة زئبقية التجلي في المعنى. وإذا طرح الزجال يوسف العبارة في مفردة (بريق) المكونة من حرف جر هو (ب) واسم مجرور هو (ريق) أي الرضاب واللعاب النازح من ثغر المعشوقة، فلنا نحن القراء تأويلات أخرى في مضمار الانزياح المتعدد، بدلالتيْن أو أكثر، منها دلالة اللفظة على البرق في جهة التصغير (بْرَيّقْ) فيكون المعنى أو فائضه دالاًّ على لمعان الكلمة من ثغر المعشوقة. ومنها دلالة اللفظة على الإناء في حالة التصغير (إبريق – بْريّقْ) فيكون المعنى أن ثغر الحبيبة سائلٌ بإدهاش الكلمات مثل إبريق حليب... 

و لو تتبعنا تراكم هذه الانزياحات في جماليتها الدالّة لما أسعفنا مقام هذه الصفحات، وحسبنا من ذلك التمثيلُ لبلاغة الزجلية المسافرة في الجمال، لا حصر مظاهره المتعددة والمتنوعة.

و مما يضفي هالاتِ الجمالِ على القصيدة انسيابُها داخل إطار صوتيٍّ مُمَوسقٍ مثيرٍ وأخّاذ. ومن مظاهر هذا المستوى الصوتي نذكر وحدة الأروية في مثال: (باطل – حاتل – قاتل) ومثال (ابنيّة – النيّة) ومثال (دْموعْ – رْجوعْ – الطّوعْ) ... مما يضفي على الزجلية إيقاعاً آسراً لأذن المتلقي أسراً جليلاً يستدعي فيه تشنيفاً، وفوق التشنيف إدراكاً للمقصود في المعنى والدلالة.

- ختمٌ:

الشاعر الزجال يوسف أسكور أكبر من أن نختزل إبداعه في عبور قِرائيٍّ يقارب جانباً من عالمه الإبداعيّ، وقد نكون جانبْنا صواباً في إغفالِنا بغير قصدٍ جزءاً مما يمكن أن يكونَ أساساً في القصيدة، وشفيعُنا في هذا وذاك أننا ناوشْنا الزجلية وشاكسناها في انتظار قراءة أخرى أشدّ إحاطة بعالمٍ هيولانيٍّ وجميلٍ في حجم إبداع هذا الزجال المختلف.

***

بقلم نورالدين حنيف أبوشامة

................................

المتن الزجلي:

انا لي خنت لغرام

...

سد الخوف ياعشقي

شراجم السمع فيَّ

وخلا السكات يشهد باطل

رَبِّيتكْ في قفز الخاطر ابْنِيَةْ

وهَمْ فراقك مازال فيَّ حاتل

بعتك لحر الزمان بالنِيَّةْ

وخنجر الشمتة سَمُّو كان قاتل

ياعمري

ياعمري

قلة عقلي دَوْبَتْ عنايتي

في تالي الليل ادموع

تهت في ادبال دروبو

ونسيت طريق الرجوع

عشقت لهبال وحروفو

عاندني ما اعطاني الطوع

 ياعمري

 ‏ديك ليام الواشمة فيها شوفتنا

 ‏مازال كتزورني في كل حلمة

 ‏انا نگول غير زغبة من لحلام

 ‏وخيالك يمشطها بريق الكلمة

 ‏ضفيرة وطوالت لحد لحزام

ؤ مقص لفياق من جناب مضمة ..

قطعها واقطع انعاسي .

خلاني وحدي نقاسي

نبكي ونگول

انا لي خنت لغرام

انا لي خنت  لغرام

يوسف أسكور

***

في المثقف اليوم